على سطح الباخرة الكبيرة التي كانت تتهيأ لمغادرة نيويورك في منتصف الليل باتجاه بيونس أيرس. فيما كانت الجوقة الموسيقية تعزف الديك شو (1) غير مبالية بأي شيء. لذت بممشى الباخرة العلوي للنجاة بنفسي من كل هذه الضوضاء. أضاف على سبيل الشرح: ميركو كزنتوفيك، عائد أساسا إلى القدرات الذهنية لهذا البطل، إذ لم تكن تنبئ على الإطلاق بأي مسيرة باهرة. لقد كان عاجزا إلى درجة جعلت أحد منافسيه المغتاظين يقول عنه بسخرية خانقة: «إن جهله عليم بكل شيء». كان ابنا لبحار يوغسلافي من حوض الدانوب، غرق بعد أن اصطدم قاربه الصغير في إحدى الليالي بسفينة محملة بالقمح. ما لم يكن يقدر على تعلمه في مدرسة القرية. ويظل يحملق فيها بنظراته الذاهلة وكأنه يحملق في الفراغ. ولم تكن لذهنه الخامل القدرة على حفظ أكثر الدروس بداهة. حتى أنه أتم الرابعة عشرة وهو ما يزال يستنجد بأصابعه كلما واجهته عملية حسابية. فهو ينفذ الأوامر بإخلاص. ولكن أكثر ما كان يزعج القس الطيب في هذا الطفل المحير هو لامبالاته التامة. ولا يندفع نحو أي عمل من تلقاء نفسه إلا إذا تلقى أمرا بذلك. دون أن يبدي أي اهتمام بكل ما يجري حوله. حين كان القس يجلس مع صديقه ضابط الشرطة إلى رقعة الشطرنج ليتباريا كعادتهما كل يوم والضابط ينفث دخان غليونه الطويل والقبيح الشكل، كان هذا الصبي ذو الشعر الأشقر يظل جالسا بالقرب منهما دون أن ينطق بكلمة واحدة وعيناه المثقلتان بالنعاس تحدّقان في مربعات رقعة الشطرنج. أما الضابط، حسنا، رفع الصبي عينيه في خجل ثم أشار إليه موافقا وجلس مكان القس. ولم تمض أربع عشرة جولة إلا وكان الضابط مهزوما ، يا لها من معجزة، لقد نطق حمار النبي بلعام (1) صاح القس متفاجئا وشرح للضابط الذي كان أقل دراية منه بالتوراة أن معجزة كهذه قد حدثت قبل ما يزيد عن ألفي سنة في ما مضى حين نطقت فجأة إحدى الدواب كما ينطق الحكماء تماما. لكنه كان يلعب بثقة تامة. وأصبح لدى القس الذي كان يدرك أفضل من أي شخص آخر مدى غباء تلميذه، فضول كبير المعرفة إلى أي حد ستظل هذه الموهبة الفذة والمنحصرة في مجال واحد صامدة بشكل حقيقي. حيث يوجد لاعبون مهووسون بالشطرنج كانوا يتجمعون في ركن من مقهى الساحة الكبرى، بقي الصبي مزروعا في أحد الأركان، وعيناه مسترتان في الأرض إلى أن دعاه أحدهم إلى إحدى طاولات اللعب. القس. وانتهت الجولة الثانية بالتعادل في مواجهة أمهر اللاعبين ومنذ بداية الجولتين الثالثة والرابعة هزمهم جميعا واحدا تلو الآخر. وأججت بدايات هذا البطل القروي على الفور عاطفة قوية في نفوس الوجهاء المجتمعين فقرروا بالإجماع أن يستبقوا هذا الفتى المعجزة في المدينة حتى صباح الغد ليتمكنوا من جمع أعضاء النادي الآخرين وخاصة الكونت سيميكزيك العجوز المولع بالشطرنج والقابع في قصره. أما القس الذي بدأ ينظر إلى قرة عينه بكل فخر، وأعلن أنه لا يمانع بقاء ميركو وحده لينازل بقية اللاعبين. وفي تلك الليلة اكتشف حماما حقيقيا لأول مرة في حياته. في ظهيرة يوم الأحد كانت القاعة مكتظة باللاعبين. وقد ظل ميركو جالسا أمام رقعة الشطرنج بلا حراك وهزم كل منافسيه واحدا بعد آخر دون أن ينبس بكلمة واحدة أو أن يرفع عينيه. وقد تطلب الأمر وقتا طويلا حتى يدرك هذا القروي الأبله معنى ذلك. وما إن فهم ميركو أنهم يريدونه أن يلاعب وحده وفي الوقت ذاته عددا متفرّقا من اللاعبين حتى قبل على الفور وأخذ ينتقل من طاولة إلى أخرى وحذاؤه الثقيل لا ينقطع عن إحداث الصرير. آنذاك، تطوع متعهد حفلات اسمه كولر كان معروفا بوكالة المغنيات والنجمات في حانة الغرنيزون، ووافق على أن يعهد بالصبي إلى أستاذ مرموق كان يعرفه في فيينا، وهو خبير في فن الشطرنج، وبما أن الكونت سيميزيك لم يلتق طوال ستين سنة من الممارسة اليومية لفن الشطرنج بمنافس مثله، فقد تقدم ودفع المبلغ المطلوب فورا. ومنذ تلك اللحظة بدأت بالفعل المسيرة المدهشة لابن البحار في الطريق إلى قمة المجد. إلا وكان ميركو ملما بكل أسرار لعبة الشطرنج، ولو أن إتقانه لها ظل بصفة محدودة جعلت مجموعة من العارفين في هذا المجال يتخذونه موضع سخرية في مجالسهم بعد ذلك. لقد كان عاجزا وكان يجب أن يشاهد بعينيه وبشكل دائم الرقعة الخشبية البيضاء والسوداء بمربعاتها الأربعة والستين وأحجارها الاثنين والثلاثين، ولكن هذا القصور لم يعق ميركو عن تسلق سلم الشهرة بشكل انتزع ما يقارب عن اثنتي عشرة جائزة وعندما أدرك الثامنة عشر كان بطل النمسا. ولم يبلغ العشرين إلا وهو بطل العالم. وهكذا اقتحم المجلس المجيد لأساتذة الشطرنج، المجلس الذي يجمع كل المثقفين على اختلاف توجهاتهم من فلاسفة وعلماء رياضيات. حتى إذ حالما ينهض من أمام رقعة الشطرنج في الجولة الثانية، لقد كان أخرق وعنيفا بكل وقاحة لا يطفح في الغالب بغير الجشع والدناءة والقبح، ومثل كل المتصلبين العنيدين لم يكن ينتابه أي إحساس إزاء سخرية الآخرين، ذلك أن شعوره بالانتصار على كل هؤلاء الخطباء والكتاب الأذكياء الباهرين ودحرهم على أرضهم، حوّل خجله الفطري إلى كبرياء فاتر لطالما كان يظهر بطريقة فظة.