مسألة: [القولُ في رافع المبتدأ ورافع الخبر] 1 ذهب الكوفيون إلى أن المبتدأ يرفع الخبر، وذهب البصريون إلى أن المبتدأ يرتفع بالابتداء، وأما الخبر فاختلفوا فيه: فذهب قوم إلى أنه يرتفع بالابتداء وحده، وذهب آخرون إلى أنه يرتفع بالابتداء والمبتدأ معًا، وذهب آخرون إلى أنه يرتفع بالمبتدأ والمبتدأ يرتفع بالابتداء. أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إن المبتدأ يرتفع بالخبر والخبر يرتفع بالمبتدأ لأنَّا وجدنا المبتدأ لا بدّ له من خبر، ألا ترى أنك إذا قلت "زيد أخوك" لا يكون أحدهما كلامًا إلا بانضمام الآخر إليه؟ فلما كان كل واحد منهما لا ينفك عن الآخر ويقتضي صاحبه اقتضاءً واحدًا عمل كل واحد منهما في صاحبه مثل ما عمل صاحبه فيه؛ فلهذا قلنا: إنهما يترافعان، ولا يمتنع أن يكون كل واحد منهما عاملًا ومعمولًا، وقد جاء لذلك نظائر كثيرة، قال الله تعالى: {أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110] فنصب "أيَّا ما" بـ "تَدْعُوا"، وجزم "تدعوا" بـ "أيّا ما"، وقال تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ} [النساء: 78] فأينما منصوب بتكونوا وتكونوا مجزوم بأينما، وقال تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ} [البقرة: 115] إلى غير ذلك من المواضع 2، قالوا: ولا يجوز أن يقال أن المبتدأ يرتفع بالابتداء، لأنا نقول: الابتداء لا يخلو: إما أن يكون شيئًا من كلام العرب عند إظهاره، فإن كان شيئًا فلا يخلو من أن يكون اسمًا أو فعلًا أو أداة من حروف المعاني؛ فإن كان اسمًا فينبغي أن يكون قبله اسم يرفعه، وكذلك ما قبله إلى ما لا غاية له، وإن كان فعلًا فينبغي أن يقال زيد قائمًا كما يقال "حضر زيد قائمًا" وإن كان أداة فالأدوات لا ترفع الأسماء على هذا الحد. وإن كان غير شيء فالاسم لا يرفعه إلا رافع موجود غير معدوم، قالوا: ولا يجوز أن يقال إنا نعني بالابتداء التَّعَرِّي من العوامل اللفظية، لأنا نقول: إذا كان معنى الابتداء هو التعري من العوامل اللفظية فهو إذًا عبارة عن عدم العوامل، وعدم العوامل لا يكون عاملًا. والذي يدل على أن الابتداء لا يوجب الرفع أنَّا نجدهم يبتدئون بالمنصوبات والمسكنات والحروف، ولو كان ذلك مُوجبًا للرفع لوجب أن تكون مرفوعة، فلما لم يجب ذلك دلّ على أن الابتداء لا يكون موجبًا للرفع. وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إن العامل هو الابتداء وإن كان الابتداء هو التعري من العوامل اللفظية لأن العوامل في هذه الصناعة ليست مؤثرة حسية كالإحراق للنار والإغراق للماء والقطع للسيف، وإذا كانت العوامل في محلّ الإجماع إنما هي أمارات ودلالات فالأمارة والدلالة تكون بعدم شيء كما تكون بوجود شيء، ألا ترى أنه لو كان معك ثوبان وأردت أن تميز أحدهما من الآخر فصبغْتَ أحدهما وتركت صبغ الآخر لكان تَرْكُ صبغ أحدهما في التمييز بمنزله صبغ الآخر؟ فكذلك ههنا. وإذا ثبت أنه عامل في المبتدأ وجب أن يعمل في خبره، قياسًا على غيره من العوامل، نحو "كان" وأخواتها و"إن وأخواتها" و "ظننت" وأخواتها فإنها لما عملت في المبتدأ عملت في خبره فكذلك ههنا. وأما من ذهب إلى أن الابتداء والمبتدأ جميعا يعملان في الخبر فقالوا: لأنا وجدنا الخبر لا يقع إلا بعد الابتداء والمبتدأ؛ فوجب أن يكونا هما العاملين فيه، غير أن هذا القول وإن كان عليه كثير من البصريين إلا أنه لا يخلو من ضعف، فإضافة ما لا تأثير له إلى ما له تأثير لا تأثير له. والتحقيق فيه عندي أن يقال: إن الابتداء هو العامل في الخبر بواسطة المبتدأ؛ لأنه لا ينفكُّ عنه، فالابتداء يعمل في الخبر عند وجود المبتدأ، لا به، فالتسخين إنما حصل عند وجودهما، لأن التسخين إنما حصل بالنار وحدها، لأنه اسم، وأما مَنْ ذهب إلى أن الابتداء يعمل في المبتدأ، لأن الابتداء عامل معنوي، فلا يعمل في شيئين كالعامل اللفظي. وهذا أيضًا ضعيف؛ ألا ترى أن الخبر هو المبتدأ في المعنى، كقوله: "زيد قائم، وعمرو ذاهب" أو منزل منزلته، كقوله "زيد الشمسُ حُسْنًا، وعمرو الأسدُ شدةً" أي يتنزل منزلته، قال الله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} أي تتنزّل منزلتهن في الحرمة والتحريم؛ أو منزّلًا منزلته تنزل منزلة الوصف؛ لأن الوصف في المعنى هو الموصوف. ألا ترى أنك إذا قلت "قام زيدٌ العاقلُ، وذهب عمروٌ الظريفُ" أن العاقل في المعنى هو زيد، والظريف في المعنى هو عمرو؟ ولهذا لما تنزل الخبر منزلة الوصف كان تابعًا للمبتدأ في الرفع؛ كما تتبع الصفة الموصوف، سواء كان العامل قويًّا أو ضعيفًا، فكذلك ههنا. وأما قولهم "إن المبتدأ يعمل في الخبر" فسنذكر فساده في الجواب عن كلمات الكوفيين. أما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قولهم "إنهما يترافعان؛ لأن كل واحد منهما لا بُدّ له من الآخر ولا ينفكّ عنه" قلنا: الجواب عن هذا من وجهين: أحدهما: أن ما ذكرتموه يؤدِّي إلى محال، وإذا قلنا إنهما يترافعان وجب أن يكون كل واحد منهما قَبْلَ الآخر، وذلك مُحَال، وما يؤدي إلى المحال محال. والوجه الثاني: أن العامل في الشيء ما دام موجودًا لا يدخل عليه عامل غيره؛ فلما جاز أن يقال:"كان زيد أخاك، وإن 1/40) أحدها: أنا لا نسلّم أن الفعل بعد أيّا ما وأينما مجزوم بأيّا ما وأينما، وإنما هو مجزوم بإِنْ، وإن لم يعملا شيئًا. ولكن جاز أن يعمل كل واحد منهما في صاحبه لاختلاف عملهما، فجاز أن يجتمعا ويعمل كل واحد منهما في صاحبه، والوجه الثالث: إنما عمل كل واحد منهما في صاحبه لأنه عامل؛ فاستحق أن يعمل، وأما ههنا فلا خلاف أن المبتدأ والخبر نحو: "زيد أخوك" اسمان باقيان على أصلهما في الاسمية، والأصل في الأسماء أن لا عمل؛ فَبَانَ الفرقُ بينهما. وأما قولهم "إن الابتداء لا يخلو من أن يكون اسمًا أو فعلًا أو أداة إلى آخر ما قرروا "قلنا: قد بيّنا أن الابتداء عبارة [عن التَّعَرِّي] عن العوامل اللفظية. وقولهم "فإذا كان معنى الابتداء هو التعرّي عن العوامل اللفظية هو إذًا عبارة عن عدم العوامل، وعدم العوامل لا يكون عاملًا" قلنا: قد بيّنا وجه كونه عاملًا في دليلنا بما يغني عن الإعادة ههنا، على أن هذا يلزمكم في الفعل المضارع؛ فإنكم تقولون "يرتفع بتعرِّية من العوامل الناصبة والجازمة"، وإذا جاز لكم أن تجعلوا التعرّي عاملًا في الفعل المضارع جاز لنا أيضًا أن نجعل التعرّي عاملًا في الاسم المبتدأ. وحكي أنه اجتمع أبو عمر الجَرْمِي وأبو زكريا يحيى بن زياد الفَرَّاء، قال له الفراء: ما معنى الابتداء؟ قال: تَعْرِيته من العوامل، قال له الفراء: فأظهره، قال له الجرمي: هذا معنى لا يُظْهَر قال له الفراء: فمثله إذًا، فقال الجرمي: لا يتمثل، لا يُظْهَر ولا يتمثل! فقال له الجرمي: أخبرني عن قولهم: "زيد ضربته" لم رفعتم1 زيدًا؟ فقال: بالهاء العائدة على زيد، فقال الجرمي: الهاء اسم فكيف يرفع الاسم؟ فقال الفراء: نحن لا نبالي من هذا؛ فإنا نجعل كل واحد من الاسمين إذا قلت "زيد منطلق" رافعًا __________ 1 لعل أصل العبارة "بم رفعوا زيدًا؟ " وكذلك "بم رفعتم زيدًا؟ " 1/41) فكيف ترفع الاسم؟ فقال الفراء: لا نرفعه بالهاء، قال الجرمي: ما معنى العائد؟ قال الفراء: معنى لا يظهر، قال الجرمي: أظهره، لا يمكن إظهاره، قال الجرمي: فمثله، قال الجرمي: لقد وقعت فيما فَرَرْتَ منه. فحُكي أنه سئل الفراء بعد ذلك فقيل له: كيف وجدت الجرمي؟ فقال: وجدته آية، وسئل الجرمي، فقيل له: كيف وجدت الفراء؟ فقال: وجدته شيطانًا. وأما قولهم "إنا نجدهم يبتدئون بالمنصوبات والمسكنات والحروف ولو كان ذلك موجبًا للرفع لوجب أن تكون مرفوعة" قلنا: أما المنصوبات فإنها لا يتصور أن تكون مبتدأة؛ لأنها وإن كانت متقدمة في اللفظ إلا أنها متأخرة في التقدير؛ والمفعول لا بدّ أن يتقدمه عامل لفظًا أو تقديرًا، فلا تصح له رتبة الابتداء، وإذا كانت هذه المنصوبات متقدمة في اللفظ متأخرة التقدير لم يصح أن تكون مبتدأة؛ لأنه لا اعتبار بالتقديم إذا كان في تقدير التأخير، وأما المسكنات إذا ابتدئ بها فلا يخلو إما أن تقع مُقَدَّمة في اللفظ دون التقدير أو تقع مقدمة في اللفظ والتقدير: فإن وقعت متقدمة في اللفظ دون التقدير كان حكمها حكم المنصوبات؛ لأنها في تقدير التأخير. وإن وقعت متقدمة في اللفظ والتقدير فلا تخلو: إما أن تستحق الإعراب في أول وضعها، أو لا تستحق الإعراب في أول وضعها: فإن كانت تستحق الإعراب في أول وضعها نحو "مَن، وإنما لم يظهر في اللفظ لعلة عارضة منعت من ظهوره، وهي شَبَهُ الحرف1 أو تضمُّن معنى الحرف. وإن كانت لا تستحق الإعراب في أول وضعها -نحو الأفعال والحروف المبنية على السكون- فإنا لا نحكم على موضعها بالرفع بالابتداء؛ فلم يكن الابتداء موجبًا لها الرفع؛ لأنه نوع منه. وهذا هو الجواب عن قولهم: "إنهم يبتدئون بالحروف، فلو كان ذلك موجبًا للرفع لوجب أن تكون مرفوعة" وعدم عمله في محل لا يقبل العمل لا يدل على عدم عمله في محل يقبل العمل، __________ 1 المراد بشبه الحرف ههنا الشبه الوضعي،