ويرفع رأسه بين الآونة، والأخرى مخرجًا من بين شفتيه الغليظتين سحابة من دخان التبغ، وقد كان بين يديه إذ ذاك رسالة فلسفية أوحاها سقراط لتلميذه أفلاطون في «معرفة الذات». كان سليم أفندي يتبصر آيات تلك الرسالة النفيسة مستحضرًا إلى حافظته ما قاله الفلاسفة والمرشدون في موضوعها، حتى لم يبق شاردة لمفكر غربي إلا ولازمت فكرته، حتى إذا ما غرقت ذاته في موضوع معرفة الذات نهض فجأة، وصرخ بأعلى صوته قائلًا: «نعم، عليَّ أن أُزيل النقاب عن أسرار نفسي، وأمحو الالتباس عن مكامن قلبي، وفي عينيه تتقد شعلة «محبة المعرفة» معرفة الذات، ثم دخل إلى غرفة محاذية، ظل واقفًا جامدًا على هذه الحالة نصف ساعة، كأن الفكرة الأزلية قد أنزلت عليه أفكارًا هائلة بسموها تجعله بواسطتها أن يكتشف بواطن روحه، وقال مخاطبًا نفسه: أنا قصير القامة وهكذا كان نابليون وفكتور هوغو. أنا ضيق الجبهة وهكذا كان سقراط وسبينوزا. أنفي كبير ومنحن إلى جهة واحدة، أذناي مستطيلتان بارزتان إلى الجهة الوحشية، ذقني متقاهر إلى الوراء، وبالإجمال جسدي ضعيف نحيل، وهذا شأن أكثر المفكرين الذين تتعب أجسادهم في مرامي نفوسهم، ومن الغريب أني لا أستطيع الجلوس كاتبًا، إلا وبجانبي إبريق القهوة مثلما كان يفعل بلزك. وفوق ذلك فلي ميل إلى معاشرة الرعاع والبسطاء كتولستوي، وللعجب أني أستريح لسماع أخبار النساء، وريبالي. وأما مجاعتي للمآكل الشهية، والموائد المرصوفة بالألوان المتنوعة فتقارن نهم بطرس الأكبر، ووقف سليم أفندي دقيقة عن مخاطبة نفسه، هذه هي حقيقتي، فأنا مجموع صفات كان حائزًا عليها أعاظم الرجال من بدء التاريخ إلى يومنا هذا، وفتىً جامع لهذه المزايا لا بد أن يفعل شيئًا عظيمًا في هذا العالم. وأنا قد عرفت نفسي في هذه الليلة، ومنذ الليلة سأبتدئ بالعمل العظيم الذي انتدبتني إليه فكرة هذا العالم بوضعها في أعماق عناصر متعددة متباينة، إلى بوكاشيو، إلى أحمد فارس الشدياق، أنا لا أدري ما هو العمل العظيم الذي سأقوم به، ولتعيش ذاتي، وليبقى الكون كونًا حتى تتم أعمالي». ومشى سليم أفندي في تلك الغرفة ذهابًا وإيابًا، وسيماء البِشْرِ على سحنته القبيحة، وهو يردد بصوت يأتلف بنبراته مواء القطط بقلقلة العظام بيت أبي العلاء القائل: أنا وإن كنتُ الأخير زمانهُ لآتٍ بما لم تستطِعْهُ الأوائل