لَيْسَ مِنَ الغَريبِ أَنْ يَتَناوَلَ الإِنْسانُ مَوضوعًا كَالفُكاهَةِ وَصِناعَةِ الضَّحِكِ مِنْ بَيْنِ مَوضوعاتٍ أُخرى لَها أهمِّيَّتها وَوَزْنُها، إلّا أَنَّ الأَمْرَ مُخْتَلِفٌ تَمامًا حينَ نَتَناوَلُهُ مِنْ زاوِيَةٍ أُخْرى، فَالفُكاهَةُ تَضْرِبُ بِجُذورِها في أَعْماقِ الطَّبيعَةِ الإِنْسانِيَّةِ، يُحَمَّلُ في رِسالَةٍ اجْتِماعِيَّةٍ يُقْصَدُ مِنْها إِنْتاجُ الضَّحِكِ أَوِ الاِبْتِسامِ. وَهِيَ في أَوْضَحِ تَعْريفاتِها: مَلَكَةٌ عَقْلِيَّةٌ خاصَّةٌ بِالاِكْتِشافِ والتَّعْبيرِ وَالتَّذَوُّقِ لِلأُمورِ المُضْحِكَةِ، بِاسْتِخْدامِ أَدَواتٍ تَتَمَثَّلُ في الأَفْعالِ وَالكِتابَةِ وَالكَلامِ. ظَهَرَتْ فيها عَلى شَكْلِ نُكْتَةٍ وَظَرْفٍ أَوْ دُعابَةٍ، أَو أَعْمالٍ فَنِّيَّةٍ مُتَنَوِّعَةٍ كالمَسْرَحِ والكاريكاتيرِ، فَهِيَ حاضِرَةٌ في مَظاهِرِ حَياتِنا كافَّةً؛ وَفي حالاتِ الفَرَحِ وَالتَّرْويحِ، وَحالاتِ المَشَقَّةِ وَالأَزَماتِ النَّفْسِيَّةِ، فَقَدِ اهْتَمَّ بِها مُنْذُ القَديمِ فَلاسِفَةٌ وأُدَباءُ بارِزونَ أَمْثالُ: الجاحِظِ وَأَفْلاطونَ، أَمّا في الزَّمَنِ المُعاصِرِ فَيَتَمَثَّلُ الرَّأْيُ الغالِبُ في عِلْمِ النَّفْسِ في النَّظَرِ إِلى الفُكاهَةِ عَلى أَنَّها أَحَدُ أَهَمِّ أَسالِيبِ المُواجَهَةِ، الّتي يَسْتَعينُ بِها الإِنْسانُ في التَّغَلُّبِ عَلى بَعْضِ آلامِهِ النَّفْسِيَّةِ الخاصَّةِ، كَما أَنَّها أَحَدُ الأَساليبِ الَّتي تَسْتَعينُ بِها المُجْتَمعاتُ في مُواجَهَةِ بَعْضِ مُشْكِلاتِها الاجْتِماعِيَّةِ والاقْتِصادِيَّةِ فَفي السَّنَواتِ الأَخيرَةِ أُسِّسَتِ الكَثيرُ مِنْ "أَنْدِيَةِ الضَّحِكِ" في أَماكِنَ عِدَّةٍ مِنَ العالَمِ، كَأُسْلوبٍ حَديثٍ لِمُكافَحَةِ ضُغوطِ الحَياةِ اليَوْمِيَّةِ، فَيَلْتَقي أَعْضاءُ هذِهِ الأَنْدِيَةِ دَوْرِيًّا مِنْ أَجْلِ أَنْ يَقْضوا الوَقْتَ في الضَّحِكِ، لِلشُّعورِ بِالارْتِياحِ فَقَطْ. وَأَصْبَحَتْ بَعْضُ شَرِكاتِ الطَّيرانِ تُعَيِّنُ بَعْضَ المُهَرِّجينَ لَلتَّرويحِ عَنِ الرُّكّابِ وَإِضْحاكِهِم، وَفي عامِ 2001 م قامَ في العاصِمَةِ الأَلْمانِيَّةِ "برلين"، مَجْموعَةٌ مِنَ المُتَخَصِّصينَ في العِلاجِ الجَماعِيِّ لِلانْهيارِ العَصَبِيِّ، وَهَدَفُها مُساعَدَةُ الأفَرادِ الّذينَ يُعانونَ مِنَ الانْهيارِ العَصَبِيِّ عَلى تَجاوُزِ آلامِهِمُ النَّفْسِيَّةِ، وَمِنَ الغَريبِ الطَّريفِ قِيامُ هذِهِ الجَوْقَةِ بِتَسْجيلِ اسْطوانَةٍ مُدْمَجَةٍ لأَغْراضِ العِلاجِ النَّفْسِيِّ، تُصاحِبُها أَنْغامٌ مِنَ الموسيقا الكِلاسيكِيَّةِ. كَما شَهِدَتْ مَدينَةُ "بال" السّويسريَّةُ في عامِ 1997 م أوََّلَ مُؤْتمََرٍ عالَمِيٍّ مُخَصَّصٍ " لِلْفُكاهَةِ والعِلاجِ النَّفْسِيِّ". هَلْ تَمْلِكُ حِسًّا فُكاهِيًّا؟ فَيُحْسِنُ اسْتِغلالَها، فَهذِهِ الصِّناعَةُ لا تَتَطَلَّبُ مِنْكَ أَنْ تَتَعَلَّمَها أَو تَتَدَرَّبَ عَلْيَها، بَلْ هِيَ جانِبٌ خاصٌّ يُمَيِّزُ شَخْصًا عَنْ آخَرَ في القُدْرَةِ عَلى إِنْتاجِ البَهْجَةِ، وَصِناعَةِ الضَّحِكِ مِنْ أَيِّ مَوْقِفٍ مُضْحِكٍ أَوْ مُتَناقِضٍ غَيْرِ مَعْقولٍ. وهُناكَ ثَلاثَةُ مَعانٍ يَتَضَمَّنُها قَوْلُنا عَنْ شَخْصٍ ما إِنَّهُ يَتَمَيَّزُ بِ "حِسِّ فُكاهَةٍ": ب. المَعْنى الكَمِّيُّ: نَقْصِدُ أَنَّ هذا الشَّخْصَ يَضْحَكُ كَثيرًا، وَأَنَّهُ باحِثٌ عَنِ المَرَحِ وَالمُتْعَةِ والتَّسْلِيَةِ دائِمًا. فَهُوَ يَحْكي قِصَصًا مُمْتِعَةً مَرِحَةً، وَخِلافًا لِلْقاعِدَةِ المَشْهورَةِ الّتي نُرَدِّدُها دَوْمًا "فاقِدُ الشَّيْءِ لا يُعْطيهِ"؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ هُناكَ مِنْ ضَرورَةٍ تَجْعَلُنا نَقولُ إِنَّ مُبدِعي الفُكاهَةِ لا بُدَّ أَنْ يَكونوا أَكْثَرَ النّاسِ اسْتِمْتاعًا بِها، فَأَحْيانًا يَكونُ الأَمْرُ بَالنِّسْبَةِ إِلَيهِم "مُجَرَّدَ عَمَلٍ" وَروتينًا يُؤَدّى كُلَّ يَوْمٍ. يَقولُ بَعْضُ العُلماءِ: "إِنَّ الفُكاهةَ خِبْرَةٌ داخِلِيَّةٌ، وَإِنَّ الضَّحِكَ وَالابْتِسامَ مُحَصِّلَةٌ لَها وَاستجابَةٌ مَقصودةٌ ناتِجَةٌ عَنْها، وَهُما التَّعبيرُ الفِسيولوجِيُّ الجَسَدِيُّ لَها". لِذا فَالوُصولُ إِلى الإِتْقانِ في صِناعَةِ الضَّحِكِ لَيْسَ بِالأَمْرِ السَّهْلِ أَبَدًا، فَصُنّاعُ الضَّحِكِ في العالَمِ مِنْ حَوْلِنا يَتَمَتَّعونَ بِقُدْرَةٍ تُمَيِّزُهُم عَنْ غَيْرِهِم في مُلاحَظَةِ وَاكْتِشافِ التَّناقُضاتِ في الواقِعِ المُحيطِ بِهِم، وَيُجيدونَ الإِدْراكَ والتَّعْبيرَ والاسْتِمْتاعَ بِالفُكاهَةِ وَصُنْعِها وَفَهْمِها، وَيَعْلَمونَ جَيِّدًا أَنَّ الضَّحِكَ لُغَةٌ خاصَّةٌ، لَها قاموسُها وَمَعانيها الَّتي تَتَمَيَّزُ بِها عَنْ أَيِّ لُغَةٍ أُخْرى، إِنَّ هذِهِ القُدْرَةَ المُمَيَّزَةَ في فَنِّ الإِضْحاكِ تَرْتَبِطُ بِالفُروقِ الفَرْدِيَّةِ بَيْنَ الأَشْخاصِ في امْتِلاكِهِم حِسَّ الفُكاهَةِ، وَهِيَ لا تَأْخُذُ الاتِّجاهَ الباسِمَ فَقَطْ، بَلْ إِنَّها تَأْخُذُ في أَحْيانٍ كَثيرَةٍ الاتِّجاهَ الضّاحكَ السّاخِرَ تِجاهَ الحَياةِ وَنَقائِضِها، يُمْكِنُ أنْ تكونَ سَلْبِيَّةً عُدْوانِيَّةً أَحْيانًا، كَما في حالِ النُّكاتِ والسُّخْرِيَةِ والاسْتِهْزاءِ بِالواقِعِ مَثَلًا. وَمِنْ أَشهرِ صُنّاعِ الضَّحِكِ الَّذينَ عَرَفَتْهُمُ الثَّقافَةُ الحديثَةُ الكوميدِيُّ الإِنجِليزيُّ "شارْلي شابْلِنْ" الَّذي احْتَرَفَ هذا الفَنَّ، إِ لّّا أَنَّ فَنَّهُ الكوميدِيَّ انتشرَ في كُلِّ دُوَلِ العالَمِ، وَقَدْ يَكونُ السَّبَبُ وَراءَ ذلِكَ أَنَّهُ اعْتَمَدَ أُسلوبَ الإِضحاكِ الصّامِتِ، فَوائِدُ الضَّحِكِ: 1.آثارٌ اجْتِماعِيَّةٌ: أ. نَحْنُ نضحكُ في قاعاتِ المسارحِ أو السّينما معَ أُناسٍ لا نَعْرِفُهُم، لأَنَّ لَهُ صِفَةَ الانْتِشارِ خِلالَ عَمَلِيّاتِ الاتِّصالِ الصَّوْتِيِّ الاجْتِماعِيِّ، وَيُساعِدُ على مُواجَهَةِ وَمُقاوَمَةِ الأَمْراضِ النَّفْسِيَّةِ وَالأَزْماتِ الاجْتِماعِيَّةِ ت. الضَّحِكُ يُقَوّي التَّعاوُنَ الاجْتِماعِيَّ، وَيُيَسِّرُ التَّفاعُلَ بَيْنَ الأَفْرادِ وَالجَماعاتِ، وَيرفعُ مِنْ مُسْتَوى الدّافِعِيَّةِ لِلْعَمَلِ وَالإِنْجازِ. وَيُنَمّي الشُّعورَ بِفَهْمِ الآخَرينَ وَمَطالِبِهِم. ج. الضَّحُِك أَداةٌ خاصَّةٌ لِلْبَراعَةِ وَاللَّباقَةِ الاجتِماعِيَِّة، إِذْ يُمْكِنُ مِنْ خِلالِها تَلْطيفُ غضَبِ الآخَرينَ وهجومِهِمُ السَّلبيِّ، وتَحويلُهُ إلى حالَةٍ إيجابي 2 . أ. يعملُ الضَّحكُ على زيادةِ النشاطِ في المخِّ والجهازِ العصبِيِّ لِلْإِنسانِ. ب. يعملُ الضَّحِكُ على زِيادَةِ ضغْطِ الدَّمِ، ت. الضَّحِكُ من الانفعالاتِ الإيجابيةِ التي تعملُ على تعزيزِ الجهازِ المناعِيِّ لدى الإنسانِ وتَقْوِيَتِهِ. وقَدْ أصبحَ معروفًا أنَّ جهازَ المناعةِ يُصابُ بِالضَّعفِ عندَما تتوالى عليهِ الإحباطاتُ والهمومُ لفتْرَةٍ طويلَةٍ ومستمرَّةٍ. إنَّ الفُكاهةَ لا تقتَصِرُ على مجتمعاتٍ دونَ غيرِها، فما مِنْ جماعةٍ إنسانيَّةٍ إلّا ولَها حِسٌّ لِلْفكاهةِ خاصٌّ بِها، إذْ لِكُلِّ شخصٍ مِنّا معاييرُهُ الخاصَّةُ بِها، إلّا أنَّها تَبْقى اللُّغةَ المشترَكَةَ الَّتي تَفْهَمُها كُلُّ الشُّعوبِ على اختلافِ ألسنَتِها ولهجاتِها،