إن الدعوة إلى تكتل عربي معتمد على موارده وطاقاته وإمكاناته ومحصلة تثميرها والاستفادة منها محققاً على الأقل الحد الأدنى من التنمية الفعلية تبدو مطمحاً، في ظل الانكفاء القطري وتعثر محاولات التنمية. وإذا كان النفط السلعة الحاكمة، فإن الأقطار ذات الموارد النفطية هي من خلال ما يمثله من أهمية استراتيجية وحيوية للدول المتقدمة أصبحت نهباً لأطماعها ومحوراً لمصالحها وتوافق توجه نظمها المرتبطة بالغرب ارتباطاً تقليدياً وثيقاً مع توجه الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية ، لتوطيد هذا الارتباط سياسياً واقتصادياً والاستفادة من وراء ذلك استفادة غير مسبوقة تتمحور حول النفط.وإذا كانت الدعوة إلى الوحدة الاقتصادية والتكامل الاقتصادي قد تبخرت، فقد انطلقت وعلى مدى العقود الماضية ولم تصل إلى أي من أهدافها، بل إن العكس هو ما حصل على محك الواقع. فكيف يكون التبرير لإطلاق الدعوة من جديد، وخصوصاً من الوضع الراهن في تنظير يبدو أنه يغفل الواقع تماماً، فليس ثمة شك في أن الوحدة الاقتصادية، تحقق فرصاً أفضل للتنمية على صعيد الوطن العربي في ظل وجود استراتيجيا تنموية جادة والتزام جاد بتطبيقها. في الوقت الذي يعظم للوطن العربي ما يمكن أن يسهم به وما يعتمد عليه في التعامل مع النظام العالمي الجديد، فإنه في حد ذاته يعطي ثقلاً في العلاقات الاقتصادية مع هذا النظام. ولكن هل يجدي التنظير وإعادة إطلاق هذه الدعوة والوطن العربي لم يمنحها أي فرصة خلال العقود الماضية، بل إن المسار كان مساراً مناهضاً ومناقضاً لها .إن القيادات في الأقطار العربية، وهي تغلب خلافاتها البينية على المصالح الاقتصادية، وتنزع إلى الانكفاء القطري وتتصور إمكانية تحقيق التنمية الفعلية في إطاره، وحتى الأقطار العربية التي كانت غنية بمواردها النفطية وتصورت في الانكفاء القطري اعتماداً على تلك الموارد ما يحقق التنمية بيسر وسهولة، وقعت في وهم أيضاً وخرجت من تحت مظلة الموارد المالية النفطية وهي لم تحقق التنمية الفعلية، وإن أقامت البنية الأساسية على أساس مظهري وقشرة حضارية، وتكالبت الشركات الأجنبية على قسط من تلك الموارد، واستأثر الفساد بقسط آخر، وتبدد قسط في الحرب العراقية ـ الإيرانية، ثم جاءت الطامة الكبرى متمثلة في كارثة الخليج العربية التي تناهبت ما تبقى من فوائض مالية ورهنت هذه الأقطار في المديونية، وهو أمر لم تكن تتصوره إبان الترف النفطي. وفي الأقطار العربية غير النفطية كان هناك الانكفاء القطري، وبدا في عدد منها أن نهج الانفتاح والتكيف بدلاً من الاندماج والتكامل الاقتصادي العربي هو المخرج لها من مأزقها التنموي والوسيلة المتاحة لتحقيق التنمية الفعلية .إن أهمية وجود تكتل اقتصادي عربي، فهو ضرورة حتمية للتعامل مع التكتلات الكبيرة في عصر اتسم بهذه السمة . كما هو أنه حتى في المحافل الرسمية يأتي التأكيد على أهمية مثل ومع هذا التكتل، فما زال مبتعداً جداً عن الواقع. ولعل مثل هذا الشعور حتى على الصعيد الرسمي لا تسنده إرادة جادة منذ البداية ، ولذلك بقي حبيس الشعارات. ومع المد الكبير في العالم نحو إقامة التكتلات، حتى بين الدول الأكثر تقدماً، فإن الدول المتخلفة إجمالاً والأقطار العربية على وجه الخصوص، تنأى من الناحية الفعلية عن الاندماج في تكتل حتى على صعيد إقليمي عربي، الحال بالنسبة إلى مجلس التعاون الخليجي. ولقد جهر أحد أبناء الخليج العربي، وإن كان ذلك في نغمة مشحونة بالعاطفة، بما أقرته قيادات أقطار الخليج العربي، وما ورد في ديباجة النظام الأساسي لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، حين أكد أن أول متطلبات التحولات المنشودة لتحقيق أمن وتنمية المنطقة يتمثل في قرار يصدر من قيادات هذه الأقطار لإعلان الوحدة الفدرالية تطبيقاً لما ورد في ديباجة النظام المشار إليه «أنه إيماناً بالمصير المشترك ووحدة الهدف التي تجمع بين شعوبها. واستكمالاً لما بدأته من جهود في مختلف المجالات الحيوية التي تهم شعوبها وتحقيق طموحاتها نحو مستقبل أفضل وصولاً إلى وحدة دولها». ويستطرد في التأكيد على أن هذه الوحدة يجب أن ترتكز على إصلاح جذري شامل في مختلف الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وأن عملية التنمية المستقلة المعتمدة على الذات يستحيل القيام بها في كل قطر من أقطار المجلس منفرداً نتيجة لصغر حجم كل منها، وغياب الحد الأدنى من مقومات بدء واستمرار عملية التنمية . وهو هذا التوجه الضروري والمصيري جواز مرور لدخول القرن يعتبر الحادي والعشرين. ويؤكد أيضاً أن المسألة لا تحتاج إلى مزيد من الاجتهاد أو إجهاد الفكر في الدراسات، فهناك رصيد متراكم من الدراسات موجود في ملفات الأمانة العامة للمجلس وأرشيفات الإدارة الحكومية، وإن ما ينقص هذه الأقطار يتمثل في إرادة التنفيذ، وليس في نقص القدرة الفنية على كتابة الدراسات أو تقديم المقترحات. ويشير في هذا الصدد إلى أهمية تبني استراتيجيا تنموية شاملة تسمح للمنطقة ببدئها لتصحيح البناء الاقتصادي والاجتماعي ورفع المستوى الثقافي والعلمي والتقني. ولعل استراتيجية التنمية الشاملة في إطار وحدة أقطار مجلس التعاون وتكاملها مع باقي الأقطار العربية، والتي قام بإعدادها مهتمون بقضية التنمية بناء على طلب مجلس التعاون، وقدمت إلى اجتماع وزراء التخطيط في أقطار المجلس سنة ١٩٨٣، ما زالت صالحة كأساس لاستراتيجية التنمية المنشودة. ويبدو أن هذه الفرصة الجادة ستضيع، وما تزال أقطار المجلس بعيدة كل البعد عن إقامة وحدة أو تكتل يجمعها، وإرث قبلي تاريخي تجاوزه الزمن .ويبدو أن هناك خلخلة في إطار التوجهات العروبية والمنضوين تحت لوائها، وعلى الرغم من أن الوحدة ما زالت مطمحاً ومطلباً في نظـرهـم بصرف النظر عن انحسار هذا المد، وعلى رغم ما أحاق بالوحدة شعاراً ونهجاً، إذ يشير محمود عبد الفضيل" إلى أنه لم يعد هناك مجال في هذه الأيام للدعوات الطموحة إلى الوحدة الاقتصادية العربية والأشكال المتقدمة للتكامل الإنمائي، وإنما يمكن الأخذ بفكرة الاتحاد الجمركي العربي التي تسمح باختلاف السياسات الاقتصادية بين الأقطار العربية ولا تستدعي درجة عالية من وحدة الموقف السياسي. ويؤكد أن هذا المدخل المتواضع يمثل الحد الأدنى من التنسيق بين أوضاع الاقتصادات العربية المختلفة وبشكل تدريجي .ويخالف سعيد النجار" ذلك مشيراً إلى أن الأوضاع السائدة في الوطن العربي لا تتلاءم في الوقت الحاضر مع الصيغة القومية التي تقوم على أساس التكامل الاقتصادي على صعيد الوطن العربي أقصاه إلى أدناه، فإن اختلاف الظروف والتوجهات تحول دون نجاح مثل هذه المشروعات الطموحة، وهو ما ثبت من تجربة مجلس الوحدة الاقتصادية والسوق العربية المشتركة، ومن ثم فإن إقامة اتحاد جمركي بين البلدان العربية ضرب من الخيال محكوم عليه بالفشل منذ البداية. ويؤكد نجيب عيسى أن عدداً من المفكرين العرب الواعين بما تمثله التهديدات الجديدة يدعون إلى مواجهتها من خلال اقتراحات وشعارات قديمة بقيت رائجة لعقود طويلة وبقيت حبرا على ورق . فالأنماط التنموية لا تزال على ما هي عليه، والقوى الاجتماعية والسياسية القائمة عليها والمسؤولة عن تردي الأوضاع لا تزال في مواقعها القيادية والسلطوية، لذلك فإن الدعوة أو تجديد الدعوة لإقامة الأشكال التقليدية للتكامل الاقتصادي (منطقة تجارة حرة ، الخ) أشكال ثبت فشلها عملياً ونظرياً. ثم يطرح أكثر من تساؤل: هل المقصود بتجديد الدعوة إعطاؤها مضموناً جديداً؟ ولمن هي موجهة؟ ولأي قوى اجتماعية واقتصادية؟ ولكـن محمـد الأطرش يحاول النأي عن النكوص أوحتى الطرح الذي يبدو متواضعاً جداً في الدعوة إلى اتحاد جمركي مؤكداً أنه يجب التفريق بين العمل لتنفيذ الوحدة الاقتصادية دفعة واحدة، إذ يمكن الدعوة إلى الوحدة الاقتصادية العربية، وفي الوقت نفسه الدعوة إلى تحقيقها على مراحل بدءاً بمرحلة منطقة التجارة الحرة، فالاتحاد الجمركي، ثم ينطلق إلى تأكيد مدخلين لما يجب عمله، أحدهما على الصعيد القطري بعودة الأقطار العربية عن نظام رأسمالية الحرية الاقتصادية، وعن فتح الباب على مصراعيه للاستثمارات الأجنبية، لأن هذا النظام يؤدي إلى استفحال سوء توزيع الثروات والدخول وانتشار الفقر والبطالة ونزوح الرساميل الخاصة إلى الخارج وتعزيز الهيمنة الغربية، فإن الوحدة العربية ضرورية لتحقيق أسباب القوة والكرامة، كما أنها ضرورية لإثبات الذات والهوية. إن انتشار الديمقراطية يهيئ الإطار اللازم لتعبئة الشعب العربي وراء تحقيق الهدف تدريجياً، وأن التركيز بادئ ذي بدء يجب أن يكون على الجانب الاقتصادي عن طريق تفعيل مجلس الوحدة الاقتصادية وتعديل قرار السوق العربية المشتركة .