سمرت عينيها على الموقد المنطفئة جمراته منذ الصباح . حركت رأسها تباعا وهي تحس طعم الملح في فمها كلما توسدت أفكارها ذكرى ولدها العاق . اختنق الدمع في عينيها وضجت أعماقها المطعونة تتساءل ككل مرة :ـــ كيف استطاع أن يخلعنا من ذاكرته طوال هذه الفترة، وقد امتص الاحتياج عمرنا وحول أيامنا رمادا ؟أدارت العجوز التي تقبع في زاوية الكوخ رأسها نحو الباب وقد سمعت وقع أقدام شاحبة تقترب . ملأ زوجها المدخل منكس الرأس فكبر جرحها .طلع النهار وشوهد الشيخ يتكئ على عصاه منزلقا نحو الطريق المعبد . استوقف شاحنة حملته بكل وجعه نحو المدينة، أمضى الوقت يحدث السائق عن ابنه من غير سأم . وصل المدينة الكبيرة ضجيج السيارات ، لم يستطع التغلب على نداء بطنه . نظر إلى يده المعروقة تمتد في وجوه المارة تستعطي لقمة الخبز فملأ الذعر نفسه التي كانت تصرخ بالسؤال :ـــ أهذه يدك حقا طاوعتك وامتدت تستجدي الآخرين ؟بكى حتى غمرت الدموع مقلتيه ، فلم ير اليد التي أنزلت في يده دينارا .كسا العناء ملامح وجهه واختنق حلقه وهو يبحث عن ابنه بين الوجوه المتشابهة في الشارع الذي أرشد إليه . وعثر على البيت فلم يشأ أن يزعج أهله وفضل أن ينتظر نجله في الخارج . نزل المطر غزيرا وتمرغت الرياح فوق الثلوج وعادت تصفع الوجوه بوحشية . كان يتكور بالقرب من مخبزة حين رآه يعود وقد انسكب المساء على المدينة . أشرقت الفرحة في عيني الشيخ وانبثق أمل في قلبه دفعه نحوه بلهفة ، وظنه الابن متسولا فهرب بوجهه عنه إذ اعترض طريقه . سطا الحزن على فرحة الأب وتقلصت لهفته وهو يقول :ارتبك الابن وابتسم بمرارة ثم راح يداري خجله وهو يتلفت في كل اتجاه . قاده بعدها إلى شارع جانبي غادره الضوء وسلم عليه . نظر إلى أسفل فارتطم بصره ببنان والده تطل من النعل المطاطي المثقوب . رفع رأسه فالتقت عيناهما في صمت بارد . اتجها معا نحو البيت فأخرج المفتاح من جيبه وأداره في ثقب الباب . استقبلتهما امرأة ضاحكة فأشرق الضياء في وجه الشيخ الذي سأل :ـــ أهي زوجتك ؟ رد باقتضاب :ـــ اليوم عيد ميلادها الذي ستحتفل به مع جمع من أصدقائها ، ويجب أن ترحل من هنا حتى لا يقهرك الذهول مما ستراه وتسمعه.تظاهر بالبحث عن بعض الأوراق وتراجع خلفه طالبا من أبيه مرافقته للعشاء خارج البيت . رفع الشيخ عصاه وقد جلده التعب وسار يتبعه . اتجه نحو بناية كبيرة فصعدا بعض درجاتها ثم أشار إليه أن ينتظر في الرواق ، أجرى بعض الترتيبات وعاد إليه وقد انبعثت من عينيه لا مبالاة فجة :قال الشيخ والغبطة تفرش تجاعيدهتحجر قلب الشيخ وملأ طعم الرماد فمه فأحس نفسه معلقا في فضاء سديمي مضطرب ،