نكبة البرامكة : والبرامكة أيضا يمثلون مرحلة أخري من مراحل قضية المشاركة التي سار عليها خلفاء المنصور، والبرامكة ينتسبون إلى برمك الذي كان خادما لبيت النار في مدينة بلخ، وكان فارسا عريق النسب، لأنه يصل إلى هذه الوظيفة الأمن كان من اصل عريق، ولقد ساعدت ظروف الدعوة والثورة العباسية لأحد أفراد هذا البيت إلى الظهور علي مسرح الأحداثولا جدال في أن خالد بن برمك هو الحلية الأدابم أول جد معروف لهذه الأسرة في الإسلام، فليس مؤكد إسلام أبيه برمك، لكن من المؤكد أنا خالد قد ارتبط بالدعوة العباسية منذ بدايتها، فانضم إلى أبي مسلم وحارب معه الأمويين إلى أن تم الأمر العباسيين، كما اشترك مع قحطية بن شبيب وتقلد الخراج والغنائم وولي في عهد السفاح الديوان والجند، ثم تولي الوزارة بعد مصرع أبي سلمه الهلال عام 132هـ/749م، واستمر فيها خلال خلافة السفاح وعاش حتى عصر المهدي . حتى توفي عام 781/165م أنا يحيى فقد بدأت صلاه بالعباسيين منذ عهد المنصور الذي ولاه على أذربيجان وأرمنية 158هـ/774م. وفي عهد المهد قام بأمر نفقات العسكر وأصبح كل شيء عنده، حتى جعله مربيا لابنه هارون 777/161م ولما عين هارون على المناطق الغربية، ولذلك اتفق يحيى مع الخيزران أم هارون في أن يجعل ولاية هارون تسبق المهدي، كنا دافع عن حق هارون في الخلافة خلال عهد الهادي حتى أنه سجن بسبب ذلك، ثم وحد الهادي ميتا في ذات الليلة التي سجن فيها يحيى وقيل إن الخيزران هي السبب في موت الهادي . وعندما تولى هارون الخلافة فإن يحيى كتب إلى العمال وتفسير ذلك اتضح في المستقبل القريب اذا ن هارون قد تولى الخلافة صغيرا (۲۲) عاما في عام 170هـ/786م ولذلك تدخل أهل القصر في شؤن الخلافة أكثر من عهد المهدي الذي وضع حدا لذلك، حتى أصبحت الخيزران مع هارون هي المسيطرة الفعلية وأصبح يحيى ابن برمك يصدر الأوامر عن رأيها، لكن بعد موتها عام 789/173م، أخلي الجو تماما ل يحيى الذي أصبح له الرأي الأول في الدولة، لكنه لم يكن تأثير شخص بمفرده ولكن أسره بأكملها . وبالفعل أصبح يحيى كل شيء في خلافة هارون الذي لقيه بالرشيد قولته وزارة التفويض وأصدر له تقليد ببين مدي السلطة المطلقة، واستعان يحيى لأولاده في حكم الخلافة دون الرجوع للخليفة، أما ابنه جعفر فكان له الإشراف على الجزيرة والشام ومصر والإقليم الغربية، كما تولي البريد ودور الضرب والطراز، ولقد بلا من نفوذه أنه شارك الخليفة في نقش اسمه على السكة. هذا بدوره أدي إلى أن يكون يحبى وبنيه من وراء ذلك ثورات طائله كما أنهم ملكوا العقول والفنون وساعد على ذلك أنهم كانوا مثقفين ثقافة عالية تجمع بين تراث الفرس والهند والسلام وعلي علم بالعربية والفارسية حتى قال الجاحظ : البلاغة لم تستكمل إلا فيهم ولم تكن مقصورة إلا عليهم فجعفر قد تتلمذ على الفقيه أبو يوسف وصار يوقع على القصص بين يدي الرشيد حتى تنافس الببغاء في تحصيلها وكانت كل قصه تباع بدينار، هذا فضلا أن يحيى كان له ولأولاده ندوات يجمع فيها نجوم العصر يتبادلون فيها قضايا هامة مثل موضوع الإمامة، القدر خيره وشره، كما كانوا يتذوقون الشعر ويقرضونه فمدحهم الكثير أمثال : أبي نواس والعباس بن الأحنف . كما كانت البرامكة مجالس سمر وغناء اشتهر فيها المغنيات فكان آل برمك يغدقون على العلماء والشعراء وأهل الفن العطايا والصلات، وبذلك كان البرامكة يمثلون دولة داخل دولة بني العباس . واستمر سلطان البرامكة حوالي سبعة عشر عاما وسبعة أشهر، وفجأة قرر الخليفة الرشيد استئصال شأفتهم وهو ما عرف بالنكبة، ولم تكن النكبة إلا إبعادهم عن السيطرة والنفوذ وكانت النكبة كما يصورها المؤرخون في آخر ليلة من المحرم عام 802/187م بعد أن رجع الرشيد من حجه ووصل الأنبار، فلما انصرف جعفر من عنده أرسل وراءه مسرورا وأمره بضرب عنقه وقبل أن تنقضي تلك الليلة أمر الرشيد بمن يقبض علي يحيى وابنه وحبسهم وأمر بمصادرة أموالهم وفرق الكتب على الولاة بالأقاليم بذلك وبالقبض على أنصارهم ومواليهم ولذلك اختلف المؤرخون في ذكر الأسباب التي من أجلها نكب البرامكة ومن الغريب أن الرشيد لم يذكر السبب المباشر الذي من أجله نكبهم، كما أن البرامكة نفسهم لم يتحدثوا عن الأسباب، مع أنه كان هناك بقيه منهم بعد موت الرشيد، فإن هذا أتاح فرصة للقصص والتجنيات حتى بلغ بعض الناس قالوا إن نكبتهم بغير سبب . ومن بين الأسباب التي أوردها المؤرخون تلك الرواية التي يرويها الطبري والسعودي وغيرهم، والتي ترجع نكبة البرامكة لوجود علاقة بين جعفر بن يحيى والعباسة أخت الرشيد والهادي وابنه المهدي، وهذه القصة تروي أن العباسة كانت تجالس الرجال في حضرة أخيها الرشيد بسبب ثقافتها، فكان جعفر والعباسة يجتمعان ثم يقوم الرشيد ويخلوان بأنفسهما حتى ولدت له ولد أو ولدين وكتمت الأمر عن الخليفة الرشيد، وعندما علم بالأمر نكب البرامكة. ويضيف المسعودي إلى هذه الرواية أن العباسة هي التي حاولت أن تصل إليه مع أمه ثم ولدت غلاما أو اثنين ووجهت بهما إلى مكة ثم اليمن وأن الرشيد حج إلى الحجاز يقصد أن يعرف الخبر، ومما يضعف هذه الرواية أيضا أن هناك مصادر أساسية لم تذكرها مثل كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني، كما أن هناك رجالا معاصرين ينفوا عنها هذا الأمر مثل سياف الرشيد، الذي قال عندما سأله البعض عن العباسة كأنك تريد ما يريده العامة، والله ما لشيء من هذا أصل، وهذه الرواية تكررت أيضا عن أخت الرشيد ميمونة. ويطالعنا ابن خلدون أيضا بعدة اعتراضات لنفي هذا الزواج منها كيطلب الصوت والعفاف إذا ذهب عنها وأين توجد الطهارة إذا فقدت من بيتها فضلا عن المصادر لم تذكر العباسة سوى ثلاثة زيجات منها زواجها من محمد بن سليمان والي البصرة الذي تزوجته عام 744/0127م وتوفي في العام الذي يليه، ثم أن زوجيها الآخرين فقد توفيا قبلها ولم تذكر أنها تزوجت بجعفر بن يحيى، حتى أن الشاعر أبا نواس، يري أنه لكي يموت إنسان عليه أن يتزوج العباسة، وأخيرا فكيف يتم كل ذلك والخليفة لا علم له به. أما السبب الثاني الذي ينسبه إليهم المؤرخون الزندقة لا سيما وأن دين البرامكة الأول قبل الإسلام كان المجوسية ويبدو من سيرتهم أنهم جعلوا من بيوتهم ملجاً لشرب الخمر والمجون وكانت لهم مجالس شرب ولهو علنية غير محتشمة يلبسون فيها هم وندماؤهم ثيابا من حمراء وصفراء وخضراء لمعانا في اللهو، فلعل هارون لم يعجبه تبدل البرامكة وعدم اهتمامهم بالدين الإسلامي، حتى أن يحي بأمر الرشيد كتب إلى الفضل بن يحيى الذي تشاغل بالصيد وإدمان الملذات عن النظر في أمور الرعية، أما البغدادي في كتابه "الفرق بين الفرق فإنه ينسب صراحة إلى البرامكة العودة إلى ديانتهم حينما زينوا للرشيد أن يصنع مجمرة في جوف الكعبة يتبخر عليها العود فعلم الرشيد أنهم يريدون أن يحولوا الكعبة إلى بيت نار، وأن كانت تهمه الزندقة عند العباسيين تهمة من لا تهمة له ووسيلة للقضاء على أعدائهم . كذلك يذكر المؤرخون أن من أسباب غضب الرشيد على البرامكة احتجازهم الأموال مع كثرة المصادر المالية للدولة العباسية، حتى بلغت في عهد الرشيد ما يقرب من اثنين وسبعين مليون دينار في السنة عدا العينية، فكان هو وأفراد أسرته يطلبون اليسير فلا يحصلون عليه، يضاف إلى ذلك أن البرامكة خالفوا التقليد السابق في إشراف الخلفاء على السكة وهي العملة من الدراهم والدنانير بأنفسهم، وأصبح جعفر له النظر في سك العملة باسمه، كذلك كانوا يتصرفون في أموال الدولة التي كانت كلها تحت أيديهم كما يشاءون من غير حساب وبدون رقيب، وفي سبيل إظهار الكرم والسخاء بقصد استمالة رجال الدولة بالمال. أما ابنه جعفر فإنه كان يحمل الدنانير مع خادمه ليشترى الناس في حضرته بعطاءه وكرمه، ولا شك أن البرامكة اغتنوا غني فاحش لم تسمع به الأسرة من الموالي من قبل، فقد أحصيت أموال يحيى وجعفر في آخر أيامه فكانت ٢٠ مليونا وفاقت ضياعهم ضياع الخليفة نفسه، فكان الرشيد لا يمر بضيعة ولا بستان إلا قبل هذا الجعفر، كذلك بني جعفر لنفسه قصرا فخما في الرصافة أو المدينة الشرقية في بغداد اتفق عليه ۲۰ مليون درهم، هذا غير بقيه قصور البرامكة حتى أصبحت أشبه بمدينة عرفت باسمهم وبقيت بعدهم، فلعل الرشيد حسدهم على ثروتهم وأخذ عليهم إنفاق أموال المسلمين بدون حساب لأغراضهم الخاصة، لاسيما الأموال من الناس في الموصل من غير وجه حق وسرقتها وأمهله ثلاثة أيام والا قتل ليأتي بثلاثة ملايين درهم، حتى أن ابنه يحيي أحد يقترض من الناس وبعد أن تمكن من إحضارها عفا عنه المنصور . يف تلحق العباسة وهي ابنه خليفة وأخت خليفة نسبها بجعفر، ويتعجب أين ثم يذكر المؤرخون تلميحا سببا آخر من أسباب تغير هارون علي البرامكة وهو ميلهم العلويين مثل كل الفرس بسبب زواج الحسين بن علي من ابنه يزدجرد آخر ملوك آل ساسان، كما أن سلالة العلويين ارتبطت بالفرس، ويؤيد هذا الميل من قبل البرامكة أن جعفر كان يمنح من يتصل به من العلويين مناشير الأمان، ويسمح لهم في حضرته بمناقشة مسائل أحقيتهم في الأمانة وأنها تكون بالنص أو بالاختيار فكان ذلك على خلاف سياسة العباسيين في التضييق علي بني عمومتهم حتى يمتنعوا عن المطالبة بأحقيتهم في الخلافة، حتى أن هارون نفسه قد أمر واليه في المدينة بالتضييق عليهم وأخرج من كان في بغداد منهم، ويبدو أن هارون أراد أن يختبر ولاء البرامكة للعباسيين من دون العلويين فأمر جعفر يقتل واحد من آل البيت آل طالب وهو يحي ابن عبد الله أخو النفس الذكية الذي كان قد شارك في فتنه صاحب في أيام الهادي وهرب بعد مقتله إلى الديلم عند بحر قزوين، ثم رجع إلى العراق بعد أن منحه الرشيد الأمان وما لبث أن قبض عليه وسجنه وقدمه لجعفر لقتله، لكن جعفرا أطلقه وان تمكن الرشيد فينا بعد من القبض عليه وقتله، فلعل جعفر أراد باطلاق سراحه أن يوجد منافسا الخليفة أو على الأقل أراد أن يجعله سيفا مسلطا على رأسه، فالبرامكة بسيطرتهم على الرشيد وبإطلاق سراح يحي العلوي أصبحوا يتحكمون في أشراف البيوت الإسلام من العباسيين والعلويين . وعلى ما يبدو أن نكبتهم أنت قبل كل شيء من دسائس ومكاند ظهرت ضدهم من المعارضين لنفوذهم والطامحين في أن يحلوا محلهم والذين حقدوا عليهم لاستيلائهن على كل شيء والمظلومين الذين كثر عددهم حتى أن أبا يوسف مؤلف كتاب "الخراج" يعدد الظلم الكثير في أيامهم ويطلب من الرشيد أن يجلس بنفسه المظالم وساعد على ذلك أن الرشيد كان يتأثر بالغير مما جعله يتأثر بالسعاية ضدهم فبرز من أعدائهم شخصيتين بارزاني في قصر الرشيد، وان كان لهم الأثر المباشر في نكبتهم، أولهما شخصية نسائية لا تقل شهره عن الرشيد نفسه وهي ابنه عمه زوجة منذ عام 781/165م وهي زبيدة التي اعتبرت اقوي النساء العباسيات اللاتي كن يتدخلن في السياسة والسيطرة على الأمور وتقوي من الخيزران نفسها التي حكمت في أول خلافته، فهذه كانت جارية مشاركات بينما زبيدة عربية من نسل الخلفاء مباشرة، وكانت على عكس الخيزران لا تعمل وجه لوجه وإنما تعمل من وراء الحجاب، حتى لا تكاد تجد مصدرا يبين سعايتها وثانيهما: رجل سياسة داعية هو الفضل بن الربيع الذي لم تظهر أهميه دوره إلا منذ أن أصبح أبوه الربيع بن يونس خصيصا بالخفاء المنصور والمهدي والهادي الذي عينه مكان أبيه في الوزارة ثم عزله، وفي أول خلافة الرشيد ووقت وفاة الخيزران عينه يحيى البرمكي علي ديوان النفقات العام والخاص؛ مما جعله شديد الصلة بكبار الأسرة العباسية من رجاله ونسائها، فلم يزل حاله من وقتها ي نمو ولكنه لم يختص بالرشيد إلا بعد عزل محمد بن خالد ابن برمك عن الخطبة فتولاها هو وكذا حينما اخد هارون الخاتم من جعفر ليعطيه له، فكان ذلك معناه أن الفضل بن الربيع قد استحوذ على الخليفة وأصبح صاحب نفوذ في قصرة ودولته . والذي عجل بعداوة هاتين الشخصيتين الهامتين للبرامكة في قصر الرشيد هو مسألة التغيير في ولاية العهد، فتسبب ذلك في تفرقة العرب وان أبا بكر صير الأمور إلى عمر فسلمت الأمه له ثم جعلها عمر شوري، فكان بعده من الفتن حتى صارت إلى غير أهلها إلى أن تولاها العباسيين الذين عليهم أن يوطدوا أحوال وراثه الخلافة لتبقى فيهم إلى يوم القيامة، ومع ذلك فإن ما حدث بالنسبة لولاية العهد يرتبط بنفوذ البرامكة في دولة الرشيد، حيث كان الفضل قد بدأ يستحوذ على ثقة الخليفة، وتبين نصوص عديدة العداوة الشديدة بينه وبين يحيى بن خالد، فكان ظهور هذا الفريق المعارض للبرامكة مفاجأة لهم علي غير انتظار كما أن فريق زبيدة اتخذ طابعا يختلف عن طابع البرامكة العنصري فزبيدة عربية أصيله أما الفضل بن الربيع فله أحاسيس عربية مثل أبيه بينما البرامكة وهم من الموالي كانوا يمثلون العنصر الفارسي، حتى أن الخليفة المنصور اتهم جدهم خالد بالميل للعجم مما جعل النزاع بينهم نزاعا عنصريا بين العرب والعجم، وعول البرامكة على تغيير ولاية العهد لصالح عبد الله بحيث يوجدوا منافسا لزبيدة في شخص مراجل الفارسية أم عبد الله، وأمام هذا التغيير في ولاية العهد تحرك فريق زبيدة سريعا حيث كثرت سعايتهم لدي الرشيد ضد البرامكة حتى أو غروا صدره ضدهم، وقد لجأوا إلى ذلك بوسائل متعددة منها أنهم كانوا يذكرونه باستبدادهم واحتجازهم الأموال لأنفسهم وتقربهم من العلويين وغير ذلك من مساوئهم، إذ كانوا يدسون إليه الرسائل التي ورد إحداها، أنت إذا وقفت بين يدي الله فسألك عما عملت في عباده وبلاده قلت يا رب اني استكفيت يحيى أمور عبادك به كما جعلوا أحد المغنيين يحتال على إسماع الخليفة بهذه الأبيات : ليت هند أنجزتنا ما تعد واستبدت مرة واحدة وشفيت أنفسنا مما تجد أنما العاجز من لا يستيد ويبدو أن السعاية أنت بنتائج سريعة لدى الرشيد وساعد على ذلك أنه لم يعد صغيرا فقد بلغ من العمر أربعين عاما وأراد أن يلعب دوره الذي تركه للبرامكة منذ أن ولي الخلافة، فنجده يتنبه فجأة إلى استبدادهم فقرر نكبتهم فيقول لبعض جلسانه : استبد" يحيى بالأمور دوني بالخلافة على الحقيقة له وليس لي فيها إلا اسمها كما شكا إلى طبيبه الخاص سوء سلوكهم وأنهم يدخلون عليه في فراشه مجردا،