المتنبّي شاعر العربيّة الكبير الذي عاش، نزيلا ببلاط سيف الدولة الذي جمع الكثير من علماء اللغة، والفلاسفة من أمثال الفارابي، وعلى رأسهم بالطبع أبو فراس الحمداني، ابن عم سيف الدولة، وأحد منافسي المتنبي في ذلك البلاط. ولا سيما رحلته إلى مصر التي جرى توَظيفها في قصائد مشهورة كقصيدة أمل دنقل الموسومة بعنوان ' من مذكرات المتنبي في مصر ' وهي في ديوانه ' البكاء بين يدي زرقاء اليمامة '(1968) وقصيدة محمود درويش ' رحلة المتنبي إلى مصر ' وهي في ديوانه ' حصار لمدائح البحر ' (1986) هذا الرحيل جذبَ انتباه د. ولفت نظره إلى أهمية هذه الرحلات، فكانت ثمرة هذا الوقوف كتابًا صدر حديثا عن دار مجدلاوي للنشر والتوزيع بعنوان ' الرحلة في شعر المتنبي ' 2012. وهلْ ثمة دوافع محددة دفعت به لذلك، وإن كانت ثمة دوافع فما هي؟ وهل هي دوافع موجودة حقًا ولها جذور في حياته، أم أنها فرضيّات تنطق بها ألسنة الباحثين، وتتناوبُ عليها أقلام الدارسين والمؤرخين؟ بادئا بالإشارة للغموض الذي يكتنف شخصية الشاعر الكبير. فنحنُ لا نعرف عن أبيه شيئا يُذكر، فبعض الإخباريين ذكروا أنه أحمد بن الحسين، وذكر بعضهم أن أباه كان سقاءً في جوامع الكوفة، فلم نجد في من هجوه منْ عابَ عليه النسب الوضيع، والجدة التي كفلته هي الأخرى معلوماتنا عنها لا تتخطى ما ذكره من صفاتها في قصيدة الرثاء المشهورة، فافتخرَ بنفسِهِ بدلا من البكاءِ على الجدَّة المتوفاة: لئن لذَّ يومُ الشامتين بيومها فقد ولدتْ منّي لأنْفسِهمْ رغمًا على مرّ الزمن، على الرغم من أنّ بعض الإشارات في شعره توحي بهذا. ولهذا يجد المؤلف الغضنفري مسوّغا لاستبعاد الغوص في سيرة المتنبي، لا تعدو الدوافع المعهودة لدى بني الناس: كالاغتراب، والإمارة (الاستشراف) والمرأة، بما يعهد عنها من استقرار يلزم الرجل- الزوج بالإقامة في مكان معيّن، وفي حياة المتنبي ثلاثُ من النساء لا يبدو أنّ لهن تأثيرًا كبيرًا، والجدّة التي فقدها بأُخَرَةٍ منْ عمره، والحبيبة التي لا يظن أنّ للمتنبي حكايات غرامية مشبوبة كتلك التي عرفت عن عمر بن أبي ربيعة مثلا، واستشهدوا لتأكيد ذلك بأبيات من شعره، وجل ذلك لا يقنع القارئ بأن المتنبي عاشق أضْناه الهَوى، وأنطقه الحبّ بالرقيق من الغزل والنسيب. ومع هذا فإنّ مثل هذه الفرضية تسوغ لنا، الاعتقاد بأنّ خلوَّ حياته من شوق المحبّين هو أحدُ البواعث المهمة التي تكمن في حرصه الدائب على الرحيل، ومن بلاط أمير لبلاط أميرٍ ثانٍ. فهو يعبر عن ذلك ببيت من قصيدة له مشهورة: لا أقتري بلدًا إلا على غَرَرٍ ولا أمُرُّ بخلْقٍ غيْر مُضْطغِنِ وهذا كله لا يُقللُ منْ أثر نزعة الفروسيّة التي اتصف بها وهي من الخِصال الراسِخة في شخصية المتنبي، فرضَ الرحيلُ على المتنبي إذًاً أنْ يلتفت في شعْره لعناصر معينة يسميها الباحث عناصر الرحلة، فالمتنبي الذي نشأ في ربوع بني كلب طبع على البداوة، قال في شعب بوان: مغاني الشعب طيبا بالمغاني بمنزلة الربيع من الزمان والتفت أيضًا لوعورة الطّرُق، ولثلوج لبنان التي فاجأته في أثناء توجّهه من حلب إلى مصر: لبَسَ الثلوجُ بها عليَّ مسالكي فكأنّها ببياضِها سوداءُ ولا ينسى المتنبي أنْ يذكر في أثناء القصيدة من رافقه في السفر، الذين كانوا يصاحبونه في التنقل من بلد لبلد، وبمختصر القول يتتبع الغضنفري بصبر، فإن القصيدة العربية عرفت موضوع الرحلة منذ الجاهلية. كتاب ' الرحلة في القصيدة الجاهلية ' لوهب رومية. قد لا يكون المتنبي ممن يأخذون بها أخذًا مباشرًا. فقد كان الشعراء يشدون الرحال على ظهور الإبل من البادية إلى حاضرة الممدوح، على الرغم من تباين أهدافه عن أهداف الشاعر الجاهلي، فقد خاطب سيف الدولة قائلا: أجزني إذا أنشدتَ شعْرًا فإنما بشعري أتاك المادِحونَ مردَّدا وهو الذي يخاطبُ كافورًا : أبا المسْك هل في الكأس فضل أنالهُ فإنّي أغنّي منذُ حينٍ وَتشْرَبُ كانَ المتنبي يطمَعُ أن يقتطعه ممْدوحوهُ ولاية، ولهذا يخاطبُ كافورًا بصراحة، وإذا تجاوزنا أبعاد الرحلة من زمان، وهو ما يسميه المؤلف كعادة المدرّسين- ' الخصائص ' الفنية لقصيدة الرحلة عند المتنبي. والأمثلة على هذا كثيرة أورد المؤلف ما يكفي منها لتوضيح رأيه، فيرى أنه يراوح بين نوعين من الجمل؛ مثلما يراوح بين الإنشاء والخبر. وهذه المزيّة- في رأينا - مما يتصف به شعر المتنبي، أما الصورة التي أحالنا حديثه عنها إلى كتاب الرباعي عن أبي تمام والصورة، فأقربُ إلى التحليل الذي يختصُّ بالمتنبي، كقوله في رثاء شقيقة سيف الدولة: حتى إذا لم يدعْ تصديقُهُ أملا شرقتُ بالدمْع حتى كاد يشرَقُ بي وقوله في مطاردة سيف الدولة لبني كلاب: وتسْألُ عنْهُمُ الأمواهَ حتّى تخوّف أنْ تفتشَهُ السّراب ُ وقد أفاضَ المؤلف في تحليل الصور الجديدة التي تمتلئ بها قصيدته في شعب بوان، مبيّنا ما فيها من تصوير مبتكر، وتهفو له القلوب والأرواح: غدونا تنفض الأغصانُ فيه على أعرافها مثلَ الجمانِ فسرت وقد حجبْن الشمس عنّي وجئنَ من الضياء بما كفاني وألقى الشرق منها في ثيابي دنانيرًا تفرّ من البنانِ صفوة القوْل أنّ في هذا الكتاب صورةً جديدَةً للمتنبي تضافُ لهاتيك الصور التي نجدها في مصنفات أخرى عن هذا الشاعر الكبير، فهو كتابٌ يستبعدُ الأفكار المَكْرورَة ، والاجتهادات التي لا تتصلُ بالشعر إلا من بعيد، فهو يولي النصوص أهمية تضارع أهميّة الحواشي، فإن ذلك يقتصرُ على التنبيه لبعض الأخطاء التي نتجتْ- بلا ريب- عن السهو، فقد ذكر شرح اليازجي لديوان المتنبي، وَسَمّاهُ: ' ديوان المتنبي بشرح العرف الطيب' وقد اسْتغربْنا منْه هذا، فالصّحيحُ هوَ ' العَرْفُ الطيب في شرح ديوان أبي الطيب ' وقد خلط المؤلفُ في بعض المواقع بين الغربة، ولكنه في مواقع أخرى ميّز بيّنهما، وفرَّق بين دلالتيهما، وأصابَ عندما وصف المتنبي بالشاعر الذي يعاني الاغتراب لا الغربة.