في الوقت الذي نتحدّث فيه عن عملية التأثر والتأثير، والحوار والتقبل، والنصوص المفتوحة أو المغلقة- إذن- نحن نتحدث عن فن الخطاب ومهارته. هل أحببت يومًا أن تكون خطابيًا مؤثرًا، قادرًا على مخاطبة الجماهير والتأثير في أنماطهم الثقافية والأيدولوجية، أو فاعلًا تفاعليًا في القضايا التي يفيض بها مجتمعك سواء أكانت: فكريًة لثقافيًة واجتماعيًة وسياسيًة؟ أليس بمقدورك أن تكون خطابيًا موضوعيًا حياديًا دون تلك الموانع الفكرية أو المادية أو البيروقراطية المتحجرة؟ هل ذلك من الصعوبة في مكان وزمان وثقافة ما، نعم، نحن نتحدث عن مهارة الخطاب الذي يولّد ثقافة الحوار وتقبل الآخر، والفضاء الممتد إنسانيًا وثقافيًا وفكريًا في حلقة متصلة بين التأثر والتأثير، بعيدا عن الحياديًة والجمود والانحياز. هذا يدفعنا للحديث عن لعبة الانحياز في اللغة، وسلطة اللغة المسلّطة على رقاب المتلقين، وهيمنة الأفكار والرَموز والدلالات، ومرواغة الحديث، مع أنها مهارة مطلوبة في الخطاب، لكن إياك أن تقع في محاذيرها وشباكها، فالخطاب؛ تلك السلطة اللغوية والمعرفية والمهاريّة التي تترجم القدرات لصاحبها، والفهم القرائي، والمكتوب، بمعنى أن تكون خطابيًا محلقّا في فضاء الأفكار، بحيث تجذب المتلقين، كل ذلك في نظرية مشروطة، يبني المتلقي فيها بناءً جديدًا، وخطابًا آخر في نظرية تقبل الآخر، يكتب كتابة على الكتابة، ليمتد سماء الخطاب والكتابة والتأليف والفكر في منظومة فكريّة ممتدة. الخطاب الناجح المؤثر هو ذلك التواصليّ؛ تتنظر فارسها وبطلها، تسمع صهيل خيله ولكنه لم يأت بعد. يحمل وجهة نظر، 1994). والخطاب مكوّن لغوي، أن تتحدث بها مرارا وتكرارا، المراوغة في اللغة، الانحياز : وفكّ الرموز، وسلم الأخلاق إلى" دروشة"، والقيم إلى فلسفة، والمعادلة الأخيرة هي لعبة الانحياز في الخطاب. حين ركبت الحافلة المتجهة نحو الجامعة كالمعتاد، أسابق الزمن؛ إنّه موعد محاضرة تطبيقات لغويّة في الإعلام حيث رفع السائق صوت المذياع ليتسنى للركاب سماع نشرة أخبار الظهيرة من محطة وطنية، حينها توقّفت الأفواه عن الكلام، وخيّم الصّمت على المشهد والسياق، العبارة الأخيرة في الخطاب الإعلامي للمذيع: جثث متفحّمة) هي أول الصمت وآخر الهدوء، يبدو أن الدلالة التأثيرية لتلك العبارة " جثث متفحّمة"، قد استطاعت إيصال الرسالة الإعلامية بصدمة للمتلقين، قررت حينها أن أجعل موضوع المحاضرة في لغة الانحياز في اللغة الإعلامية، وبدأت باسترجاع حزمة من الألفاظ والعبارات والمصطلحات والأساليب الموظّفة الخطاب وفي المحطات الإعلامية ذات الدلالات المتقابلة بين الإثارة والتحريض، وبدأت بعقد موازنة بين محطتين إذاعيتين إحداهما تقف مع الربيع السوريّ آنذاك، و أخرى مناهضة له، و زاد تحمسيّ للموضوع مقولة صديق لي يستكمل برنامجه للدراسات العليا في كلية الإعلام بدمشق: " لا شيء في دمشق يثير القلق يا صديقي مناوشات فقط كن مطمئنًا، حينها أدركت أنها لغة الانحياز في الخطاب تقف وراء كل شيء، لنتأمل تلك العبارات والمحكيات في خطاب تلك المحطتين الإعلاميتين، تُرتكب في حق شعبنا السوريّ مذابح يومية رصدت عين الكاميرا جرائم عدة ألقي القبض على الأحرار وزجّوا بالسجن أعلنت المعارضة عن أهدافها المنشودة محطة إذاعية رقم 2