رَضَخَ زَوجي بَعد طولِ صِراعٍ أن يَستَدينَ لِنُسافِرَ هذا الصَّيفَ. أَخذتُ نَفَسًا عَميقًا وَأنا داخلَ مَعرَكَـةٍ جَديدةٍ أعرِفُ نَتائِجَها سَلَفًا. كُنتُ خائفَـةً أن تَشمَتَ بي جاراتي وصَديقاتي حينَ يُلغي زَوجي فِكرَةَ السَّفَرِ مِن أَجِندَتِـهِ. - هَلْ سافَرَت إحداكُنَّ إلى بَلجيكا أو ماليزيا؟ مُحتارَةٌ بَينهُما؟ كانَ يَومًا كَسيفًا حينَ جاءَت وَهي تَتَباهى بِالطَّقمِ وَتَتَعَمَّدُ بِمناسَبَـةٍ أو دونَها إسقاطَ الشّيلَـةِ والعَباءَةِ ليَظهَرَ الطَّقمُ مُتَرَبِّعًا على صَدرِها المَكشوفِ أكثَرَ مِنَ اللّازمِ. كيفَ أرُدُّ الصّاعَ صاعَينِ؟ لَو اشتَرَيتُ طَقمًا مِثلَها سَتَقولُ غارَت وَقلَّدَتْني؟. لا بُدَّ أن تَكونَ ضَربَتي شَيئًا مُختَلِفًا وَغَيرَ مَعهودٍ بِالنِّسبَـةِ لِهؤلاءِ النِّسوَةِ الثَّرثاراتِ. - مِن أينَ ياحَسرَتي؟ وانبَسَطَت قِلاعُـهُ وَحُصونُـهُ المَنيعَـةُ أمامَ هَديريَ الكاسِحِ الّذي دَأَبتُ عَليــهِ لَيلَ نَهارَ، ولكنَّ الّذي حَصَلَ أنَّـهُ رَفَعَ الرّاياتِ البَيضَ والحُمرَ وكلَّ الألوانِ، لا أصَدِّقُ نَفسي!! كَم كُنتُ أَحلُمُ بِالسَّفَرِ البَعيدِ والتِّجوالِ حَولَ العالَمِ. أُشاهِدُ (دانيةَ الخَطيبِ) وقافِلَتَها في رِحلاتِها المُختَلِفَـةِ فَأعَضُّ أنامِلي قَهرًا وغيظًا، لماذا لاتَتَحقّقُ أَحلامُنا الكَثيرةُ؟ مُنذُ وَعَيتُ عَلى الدُّنيا وَأحلامي مَسروقَـةٌ أو مبتورَةٌ. تَخَيَّلتُ زَوجَ المُستَقبَلِ غَنيًّا سَيَحمِلُني على كُفوفِ الرّاحَـةِ فَإذا أنا خادِمَـةٌ في بَيتِ أبيـهِ الكَبيرِ. رَضيتُ بـهِ وَأرَدْتُـهُ زَوجًا يَصنعُ مِنَ المُتَعِ الصَّغيرَةِ أفراحًا كَبيرةً فَإذا بِهِ لايَعرِفُ شَرقَ الأرضِ مِن غَربِها. - سَعيدَةٌ ياحَبيبَتي؟ لَم أَكنْ أَرغَبُ في إشعارِهِ بِأنّـهُ حَقَّقَ مُعجِزَةً. لم يَرغَبْ مَزاجي الرّائِقُ في فَكِّ رُموزِها كَعادَتي مَعَـهُ. ما أجملَ السُّحُبَ البَيضاءَ! تَبدو كَنُتَفِ القُطنِ النّاعِمَـةِ. هَل نَحنُ فِعلًا مُعَلَّقونَ بَينَ سَماءٍ وَأرضٍ؟! كُنتُ كالبَلهاءِ أُصَوِّرُ كلَّ شَيءٍ، - كَم مَضى مِنَ الوَقتِ؟ سَألتُـهُ مُتَلَهِّفَـةً. - ثلاثُ ساعاتٍ وأكثرُ. تَتَباهى بِجَمالِها الأخّاذِ وَطولِها الفارِعِ، خَطَفَت مَن مالَ لَـهُ قَلبي مُنذُ صِغَري. مِن أَخواتِهِم وَأمَّهاتِهِمُ الدّاخِلاتِ والخارِجاتِ مِن بَيتِهِمُ الكَبيرِ. حتّى زَوجي لَم يُظهِرْ أيَّ شُعورٍ بِنَشوَةِ الانتِصارِ، بِأنَّـهُ فازَ بي مِن دونِ شَبابِ الحَيِّ، وأنَّـهُ استَحقَّني بِجدارَةٍ كَما فَعلَ زَوجُ (عَلياءَ)، لَو كانَ فَعَلَها لَما جَعَلتُها نِدًّا لي في عَقلي وَحَياتي. كانَت تَتَعَمَّدُ زيارَتي دائمًا لإغاظَتي والنِّكايَـةِ بي. طَلَبَ إلينا رَبطَ الأحزِمَـةِ فَهُناكَ مَطَبّاتٌ هَوائيَّـةٌ. - هَل نَحنُ نَسيرُ في الشّارِعِ؟ مِن أينَ جاءَت هذهِ المَطَبّاتُ؟ ورَأيتُ المُضيفاتِ يَتَراكَضنَ لِتَهدِئَـةِ الأطفالِ الّذينَ شَرعوا في البُكاءِ. عادَ صَوتُ قائِدِ الطّائِرَةِ يَدعونا للتَّمَسُّكِ جَيِّدًا. الرَّجُلُ الّذي يَجلِسُ أمامي بَدَأَ يَقرَأُ سورَةَ البَقَرَةِ مِن مُصحَفِـهِ. بعضُ الرُّكّابِ بَدَؤوا يُسَمّونَ وَيُحَوقِلونَ . وَزَوجي يُرَدِّدُ الشَّهادَتَينِ وَيَقرَأُ آيـةَ الكُرسيِّ. اهتَزَّتِ الطّائِرَةُ اهتزازًا أقوى مِنَ المَرَّةِ السّابِقَـةِ. وَنحنُ الآنَ بَينَ سماءٍ وَأرضٍ في عُلبةٍ حَديديَّةٍ. تَتَمايَلُ كَسَفينَةٍ وَرَقيَّةٍ في بِركَةِ ماءٍ. رَكِبَ الخَوفُ صَدري والتَصَقَ بِضُلوعي. ماذا لَو؟ ماذا لَو كانَ هذا آخرُ المَطافِ؟ طارَ لَونُ وَجهي، قَرَأتُ الخَوفَ والذُّعرَ عَلى وَجـهِ زَوجيَ الّذي أَمسَكَ بيَدي، أَمسَكَ بيَ الذُّعرُ وَقَلَّبَني كَيفَ شاءَ. لَيتَني ماتَكاسَلتُ عَن صَلاةِ الفَجرِ حتّى خَرَجَ وَقتُها. يَقولونَ إنَّ روحَ المَيْتِ المَدينِ لاتَصعَدُ إلى سَماءِ رَبِّها، فَدُيونُـهُ تُكَبِّلُـهُ وَتُقَيِّدُهُ حَتّى لَو كانِ شَهيدًا. واحتَمَلَ سَلاطَـةَ لِساني وَقِلَّـةَ عَقلي. وَفَعَلَ مِثلَ مافَعَلَ أبي بِأُمّي حينَ عانَدَتْـه، تَذَكَّرتُ يومَ نَهَرتُ جارَتَنا الأرمَلَـةَ وَوَصَمتُها بأقبَحِ الصِّفاتِ حينَ جاءَت تَطلُبُ مُساعَدَةً مِن زَوجي. «مَنْ كانَ آخرُ كلامِـهِ لا إلهَ إ لّا اللّـهُ دَخَلَ الجَنَّـةَ » هَل سَأدخُلُها؟ وَذُنوبي؟! وَأفكاري الشّيطانيَّـةُ؟! سَمِعتُ خَطيبَ الجُمُعَـةِ يَقولُ: إنَّ رَحمَـةَ اللّـهِ واسِعَـةٌ. السَّيِّدَةُ الّتي تَقبَعُ خَلْفي أَقسَمَتْ أ لّا تَركَبَ طائِرَةً أبَدًا. كانَ خائِفًا عَليَّ وَظَلَّ يَرْقيني بِآياتِ اللّـهِ وَيُهَدِّئُ مِن رَوعي. لا يَزالُ بَعضُ القَلَقِ والخَوفِ يَسري في أَوصالي. وُصولُنا لِماليزيا سَيَكونُ في السّاعَـةِ السّادِسَـةِ صَباحًا. أَخَذَت عَجلاتُها تَنزَلِقُ عَلى أرضِ المُدَرَّجِ الواسِعِ حتّى استَقَرَّت. كُنتُ أَسبِقُ زَوجي في النُّزولِ وَمُعانَقَـةِ هَواءِ المَدينَـةِ الغافيَـةِ في مِثلِ هذا الصَّباحِ النَّظيفِ. انتَقَلنا بِواسِطَـةِ القِطارِ لِلجِهَـةِ الثّانيـةِ مِن المَطارِ. كانَت عَينايَ تَجوبانِ المَكانَ شَمالًا وَجَنوبًا بَحثًا عَن غايتي. انطَلَقتُ نَحوَ كَبينَـةِ الهاتِفِ العُموميِّ. كانَ اللّـهُ في عَونِكُم وأنتُم تَتَلَظَّونَ في الحَرِّ. كانَت رِحلَـةً مُمتِعَةً.