يمكن اعتبار انتشار ثقافة الاستهلاك والماديات من أعظم التغيرات السلبية في مجتمعنا في السنوات الأخيرة، وقد اخترت في هذا المقال أن أتحدث عنها من خلال تتبع نشأة عملية الاستهلاك، وإنتاج الحرفيين واستيراد التجار مرتبطان بالحاجات الفعلية للناس، لكن العالم انتقل نقلة نوعية بعد عصر النهضة الأوروبية التي مهّدت للصناعة والرأسمالية، إذ يمكن لمصنع أن يُنتج في ساعة ماينتجه الحرفي في عشرات السنوات سابقا. التحدي الذي واجهه المنتجون هو: كيف نقنع المستهلك بشراء منتجنا وهو لايحتاجه حقيقة؟ والجواب بسيط وعميق: لابد من خلق شعور بالحاجة إلى هذه السلعة وتصعيد الرغبة فيها إلى الحد الذي يجعل المستهلك يقرر أن شراءها أمر لابد منه. ثم انتقلت نقلة نوعية بانتشار التلفزيون في المنازل في أواخر القرن العشرين، بدلا من كونها محصورة في المجتمعات الرأسمالية أو الطبقات المخملية في المجتمعات الأخرى. يعتمد فنّ التسويق على فهم نفسية الإنسان وكيفية التلاعب بها بإثارة رغبته في الحصول على سلعة ما، من أهم الأمور التي يعتمد عليها التسويق تأثّر الإنسان بالبيئة من حوله مهما كانت قوة قناعاته الداخلية، فمثلا قبل عدة سنوات كانت المرأة العاقلة حتى لوكانت غنية ميسورة لايمكنها أن تدفع آلاف الريالات لشراء حقيبة، ولا يمكن أن يوافق الأب العاقل على إقامة حفلة لابنه في فندق فخم لمجرد أنه تخرج من الروضة، فقد تم تنميط سلوكيات المجتمع وتحول الإسراف والاستهلاك لعادات راسخة يصعب اجتثاثها رغم تأذّي الجميع منها. يبدأ الأمر عادة بمجموعة صغيرة: نجوم التلفزيون أو السينما أو الأثرياء جدا، وهؤلاء بالذات -أعني عامة الناس- يسوّقون للشركات من جيوبهم الخاصة، ولاتمضي سنوات قليلة حتى يُعدي الأجربُ السليمَ، ولا تكاد تجد عاقلا إلا من رحم ربي. فهي حدثت أولا في المجتمعات الغربية التي تحكمها الأنظمة الرأسمالية وعلى رأسها: الولايات المتحدة الأمريكية، ومنهم الدكتور عبد الوهاب المسيري الذي وصف التسويق وإشاعة سلوك الاستهلاك بأنه (امبريالية نفسية) بمعنى استعمار نفسي، فهو يقول إن الاستعمار العسكري الذي يُنزِل الجيوش إلى الأرض بهدف نهب ثروات البلد قد ولّى عهده، وحلّ محلّه الاستعمار النفسي الذي يحتل عقل الإنسان ومشاعره ويجعله يهب ماله طوعًا للشركات، إن أبعاد الامبريالية النفسية أكثر عُمقًا وشمولا من الامبريالية العسكرية، ومزيدًا من المعنى إن هو صعّد استهلاكه (وقد عُرّفت التنمية والحداثة بأنها ثورة التوقعات المتزايدة)، وأن الإنسان أساسًا حيوان اقتصادي جسماني لايبحث إلا عن منفعته الاقتصادية ولذته الجسدية، وأن سلوكه لابد أن يصبح نمطيا حتى يمكن أن يستهلك السلع التي تنتجها خطوط التجميع، سأضرب في الفقرات التالية مثالا لخلق السلوك الاستهلاكي وهو مثال ( الاحتفالات والهدايا)، ويمكن للقارئ أن يقيس بناء عليها سلوكيات استهلاكية كثيرة كالهوس بالماركات، وعمليات التجميل وأدوات الزينة والملابس الفاخرة، و كل الكماليات التي أصبحنا نراها ضرورة وقد عاش أجدادنا آلاف السنوات بدونها. كما حثّ على الإهداء وقبول الهدية لأن ذلك مما يقرب القلوب لبعضها وينشر المحبة، لكن الثقافة الاستهلاكية قفزت بهذا الأمر الطبيعي الجميل إلى مستويات ظهر فيها الإسراف من وجهين: الأول هو إختراع المناسبات من العدم لمجرد الاحتفال، إختراع المناسبات من العدم لمجرد الاحتفال: الهدف منه حثّ المستهلك على الاستمرار في الشراء لضمان رواج السلع التي تقذفها المصانع كل يوم، فالمستهلك لايخرج من مناسبة إلا ليدخل في دوامة مناسبة أخرى، تستفيد الشركات استفادة عظمى من توزيع المناسبات المختلفة على مدار العام: يوم الحب، أو بمناسبة وصول عدد المتابعين لكذا…وهكذا قائمة طويلة لاحتفالات متقاربة جدا في زمنها، وقد سرى هذا الأمر لمجتمعنا فأصبحنا نسمع بدعا جديدة من الاحتفالات المستمرة لمناسبات تشعر أنها اختُلِقت اختلاقا لمجرد الاحتفال، الإسراف في مستوى الحفلات والهدايا: وهو أن الهدايا والحفلات أصبحت تتجه -سنة بعد أخرى- للبذخ والمبالغة، فالجميع يتوق لإعطاء واستقبال هدايا باهظة الثمن، تصوروا كيف يمكن لأب بدخل متوسط لديه خمس بنات مثلا، أن يلبي رغباتهن في الاشتراك مع صديقاتهن بحفلات فخمة، وقد سمّى المسيري المادية في الفكر الغربي بــ(الفردوس الأرضي) حيث يقوم الحُلُم الأمريكي على فكرة تحقيق السعادة الفردية المطلقة في هذه الدنيا، فالحياة المثالية تقوم على تحقيق النجاح الشخصي والثروة الطائلة وكل مايتمناه المرء من ماديات، حيث تخلى الإنسان الغربي عن فكرة الفردوس السماوي (الجنة) وقرر السعي للفردوس الأرضي في الدنيا. وقد يجرّ هذا لإرهاق المرأة أيضا بضرورة السعي لزيادة دخل أسرتها إضافة لأعبائها الأسرية، أو الرجل بضرورة البحث عن دخل إضافي لتلبية الحاجات المتزايدة، وإهمال الضروريات كشراء مسكن أو ادخار مبلغ لقادم الأيام. وتمتد للعلاقات الاجتماعية فتجعل تقييم المرء في المجتمع ومكانته قائمة على مستوى معيشته، فإذا لم يجد التقدير إلا بالمادة فسيبحث عنها ليضمن مكانته، لا تستسلم وتظن أن ثقافة الاستهلاك والماديّات حتمٌ لازمٌ ليس أمامنا إلا الاستسلام له أو الاكتفاء بالنقد الخافت. ولاعذر لإنسان في عصر المعرفة هذا أن يبقى جاهلا بأساليب التلاعب بوعيه ويرضخ لها، ويبدو ذلك في تنامي اتجاه التقليل أو مايسمى بـ minimalism وهي ثقافة جديدة آخذة في النمو هدفها الخروج من دائرة الاستهلاك، لابد أولا من إغلاق الصنبور والتخفف من متابعة الحسابات التي تشجع على الاستهلاك وتزيد التعلق بالدنيا وزينتها، كتلاوة القرآن وقراءة حديث النبي صلى الله عليه وسلم، إن وقتا طويلا يضيع مع وسائل التواصل التي تُضخّم جانب المادة في نفوسنا، ولنجعل شعارنا (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ ۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ۚ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ۚ )، كما أودّ أن ألفت الانتباه لسلوك قد يفعله المرء دون قصد إشاعة السلوك الاستهلاكي عند الناس، إن نشرك لصور الحفلات والهدايا والمشتريات الثمينة والماركات والسفر والمطاعم وكل ماشابه ذلك له أثر كبير على المتلقي، واعلم أن الله لايضيع عنده شيء ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7). يمكن اعتبار انتشار ثقافة الاستهلاك والماديات من أعظم التغيرات السلبية في مجتمعنا في السنوات الأخيرة، وإنتاج الحرفيين واستيراد التجار مرتبطان بالحاجات الفعلية للناس، لكن العالم انتقل نقلة نوعية بعد عصر النهضة الأوروبية التي مهّدت للصناعة والرأسمالية، إذ يمكن لمصنع أن يُنتج في ساعة ماينتجه الحرفي في عشرات السنوات سابقا. التحدي الذي واجهه المنتجون هو: كيف نقنع المستهلك بشراء منتجنا وهو لايحتاجه حقيقة؟ والجواب بسيط وعميق: لابد من خلق شعور بالحاجة إلى هذه السلعة وتصعيد الرغبة فيها إلى الحد الذي يجعل المستهلك يقرر أن شراءها أمر لابد منه. ثم انتقلت نقلة نوعية بانتشار التلفزيون في المنازل في أواخر القرن العشرين، بدلا من كونها محصورة في المجتمعات الرأسمالية أو الطبقات المخملية في المجتمعات الأخرى. يعتمد فنّ التسويق على فهم نفسية الإنسان وكيفية التلاعب بها بإثارة رغبته في الحصول على سلعة ما، من أهم الأمور التي يعتمد عليها التسويق تأثّر الإنسان بالبيئة من حوله مهما كانت قوة قناعاته الداخلية، فمثلا قبل عدة سنوات كانت المرأة العاقلة حتى لوكانت غنية ميسورة لايمكنها أن تدفع آلاف الريالات لشراء حقيبة، ولا يمكن أن يوافق الأب العاقل على إقامة حفلة لابنه في فندق فخم لمجرد أنه تخرج من الروضة، فقد تم تنميط سلوكيات المجتمع وتحول الإسراف والاستهلاك لعادات راسخة يصعب اجتثاثها رغم تأذّي الجميع منها. يبدأ الأمر عادة بمجموعة صغيرة: نجوم التلفزيون أو السينما أو الأثرياء جدا، وهؤلاء بالذات -أعني عامة الناس- يسوّقون للشركات من جيوبهم الخاصة، ولاتمضي سنوات قليلة حتى يُعدي الأجربُ السليمَ، ولا تكاد تجد عاقلا إلا من رحم ربي. فهي حدثت أولا في المجتمعات الغربية التي تحكمها الأنظمة الرأسمالية وعلى رأسها: الولايات المتحدة الأمريكية، ومنهم الدكتور عبد الوهاب المسيري الذي وصف التسويق وإشاعة سلوك الاستهلاك بأنه (امبريالية نفسية) بمعنى استعمار نفسي، فهو يقول إن الاستعمار العسكري الذي يُنزِل الجيوش إلى الأرض بهدف نهب ثروات البلد قد ولّى عهده، وحلّ محلّه الاستعمار النفسي الذي يحتل عقل الإنسان ومشاعره ويجعله يهب ماله طوعًا للشركات، إن أبعاد الامبريالية النفسية أكثر عُمقًا وشمولا من الامبريالية العسكرية، ومزيدًا من المعنى إن هو صعّد استهلاكه (وقد عُرّفت التنمية والحداثة بأنها ثورة التوقعات المتزايدة)، وأن الإنسان أساسًا حيوان اقتصادي جسماني لايبحث إلا عن منفعته الاقتصادية ولذته الجسدية، وأن سلوكه لابد أن يصبح نمطيا حتى يمكن أن يستهلك السلع التي تنتجها خطوط التجميع، سأضرب في الفقرات التالية مثالا لخلق السلوك الاستهلاكي وهو مثال ( الاحتفالات والهدايا)، ويمكن للقارئ أن يقيس بناء عليها سلوكيات استهلاكية كثيرة كالهوس بالماركات، وعمليات التجميل وأدوات الزينة والملابس الفاخرة، و كل الكماليات التي أصبحنا نراها ضرورة وقد عاش أجدادنا آلاف السنوات بدونها. كما حثّ على الإهداء وقبول الهدية لأن ذلك مما يقرب القلوب لبعضها وينشر المحبة، لكن الثقافة الاستهلاكية قفزت بهذا الأمر الطبيعي الجميل إلى مستويات ظهر فيها الإسراف من وجهين: الأول هو إختراع المناسبات من العدم لمجرد الاحتفال، إختراع المناسبات من العدم لمجرد الاحتفال: الهدف منه حثّ المستهلك على الاستمرار في الشراء لضمان رواج السلع التي تقذفها المصانع كل يوم، فالمستهلك لايخرج من مناسبة إلا ليدخل في دوامة مناسبة أخرى، تستفيد الشركات استفادة عظمى من توزيع المناسبات المختلفة على مدار العام: يوم الحب، أو بمناسبة وصول عدد المتابعين لكذا…وهكذا قائمة طويلة لاحتفالات متقاربة جدا في زمنها، وقد سرى هذا الأمر لمجتمعنا فأصبحنا نسمع بدعا جديدة من الاحتفالات المستمرة لمناسبات تشعر أنها اختُلِقت اختلاقا لمجرد الاحتفال، الإسراف في مستوى الحفلات والهدايا: وهو أن الهدايا والحفلات أصبحت تتجه -سنة بعد أخرى- للبذخ والمبالغة، فالجميع يتوق لإعطاء واستقبال هدايا باهظة الثمن، تصوروا كيف يمكن لأب بدخل متوسط لديه خمس بنات مثلا، أن يلبي رغباتهن في الاشتراك مع صديقاتهن بحفلات فخمة، وقد سمّى المسيري المادية في الفكر الغربي بــ(الفردوس الأرضي) حيث يقوم الحُلُم الأمريكي على فكرة تحقيق السعادة الفردية المطلقة في هذه الدنيا، فالحياة المثالية تقوم على تحقيق النجاح الشخصي والثروة الطائلة وكل مايتمناه المرء من ماديات، حيث تخلى الإنسان الغربي عن فكرة الفردوس السماوي (الجنة) وقرر السعي للفردوس الأرضي في الدنيا. وقد يجرّ هذا لإرهاق المرأة أيضا بضرورة السعي لزيادة دخل أسرتها إضافة لأعبائها الأسرية، أو الرجل بضرورة البحث عن دخل إضافي لتلبية الحاجات المتزايدة، وإهمال الضروريات كشراء مسكن أو ادخار مبلغ لقادم الأيام. وتمتد للعلاقات الاجتماعية فتجعل تقييم المرء في المجتمع ومكانته قائمة على مستوى معيشته، فإذا لم يجد التقدير إلا بالمادة فسيبحث عنها ليضمن مكانته، لا تستسلم وتظن أن ثقافة الاستهلاك والماديّات حتمٌ لازمٌ ليس أمامنا إلا الاستسلام له أو الاكتفاء بالنقد الخافت. ولاعذر لإنسان في عصر المعرفة هذا أن يبقى جاهلا بأساليب التلاعب بوعيه ويرضخ لها، ويبدو ذلك في تنامي اتجاه التقليل أو مايسمى بـ minimalism وهي ثقافة جديدة آخذة في النمو هدفها الخروج من دائرة الاستهلاك، لابد أولا من إغلاق الصنبور والتخفف من متابعة الحسابات التي تشجع على الاستهلاك وتزيد التعلق بالدنيا وزينتها، كتلاوة القرآن وقراءة حديث النبي صلى الله عليه وسلم، إن وقتا طويلا يضيع مع وسائل التواصل التي تُضخّم جانب المادة في نفوسنا، ولنجعل شعارنا (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ ۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ۚ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ۚ )، إن نشرك لصور الحفلات والهدايا والمشتريات الثمينة والماركات والسفر والمطاعم وكل ماشابه ذلك له أثر كبير على المتلقي، واعلم أن الله لايضيع عنده شيء ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7).