موقف ماركس المناهض لمثالية هيغل موقف ماركس المناهض لمثالية هيغل موقف كارل ماركس المناهض لمثالية فريدريش هيجل: 1- تمهيد: لقد كانت فلسفة هيجل متشبعة ببعد تأمّلي متعالي عن التجربة الإنسانية الحسيّة الواقعية في كتابه الموسوم: فينومينولوجيا الرّوح، إلخ، أي وصف الظواهر الطبيعية بصفة عامة. لكن، بعدما تساءل هيجل قائلاً: أين الظواهر؟ هل هي في الطّبيعة أم في النّفس العارفة، أي النفس المدركة؟ قام بردّ الظّواهر إلى ظواهر الذّات، مبيّنًا أنّه لا توجد ظواهر موضوعية غير مدركة، كما أنّ الموضوع هو أيضًا جزء من الذّات. من هنا تشكلت الثنائية الهيجلية المتمثلة في الدّياليكتيك القائم بين الذّات العارفة وموضوع المعرفة، بعد أن نجح هيجل في بناء هذه الأنا الترنسندنتالية في فينومينولوجيا الرّوح، لتظهر لنا، عظمة الفلسفة الغربية في العودة إلى الأنا الترنسندنتالية، ومن خلال هذا المنطلق، نفهم بأنّ هيجل يريد أن يفهم الواقع الخارجي المحسوس عن طريق العقل (الرّوح)، وكلّ ما هو عقلاني واقعي" وراح يحصر عمل الإنسان في ملكة الإدراك. من هنا، اتخذ (كارل ماركس)-(1813-1883)، Karl Marx) انطلاقته في نقد مثاليّة هيجل الموضوعيّة من هذه الفكرة التي تصف لنا هيجل وكأنّه يردّ الإنسان إلى ملكته العقلية في حين أنّ ماركس يؤكّد في العديد من مؤلّفاته أولوية العالم الخارجي عن الذّات العارفة، ولكن ما نلاحظه وما نستشفّه من خلال مؤلّفات ماركس هو أنّ موقفه المناهض لمختلف المنظومات الفلسفيّة المثاليّة لم ينصهر فقط في مثل هذه الأشكال المثاليّة، Ludwig Feuerbach) الحدسيّة. إنّ هذا العامل يدفعنا إلى تعيين الملامح الإبيستيمولوجيّة التي تميّز المنظومة الفكريّة الماركسيّة حيث دعت بنا الضّرورة المنهجية إلى عرض فلسفة ماركس عرضًا موضوعيًّا علميًّا خاليًا من كل المواقف الإيديولوجيّة بالمعنى السّلبي. لكن قبل الشّروع في ذلك، ينبغي علينا أن نطرح الإشكاليّة الآتيّة: إذا كان ماركس مناهضًا لكل من الفلسفة المثاليّة والفلسفة الماديّة على حدّ سواء، في الحقيقة، إنّ موضوع بحثنا هذا يحدّد لنا منذ البداية تلك المحاور التّحليليّة الهادفة إلى كشف حقيقة الفكر الماركسي بالمعنى الدّقيق، وعن طريق إماطة اللّثام عن نقده المصوّب إزاء ماديّة فيورباخ الحدسيّة التي جاءت لتؤسّس صرح فلسفي جديد ينتقد من خلاله مثاليّة هيجل. وبالتّالي، ذلك لأنّ العالم الخارجي هو هنا أمامنا ومعنا، "إن النظرة الجدلية إلى الواقع وإلى الحقيقة لا يمكن أن تنفصل عن التطبيق فالنظرية والتطبيق مبنيان على فكرة أساسية هي فكرة التجاوز الذي يربطهما لأنه نظري وعملي في نفس الآن، موجود في التاريخ وفي الواقع. ص: 51) ولا ريبة، في أن أول خطوة خطاها ماركس في نقده لمثالية هيجل، وأنها تعد الأساس الذي يقوم عليه النقد الفلسفي، هي نقد الدين، "اللاهوت أضحى يمثل حقيقة تؤسس عليها الفلسفة، من جهة، وكونه يعد أصل كل استلاب من جهة أخرى. 1968, p. 1) ومما تجدر الإشارة إليه، إن دور الديالكتيك يتمثل في تحقيق التجاوز "والتجاوز الماركسي يشمل على نقد التركيب الهيجلي. يجب أن يتجاوز الدين [. بواسطة الفلسفة. وتجاوزه يكمن في زواله. فالاستلاب الديني أساس لكل استلاب ولذلك يجب أن يقضى عليه. وللعلم لم يتوقف ماركس عند هذا الحد بل يصرح بضرورة تجاوز الفلسفة، هذا الأخير الذي يفسر الظواهر الطبيعية والمضاهر الاجتماعية باعطاءها أبعادا مثالية متعالية مفارقة للوجود البشري. لأن ماركس يؤكن دائما بوجود ما هو إنساني في الوعي، [. ولا شك، أننا في هذا السياق، p. 16) في الحقيقة، تعد هذه القضية المسألة الجوهرية في بحثنا هذه والتي سنتطرق لها بكل دقة. هكذا كان من اللّزام علينا تفادي كلّ مفهوم فلسفي بإمكانه أن ينفي تصوّر ماركس الجديد لبناء فلسفة جديدة تؤدّي رسالة التّغيير الاجتماعي وتتجاوز مفهوم تفسير العالم. بتعبير آخر، تفدي كل تلك الأنساق المجرّدة التي تقف كعائق أمام الفلسفة العلميّة الثّوريّة التي تتلخّص وظيفتها الجوهريّة في تحليل الواقع وكشف حقيقة بنياته التّحتيّة الخفيّة بغية تغييره، خاصة عندما تستدعي الضّرورة ذلك. أي وجب علينا، بكلّ أبعادها الاجتماعيّة والاقتصاديّة والنّفسيّة، بحكم أنّها هي التي تحدّد طبيعة الذّات الإنسيّة وتعطي لنا الوجه الحقيقي لمعنى الإنسان والتّاريخ في آن واحد. 2- انفصال ماركس عن مثاليّة هيجل: أمّا ماركس وإنجلز فقد تنكّروا بهذا الإدّعاء الذي لا أساس له، ويتوصّل إلى استنتاج علمي بصدد الدّور الحاسم للإنتاج المادي في الحياة الاجتماعيّة، 2007، ص:168)، "استنتاج أولويّة الوجود وثانويّة الوعي من النّاحيّة الفلسفيّة أو كذلك من النّاحيّة الفلسفيّة التّاريخيّة في آن واحد. وهما إذ ينتقدان الهيغليّين الشّباب الذين يستثنون علاقة الإنسان النّظريّة والعمليّة بالطّبيعة والصّناعة، فإنّهما يثبتان أنّه لا سبيل إلى فهم أيّ عنصر من العصور التّاريخيّة إذا انطلقنا من وعيه الاجتماعي (السّياسي، الأدبي، دون الاعتبار أنّ هذا الوعي نفسه ينبغي أن يحدّد تفسيره في تطوّر الحياة الاجتماعيّة الماديّة، " (المرجع نفسه) ليتّضح، أنّ الهيجليّون الشّباب هم في الواقع مثاليّون، ويمثّل هيجل – حسب ماركس - "الحدّ الأقصى الذي يمثّل الفلسفة الذّاتيّة والتّصوّرات الميتافيزيقيّة، وأنّه التّعبير الأعلى في المخيّلة التي تؤدي إلى اغتراب الإنسان. "(Jean Yves Calvez, 1974) وبالتّالي التّخلّي والرّحيل من مملكة الوهم الميتافيزيقي التي تمثل عائقًا أمام الإنسان يمنعه من استيعاب ذاته الإنسيّة وتجسيدها لتتخذ شكل الكلّي و حقيقتها الملموسة. هكذا "هاجم ماركس بنقده الفلسفة المثاليّة بصفة عامّة، كاشفًا عيوب التّصوّر الهيجلي للمطلق. " (Lefebvre, يفسره مفهموما الاستلاب والعمل بكيفية أخرى، أي بسلخها من البعد المثالي الهيجلي ورده إلى أصله المتمثل في لعبة الكلمات الآتية: الخضوع، علاقات اجتماعية، السيطرة، الأشياء. إلخ. فهذا هو إيمانويل رونو يقول في هذا الصدد يقول ما يلي: "يرى ماركس بأن مسألة خضوع الأفراد في علاقات الإنتاج الإجتماعية الرأسمالية غير مرتبطة بسيطرة مجموعة من الأفراد، في اطار المنظومة الرأسمالية الاجتماعية، " (Emmanuel Renault, 2011, pp. 17, 18) أما بخصوص مفهوم العمل، فقد تجاوز ماركس العمل بوصفه فينومينولوجيا كاشفة عن قدرات الإنسان الباطنية، إذ يكشف عن أمور تنبتي عليها المنظومة الرأسمالية التي تحول العمل من تحقيق الذات الإنسية إلى الإغتراب. كما يظفي فائدة تعود بالمنفعة على المؤسسات الرأسمالية. " (Karl Hermann Tjaden, 2008, pp. 117, وذلك ما يتّضح في كلامه الذي يرمي إلى استبدال الفلسفة المثاليّة بالفلسفة الماديّة، كونه مرآة عاكسة لتعاسة الشّعوب. من هنا، ينبغي تحويل النّقد الدّيني إلى نقد قائم على الحقّ، ومن النّقد اللاّهوتي إلى النّقد السّياسي. "(E. Balibar, 16) هو أنّ ماركس يركّز انتقاداته على مثاليّة هيجل باعتبارها أكثر المذاهب تأمّليّة تقدّمًا وأكثرها انتشارًا في السّاحة المعرفيّة، وذلك راجع إلى ارتباطها الوثيق بالدّيانة المسيحيّة. يقول ماركس في هذا السّياق ما يلي: "إنّ فلسفة التّاريخ الهيجليّة، هي مجرّد تعبير فلسفي عن المذهب المسيحي في صورته الألمانيّة الكاشف عن التّناقض القائم بين العقل والمادة، وبين اللّه والعالم، .. ، ففلسفة التّاريخ الهيجليّة تصادر مسبقًا على وجود عقل مجرّد أو مطلق، "(Karl et Friedrich, إذ ولدت من الدّن ونجمت عنه. Vladimir Ilitch Oulianov Lénine) يقول في هذا الموضوع عبارة شهيرة وهي: المثاليّة ليست سوى صورة مهذّبة ومنقّاة للدّين، هكذا ادعى المثاليّون ومن بينهم هيجل أنّ الكون خلق بواسطة روح ترفّ فوق الظّلمات والتي هي المطلق (اللّه) اللاّمادي، بمعنى أنّ المثاليّة الهيغليّة كما يرى ماركس هي شكل مهذّب من أشكال الدّين. " (بوليتزر، 2001، "إنّ فيورباخ هم الوحيد الذي له موقف رصين وصارم في نقده الموجّه للديالكتيك الهيجلي، وهو الذي قدّم اكتشافًا حقيقيًّا ومخلصًا في هذا الموضوع. . إنّ مساهمة فيورباخ العظيمة بخصوص هذا الموضوع، والتي أثّرت فينا بعد ذلك، -أنّه برهن وأثبت أنّ الفلسفة ليست أيّ شيء آخر، فهي تمثّل فقط الدّين الموضوع في شكل أفكار والمطوّر بواسطة عمليّة التّفكير، والذي يعكس شكلاً آخر ومجالاً آخر للوجود المتمثّل في اغتراب الإنسان عن ماهيته الحقيقيّة. هكذا قام فيورباخ بتفسير الديالكتيك الهيجلي (حيث أسّس فيما بعد نقطة انطلاق بنّاءة وإيجابيّة) قائلاً: إنّ هيجل، وعن العالم المجرّد، وبالتّالي، فإنّ رسالته الفلسفيّة تحمل في طيّاتها معان دينيّة لاهوتيّة. إنّ هذا العامل اللاّهوتي أدّى بفيورباخ إلى التّفكير في ضرورة إلغاء اللاّمحدود، حيث اعتبر بأنّ الفلسفة هي إلغاء لكل من الدّين واللاّهوت. كما قام بإلغاء سمة الإيجابيّة في دياليكتيك هيجل، وأعاد تجديد كلّ من الدّين واللاّهوت. 108) والحقيقة أن ما رفضه ماركس في كتاب هيجل العمدة المعنون: "علم المنطق"، على الرغم التأثر الشديد به - مع العلم أن ماركس قد قرأ هذا الكتاب وسحر به حتى انعكس كتابه المعنون: المعالم والأسس العامة لنقد الإقتصاد السياسي بلغة هيجلية - هو إجتهاد هيجل من أجل تحويل العلاقات الإجتماعية، علاقات الإنتاج إلى مقولات فلسفية مثالية أكثر من ذلك خيالية ومجردة. وفي وصفه لهذه المسألة يقول ماركس ما يلي نص: بإمكان النزعة المثالية وقوة ملكة التجريد لدى أنصارها، اختزال كل هذه الكائنات المادية إلى مقولات منطقية؛ عالم المقولات المنطقية. " (Karl Marx, 1972, 116) وفي رده العنيف المناهض لهذه المسألة يقول ما يلي: "كل ما هو موجود في هذه الحياة، لا يمكن علينا أن نحكم بأنه يتمتع بوجوده، خارج نطاق النشاط الفيزيولوجي، 116) إن الفيلسوف هيجل الذي يرى - من خلال هذا المنظور المثالي - بأن " التاريخ لا يتجسد بما يضفيه عليه روح العصر، يعتقد أنه بصدد بناء عالم عن طريق ما يمليه عليه النشاط العقلي الفكري، في حين أن ما قام به، " (Ibid. p. كما يرفض أيضا مثاليّة هيجل من حيث أنّها تحصر كل أبعاد الإنسان في عمليّة الشّعور بالذّات فقط، وذلك ما كان يمثّل لبّ الدّراسة النّقديّة الماركسيّة إزاء منظومة هيجل النّسقيّة. يقول ماركس في هذا السّياق ما يلي: "يستبدل هيجل في كتابه «ظاهريّة الرّوح» الإنسان بالشّعور بالذّات، بالتّحديد، هي –حسب هيجل- منحصرة في الوعي الذّاتي للإنسان ولا شأن لها بالعالم الموضوعي. [. إنّ الهدف الذي يحذو حذوه هيجل، هو إرادته وإصراره على إثبات أنّ الشّعور بالذّات هو الواقع الوحيد والكلّي الممكن. "(Karl Marx, بحيث تمّ فصله عن العالم الخارجي المحسوس، لقد ردّ هيجل – حسب ماركس - في «ظاهريّة الرّوح»، بحكم أنّ ماركس ينطلق في كتابه: "الإيديولوجيّة الألمانيّة" الذي نشر عام 1846 من فكرة مهمّة جدًّا، مؤدّاها أنّ الأفراد الإنسانيّون اجتماعيّون بطبعهم، "هذه الصّلة التّي لا تتطابق ولا تتوافق مع جوهر الإنسان، أي مع وعي الذّات، 1972) ومن هنا، نفهم أنّ الإنسان، في الأصل، هو إبن الطّبيعة والمجتمع الذي يشترك فيه الحياة مع أقرانه، وذلك نظرًا لكونه "مدفوع بالقوى الطّبيعيّة، القوى الحيويّة. ، يتمتع بكيانه المادي المتشكّل من أعضاء الجسم والدّم والعظام، وموهوب بالقوى الطبيعيّة، حيٌّ، بمعنى، "(Ibid. pp. كما يعدّ، "كائنٌ يتمتّع بمجموعة من الحاجات والرّغبات، "(Lefebvre, 1964, p. 41) يواصل ماركس مهمّته في كشف عيوب النزعة المثاليّة، يعتبر موقف ماركس عدائي ومناهض للمثاليّين الذين على رأسهم (جورج باركلي)-(1684-1753)، ثمّ هيجل، وإذا كانت صيرورة التّاريخ لدى هيجل تقوم على العقل وحده، إذ ليس في وسعه توجيه نشاط الإنسان صوب تحقيق أهدافه بل على العكس من ذلك، يوجّه الإنسان التّاريخ على نحو تحقيق مقاصده، لذا فإنّ التّاريخ مجرّد إطار يعكس نشاط الإنسان الحيّ والفعّال والواعي والهادف. "(Marx et Friedrich, p. هكذا يعتبر الماديّون بأنّ الأصل هو الدّماغ (المادة أو العضو)، وأنّه ليسا بحاجة إلى أن يتجسّدا، ليست أفكارنا هي التّي تخلق هذه الأشياء، لكن العكس تمامًا، إنّ الأشياء هي التّي تعطي لأفكارنا بعدها الأونطولوجي المادي. "(Politzer, 60) إنّ هذه الحقيقة تجرّنا إلى القول، إنّ ماركس كان يقصد من خلال نقد النزعة المثاليّة، وبخصوص مسألة أسبقيّة الرّوح على المادة، أنّ "الديالكتيك في الفكر والوعي يعكس حركة المادة، وإذا تاريخ المعرفة والعلم يعرض ويقدّم لنا صيرورة ديالكتيكيّة (الثّورات، الصّراعات بين المتناقضات. إلخ)، أوّلي وجوهري يتمثّل في الوجود، بمعنى، 1964, التي تتألّف من دينامكيّة المادة في الواقع على نحو ما تمليه الشّروط الاقتصاديّة والاجتماعيّة والظّروف التّاريخيّة بصفة عامّة. على أساس هذه الفكرة يقيم ماركس صرح فلسفته الماديّة مناهضًا جميع الأنساق الفلسفيّة المثاليّة، في تعيّن أو تحديد طبيعة الأفكار والمبادئ التي تنتشر وتسود روح العصر. وبالفعل، هذا هو المعنى الذي نستشفّه من خلال كلامه الذي يلي: "ليس وعينا الذي يحدّد ويعيّن الشّروط الماديّة لحياتنا، إنما العكس من ذلك تمامًا، فالشّروط الماديّة ووجودنا الاجتماعي هو الذي يحدّد وعينا. "(Karl Marx, 1947, p. 5) إنّ من خلال هذا المنطلق وعلى أساسه يبدو هيجل بالنّسبة لماركس "في نهاية نقده، أعاد عمليّة بناء صرحه الميتافيزيقي المفعم بلأوهام. ألم يحاول هيجل إعادة بناء العالم الحسّي وعالم التّاريخ بردّه إلى الوعي الذّاتي للإنسان؟"(Jean yves Calvez, 1974, p. 48) نعم، فكما سبق وأن أشرنا إلى ذلك، تعدّ محاولة هيجل في ردّ الظواهر إلى الذّات وتعقّل العالم الخارجي وجعل كلّ ما هو واقعي عقلاني، من أجل بلوغ المطلق والكمال، السّبب الرّئيسي الذي جعل ماركس يتّهمه "بالتّصوّف والمشي على الرّأس [. ، إذ قال بأنّ منهجه الموسوم بالدّيالكتيك المادي مضاد مباشرة لمنهج هيجل في النّقد الدّيالكتيكي [. . كما صرّح في الأخير بأنّ غايته من كلّ هذا تتمثّل في جعل مثاليّة هيجل ماديّة، وذلك بغية مواجهة مختلف التّناقضات الاجتماعيّة-الاقتصاديّة السّائدة في العالم المادي الملموس. "(E. وبالإضافة إلى ذلك، لقد عرفت مثاليّة هيجل نقدًا لاذعًا في الوقت الذي كان فيه ماركس يكتب مؤلّفه الضّخم الموسوم "رأس المال. مساهمة في نقد الاقتصاد السّياسي"، أي في المجلّد الأوّل والجزء الأوّل منه. والدّليل على ذلك نعثر عليه في كلام ما نصه ماركس: "على الرّغم من أنّ طريقتي الدّيالكتيكيّة لا تختلف عن الطّريقة الهيجليّة من حيث الأساس، إلاّ وأنّني عمدت إلى نقد الجانب الصّفي فيه، حتّى أصبحت طريقتي تمثّل ندّها تمامًا، وما الواقع إلاّ الشّكل الحادثي للفكرة، فإنّني أرى العكس من ذلك، منقولة إلى الإنسان ومستقرّة فيه، فما علينا إلاّ أن نعمل على إعادته يسير على قدميه، لكي نرى له هيئة معقولة تمامًا [. له علاقة مباشرة مع الأوضاع القائمة" (كارل ماركس، 23)، ولكن الاختلاف الذي يكمن بين كلّ من هيجل وماركس بخصوص مفهوم الثّورة هو أنّها تتخذ انطلاقتها بالنّسبة للأوّل من العالم المثالي بوصفها تهدف إلى تنظيم العالم، البروليتاريا التي تثور ضدّ أوضاع الفقر والبؤس واللاّمساواة وضدّ ميكانيزم الملكيّة الخاصّة، والبورجوازيّة التي تمتلك القوى المنتجة وموضوعات العمل ملكيّة خاصّة. إنّ ماركس يؤكّد بأنّ الثورة تنفجر إثر هذا التّناقض الجوهري الذي تحمله المنظومة الرّأسماليّة في طيّاتها، وبالضّبط بعد إدراك الطبقة العمّاليّة بأوضاعها المزريّة والتّناقضات الاجتماعيّة-الاقتصاديّة التي تشكّل بنية المنظومة الرّأسماليّة الليبرالية، والتّناقض القائم بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، والعمل الجماعي من جهة والرّبح الخاص من جهة أخرى. 1980) والأساس الواقعي الذي يقام عليه البناء الفوقي القانوني والسّياسي التي يتماثل معها أشكال محدّدة للوعي الاجتماعي. "(Karl Marx, p. 5) فعلى الرّغم من كونه يمثل ردًّا عنيفًا ومرهقًا على "فلسفة البؤس" لبرودون، إلاّ أنّه يوجّه دائمًا سهام نقده إزاء كلّ فلسفة تقوم على أساس البحث الميتافيزيقي، "إنّ الصّيغة الهيجليّة ليست ثلاثيّة إلاّ بفضل رغبة المعلّم الطّيبة أو خطأه، إنّها تشير إلى تذبذب أو تضاد قابل لإحداث توازن فحسب. ص:12) الموضوعة والنّقيضة، إنّه خطأٌ في المنطق بقدر ما هو خطأ في التّجربة، لكنّني عدت عنه اليوم. لا حلّ للمفارقة، إنّ التّوازن ليس تركيبًا، "(كارل ماركس، دون تاريخ، من منطلق أن هذا الأخير، ولا سيما في كتاب فنومنولوجيا الفكر، ذلك أن (الفكر) هو الذي ينتقل بفاعليته المستمرة من اليقين المباشر إلى المعرفة المطلقة. وبكلمة دقيقة، 40) تنهض فلسفة ماركس المادية لتقع في ملتقى المادية والمثالية. وتؤكد، أن النظرية المثالية تعترف بالدور البارز الذي تضطلع به الفاعلية البشرية ولكنها تحدد هذه الفاعلية بالفاعلية الذهنية وتتغافل، عن العالم المشخص. وفي هذا السياق نعثر على نص مهم لماركس يصف فيه الطابع المثالي الذي تكتسيه طريقة هيجل في التفكير، وذلك في كتابه الموسوم ب: "بؤس الفلسفة" حيث يقول ما يلي نصه: "إذا كان الإنجليزي، يحول، الناس إلى قبعة لا يرتديها إلا الرجل البورجوازي، من خلال منهجه المثالي، موظف البنك الثري والإقتصادي المتميز؛ بينما الألماني، فهو فريدريش هيجل، " (Karl Marx, p. نجد بأن صديقه فريدريك إنجلز هو أيضا بدوره يصف طريقة هيجل في التفلسف بالخطأ المثالي للهيجيلية، " إن الحكم بأن هيجل مثالي، إن دل على شيء فإنما يدل على أنه عوض أن يعتبر أفكار روح عصره كانعكاس مجرد للأشياء وصيرورة الوقائع القائمة، نجده، يعتبر الأشياء وتطورها كأنها صور بسيطة مطابقة لعالم الأفكار موضوعة متواجدة لكننا لا نعي مكان تواجدها: قبل أو بعد هذا العالم الذي نعيشه. وعليه، وبالنسبة لتسلسل الوقائع العالم فهي أيضا متعاكسة بأكملها. "ليس في متناولنا البحث عن الأسباب المتعلقة بالتحولات الاجتماعية وكل الانقلابات السياسية في عقول الناس وفي فهمهم المتنامي لمفهوم الحرية و العدالة الخالدة؛ لكن، عملية البحث هذه تستوجب علينا العودة إلى التحولات التي يعرفها نمط الإنتاج والتبادل. لا يجب علينا التركيز في بحثنا عن هذه الأسباب في الفلسفة، لكن، في اقتصاد الحقبة التاريخية العالقة بدرجة عالية بتلك التغيرات الاجتماعية والسياسية. " (Ibid. 91) نفهم، من خلال هذا النص، من قبل، صديقه ماركس في كتابين له موسومان ب: "الإديولوجية الألمانية" الذي تم نشره عام 1845، وثم بعده "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي" سنة 1857. "ليس وعينا هو من يحدد شروطنا المادية في الوجود،