إلا أننا لم نكن لتصدق بأن العصفور سيكون حقيقياً. فماذا يمكن أن يفعل طفل صغير بعصفور حقيقي؟ وفي لحظات تمزقت الورقة الملونة ورمى حسان بنفسه فوق القفص وضمه بإحكام بين ذراعيه وصدره ثم هتف بصوت مستثار: - إنه حسون. ولم يكن قد تيسر لنا بعد أن نرى القفص والحسون بوضوح ذلك أن حسان كان مستثاراً وكان خداه قد توردا وأخذت عيناه تلتمعان فيما كان يدور في أرجاء الغرفة دون أن يعرف ماذا يتعين عليه أن يفعل. وكان سقف القفص قد جعل كالهرم وبدت أسياخ الحديد جديدة ومتقنة النصب. فيه الشيء الكثير من البطولة. وإنه بجسمه - ممن؟ - منك. وأخذ حسان يحدق مهموماً إلى الحسون محاولاً أن يكشف بنفسه سبب خوف الطائر المذعور منه ولحظت أن وجهه قد تمسح بشيء من الندم المحير الذي ينتاب طفلاً لا يعرف كيف يجبر الأشياء على التعاطف معه، ألست ترى؟ انظر إليه كيف يشم الأسياخ باعتناء. و نظرنا معاً إلى الحسّون المتنقل بلا هوادة بين الجدران أنه يتعرف إلى الأشياء. فهو إن ذلك يتضح من سرعة حركاته. وعدنا نتطلع إلى الحسون الصغير وهو يرتد من جدار حديد وطوال ذلك الوقت يدأب على دراسته والتعرف إليه محاولاً، في الوقت ذاته، وفي الليل. ولكن عينيه سوف تبقیان مفتوحتين لتراقبا كل شيء. ولذلك فقد غادر الغرفة دون أن يكمل الاستماع. إذ إنه سيواصل الاطمئنان على عصفوره كلما تحرك العصفور أو كلما تحرك في نومه. وطوال الأيام الخمسة التالية ملأ الحسون حياة حسان بتواصل: وكان قد استدعى عدداً من رفاقه لمشاهدة الطائر الذي يتوقف لحظة عن الطيران من أجل أن يشم أسياخ القفص ويتعرف إلى منافذه وأركانه. وكما يفعل كل طفل. إلا إنه بقي غير مقتنع تماماً بأن الطائر المذعور إنما يتعرف إلى بيته الجديد. تلك الشكوك والهواجس لأخيه الأكبر. وفي مرة سألني: طيب لو فتحت باب القفص بعد ثلاثة أشهر وتركت الحسون يطير فهل يعود إلى القفص؟ وحين قلت ذلك لأخي الأكبر انتهرني: إنه يتعرف إلى القفص فقط ليطيق العيش فيه فمن العبث أن نمضي بالقصة إلى أبعد مما ترتسم في رأسه الصغير، مليون عصفور من القماش والبلاستيك أضحت الآن أقل من أن تعوض ذلك الحسون اللعين. ماذا سماه؟ - ماذا؟! وفي اليوم التالي قال لي حسّان أنه يريد نقوداً ليشتري . قفصاً أكبر للحسون. على الرغم من أنه أعطى الحسون وشرحت له بأن عليه أن يحتوي الطائر الصغير بين كفيه دون أن يضغط كثيراً خوف أن يقتله ودون أن يرخي الراحتين كثيراً خوف أن يهرب. - معنى ذلك أنك ضغطت عليه كثيراً. - وإذا هرب؟ تكون قد أرخيت راحتيك كثيراً. ونظر إلي دون أن يفهم ولكنه كان على استعداد لينقل الطائر بأي شكل. ولم يشك حين أطبق الحسون بمنقاره فوق جلد راحته. إلا إن أخي الأكبر الذي استمع بصبر إلى ذلك كله، - لماذا؟ ثم حاول أن يستأنف الأكل إلا إنه عاد فوضع الملعقة إلى جانب الصحن وأخذ ينظر إلي. فقد يروقه البيت الجديد فيتعرف إليه بأسرع مما وكان حسان ينظر التالية بلع أخي الكبير لقمته ومضى بفكرته إلى مداها: اللحظة وها أنت ذا تشتري له قفصاً جديداً بعد شهر. وقبل أن يكمل زحزح حسان كرسيه واستدار عائداً إلى غرفته دون أن ينبس بكلمة. وقبل أن ينفجر قربت فمي من إذنه وسألته هامساً: ما بك؟ وقد كنت أتوقع بالضبط كل الذي سيحدث: وقف حسّان جدلاً وقد احمر وجهه ثم أنشأ ينظر إلي بعينيه الواسعتين، فابتسمت فيما امتلأ وجهه بضحكة نادرة. خطواته الصغيرة ويرتد صداه على جدران الممر: