إذا لَقُوا صاحبهم ذاك الذي كان يسكن غرفةً في أقصى الرَّبع من يمين، وكان صاحب الغرفة اليمنى رجلًا متوسط السن قد جاوز الأربعين من غير شكٍ ولكنه لم يبلغ الخمسين. فقد كان له زوج وكان له بنون، فلم يكن الانتقال إليهم والارتحال عنهم يكلفان الرجل جهدًا ثقيلًا أو نقدًا كثيرًا. وكان ككثير من أهل إقليمه يملك قطعة أو قطعًا صغيرة من الأرض، وقد أصهر إلى رجل يملك قطعة أو قطعًا من الأرض أيضًا، فلم يكن فقير الحال كما كان يُقال في ذلك الوقت، وكان قبل كلِّ شيءٍ مقتصدًا يوشك اقتصاده أن يبلغ البخل. وكان ذكائه أضأل من إقباله على الدرس، واستعداده لفهم العلم أقل من إقباله عليه، فقد أنفق في الأزهر أكثر من عشرين سنة ولم يتقدَّم للامتحان، ومن جهة أخرى بالتملُّق وحسن الحيلة والمهارة في التوسُّل إلى الممتحنين. وكان يبتدئ عامه الأزهريَّ مصممًا على أن يتأهَّب للامتحان، فيتفق مع جماعة من أصدقائه على أن يقرأ معهم طائفة من الكتب التي لم يكن بدٌّ من إتقانها قبل التقدُّم للامتحان، فيهمل ثم يكسل ثم ينصرف عن الدرس إلى غيره من شئون الحياة. فلم يمنحه من نباهة الذكر ومن هذا الذكاء الخدَّاع ما يلفت إليه الشيوخ، مع أنه في حقيقة الأمر ليس أقل من أصدقائه فهمًا للعلم، ولا قدرة على التصرف فيه. ولم يكن يُخفي إذا تحدَّث إلى أصدقائه الشباب أنه كان يعرف الطريق المأمونة المضمونة إلى الدرجة، ولكنَّ نفسه لم تطب قطُّ عن بيع قيراط أو قيراطين ليظفر بهذه الدرجة التي تمنحه لقلب العالِم، كما ابتسم لصديقه ومواطنه فلان في العام الماضي؛ فقد أقام صديقه هذا طالبًا للعلم ربع قرن، ثم تقدَّم فجأةً إلى الامتحان فلم يجُزْه ناجحًا فحسب، ولو أنه أحسن التقرُّب إلى فلان من أعضاء اللجنة لظفر بالدرجة الأولى. فلينتظر إذن كما انتظر صديقه، ولعل الحظَّ أن يواتيه كما واتى صديقه، فالأمر كله إلى الحظ أيها الأصدقاء؛ فقد درست كما تدرسون وتعبت كما تتعبون، وأنا أتمنى أن يكون حظكم خيرًا من حظي وإن كنت لا أثق بذلك ولا أطمع فيه. فقد كان يتحدث في هدوءٍ شديدٍ وصوت هو إلى الخفوت أقرب منه إلى الجهر، وقد مرَّت على أصدقائه فلم تضحكهم ولم تلفتهم، ولكنهم رأوه يضحك فوجموا، فقد كان يبدؤه عاليًا ثم يقطعه ويضحك صامتًا لحظة، ثم يستأنفه عاليًا ثم يقطعه ويمضي فيه صامتًا، وكان الطلاب إذا خَلَوْا إلى أنفسهم أعادوا أحاديثه، وقلَّدوا ضحكه وقضوا في ذلك ساعةً مسلية سارَّة. فقد كان صاحب لذة بل صاحب إغراق في اللذة وتهالك عليها. ويستمتع بتفصيل هذا الحديث كما يستمتع بلذاته نفسها أو أكثر مما يستمتع بلذاته نفسها. وكان يذكر لذَّاتِه إذا جلس إلى طعامه الدسم في القرية وإلى طعامه الخشن في المدينة، وإذا وقف في الرَّبَع نفسه يستنشق الهواء وألقى عينيه إلى الطبقة السفلى، فلم يكن يرى امرأة في الشارع أو الحارة أو الربع إلا فصَّلها بعيْنه تفصيلًا، ولم يكن يُسمِّي المرأة امرأة ولا سيدة ولا أنثى، ولم تكن المرأة النحيلة تعدل عنده شيئًا، وإنما المرأة كل المرأة من ضخمت حتى اكتظَّت أعضاؤها بالشحم واللحم، وكان يشبهها بالوسائد حينًا وبالحشايا حينًا آخر. وكان يستدل على مذهبه هذا بقول كعب بن زهير في صاحبته سعاد: هيفاءُ مُقبلةً عجزاء مدبرةً لا يُشتكى قِصَر منها ولا طول ويُرسل الضحك ثم يُمسكه، وما تشذ عنه من أصوات القوم نبرة. وكان يقول في نفسه: لو عرف هؤلاء الرجال مقدار ما أسمع لهم وما آخذ عنهم لاجتنبوا أن يُديروا مثل هذه الأحاديث بمحضرٍ من الصبية الناشئين. وقد أنفق الرجل منذ عرفه الصبي أعوامًا في الربع اختلفت عليه فيها شئون كانت كلها تُضحك في ظاهر الأمر، وكان المال، والمال وحدَه، وكان صاحبَ لذةٍ بأدق ما تؤدي هذه الكلمة من معاني الاستجابة للحس والطلب لهذه المُتع القريبة التي لا تحتاج إلى رقة نفس ولا إلى دقة عاطفة ولا إلى صفاء ذوق. وكان طلبه للعلم وانتظاره للدرجة وسيلة من وسائله — أو قُل غاية من غاياته — يستريح إليها إذا جَدَّ في تحصيل المال حتى أعياه الجِدُّ، ويشاركهم في بعض الطعام ويشاركهم في بعض الشاي. له نزعات صوفية غريبة تخرجه بين حين وحين عن أطواره هذه كلها، ويفرض عليها عذاب الحرمان والجوع. وقد اختلف مع حَمِيهِ ذات يوم في بعض الأمور، وزهد في زوجه الفلاحة، ويُصهر إلى أسرة متحضرة متأنقة، وصرف عن لذة الطعام والشاي؛ لأنه أحس أن الحظ سيواتيه إن تقدم للامتحان، وأمامه أشهر يستطيع أن يستعدَّ فيها، ولهذه المواد التي كان يتألف منها «التعيين». وقد فعل، وكان قد دَبَّر لنفسه حيلة ظريفة طريفة يستريح بها من اللجنة إن اشتطَّت عليه، فاشترى بِطيخة أو جماعة من البطيخ وتركها قريبًا من غرفة الامتحان، وزعم للجنة حين أُدخل عليها أنه مريض بسَلَس البول، واستأذنها في أن ينصرف كلما اضطرته علته إلى الانصراف، وقد رحمته اللجنة وأذنت له أن ينصرف كلما دعته علته إلى ذلك. فكان يأخذ في تقرير الدرس ويأخذ في محاورة الممتحنين إن ألقى عليه أحدهم هذا السؤال أو ذاك، ثم يقطع تقريره أو حواره فجأة ويستأذن في الخروج، فإذا خرج لم يذهب إلى حيث يرضي حاجة أو يَشفي علة، وإنما ذهب إلى حيث يصيب مقدارًا من البِطيخ يبرِّد به قلبه ويشحذ به ذهنه ويسترد به خاطره كما كان يقول، ثم عاد إلى اللجنة فاستأنف التقرير أو الحوار من حيث قطع التقرير أو الحوار. فقد أُتيح له النجاح وظفر بالدرجة الثالثة وأصبح من العلماء. وتفرق عنه أصدقاؤه مع الصيف، فاعتزم أن يعتكف في المسجد أيامًا يروض نفسه فيها على الصلاة والصوم وذكر الله. وقد فعل، فلما عاد إلى أهله أنكروه، فعادت إليه نفسه الفلاحة المتهالكة على اللذات، وأدركته حميَّته الريفية، ثم أسرف على نفسه أشد الإسراف فيما أطفأ به نار هذا الإفطار من شايٍ، فلما استقرَّ هذا كله — أو اضطرب — في جوفه عاد إلى أهله فائرًا ثائرًا، وانتهى أمره إلى أن همَّ بأن يثب من النافذة لولا أن أدركه بعض أعضاء الأسرة فردوه عن ذلك بعد جهد وأوثقوه، وإذا هو مجنون قد ذهب عقله. وما ينسى الصبي ذلك الصوت الذي كان يصل إليه ذات ليلة بعد أن صُلِّيَت العشاء، والذي وقف له أولئك الشباب من الطلاب واجمين محزونين تريد دموعهم أن تنهل فلا يمسكها إلا الحياء. ثم خرج منه وقد تغيرت حاله كلَّ التغيير؛ وهدأت حركاته وانقطع ضحكه، وقد مضت الأيام بما تمضي به من الأحداث، وتفرَّق عن هذا الرجل أصدقاؤه الشباب، وأنبأ المنبئ ذات يوم بأنه قد مات.