تَاقَتْ نَفْسي إِلَى جِلْسَةٍ تَأَمِّلِيَّةٍ عَلَى شَاطِئِ الْخَلِيجِ الْعَرَبِيِّ الَّذِي تُعَانِقُهُ دَوْلَةُ الإِمَارَاتِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَتَّحِدَة بمحبَّةٍ وحنانٍ ، وَتَغْفُوبَيْنَ أُخَضَانِهِ مدينةُ ( دُلَيّ ) بِطُمَأْنِينَةٍ وَسَكِينَةٍ وأَمَانٍ، أَخَذَتُنِي قَدَمايَ إِلَى رُكْنٍ هَادِئ عَلَى الشَّاطِئ حَيْثُ الرِّمالُ الدَّافِئَةُ آَلَّتِي أَحْبَبْتُها عَلَى إِمْتِدَاْدِ أَرْبَعَةِ عُقُودٍ وَنَيِّفٍ ، وَجَمَعَثُني بِهَا قِصَّةُ عِشْقٍ رَسَمَتَّهُ لَحْنا شَجِبًّا تَجَذّرَ في أَعْمَاقِي لَوْحَةَ حُبٍ ، وَإِطْلَالَةَ شَوْقٍ أُشَاهِدُها عَلَى صَفَحَةَ الْخَلِيجِ لَنْ يُدْرِكَها النِّسْيَانُ فَهِيَ بَوَّابَةُ الْقَلْبِ ، امَّتَدَّتْ عَيْنايَ لِلْأُفُقِ الْبَعِيدِ وَأَنَا أُنَاجي أَمْوَاجَ الْبَحْرِ في ارْتِفَاعِهَا وَانْخِفاضِها ، وَتَنْسِجُ مَعَهُ أَهْزُوجَةً الصَّفاءِ الأبَدِيّ ، وَلَوْحَةَ النَّقاءِ السَّرْمَدِيّ ، لِتَعُودَ بي الذِّكرى إِلَى تِلْكَ اللَّحْظَةِ الَّتِي حَطَّتْ بِهَا الطَّائِرَةُ في مَطارِ دُبَيَّ الدَّوْلَيِّ مَسَاءَ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ أَغُسُطُس عَامَ أَلْفٍ وَتِسْعمِنَةٍ وَثَمانِينَ ، تَنَفَّسَتُ هَوَاءَ مَدِينَةِ (دُبَيَّ) لَيْلاً لِلْمَرَّةَ الْأُولَى ؛ الْمَدينَةَ بِابْتِسَامَةٍ وَاسِعَةِ اِرْتَسَمَتْ عَلَى وَجْي فَرْحَةً عامِرَةً ، وَتَعَمَّقَتْ فِي قَلْبِي أَلَقًا وَسَعَادَةً غَامِرَةً ، وَأنَا أنْزَلُ سُلّمَ الطَّائِرَةِ تَأَمَّلْتُ صَفْحَةَ السَّمَاءِ في تِلْكَ اللَّيْلَةِ الصَّيْفِيَّةِ الصَّافِيَةِ، وَكَوَاكِبَهَا مُنِيرَةً ، إِنَّهُ شَلَّالُ نُورِرَبَّانِيَ يُعَانِقُ الْمَدِينَةَ ، يَتَدَفَقُ نَضَارَةً وَبَهَاءً ، وَعُذُوبَةً وَصَفَاء، وَيَمُنَحُ المَدِينَةَ دِثارًا ذَهَبِيَّا ، وَيُعانِقُ بِمَحَبَّةِ مَصَابِيحَ الْمَدِينَةِ فِي لَوْحَةٍ صافِيَةٍ نَقِيَّةِ ، تَشْتَدُ بِي الذِّكْرى وَ أنَا أَرْنُو لِأَمُواجِ الْخَلِيجِ ، حِينَما شَاهَدْتُ الْمَدِينَةَ فِي ذَلِكَ الْيَوْم ، هَتَفْتُ في نَفْسي "لِلَّهِ دَرّْكِ يَا دُبَي!" وَلَحَّنَ المجدِ والْإِبَاءِ ، يَخْتَلِطَ صَوْتُ الْمَوْجِ بِنَسَماتٍ حَالِمَةِ ، تُسامِرُني ذِكْرَى يَوْمِيَّ الْأَوَّلِ فِي دُبَي حينَها رافَقْتُ هُدوءَ اللَّيْلِ في هَزِيعهِ الْأَخيرِ، سَأَلْتُ سَائِقَ الْمَرْكَبَةِ الَّتِي أَقَلَّثْني مِنْ الْمَطارِ إِلَى أَحَدِ فَنادِقِ دُبَي عَنِ الْأَماكِنِ الَّتِي نَعْبُرُها لَيْلاً ، أَجَبْتُ : نَعَمْ ، اسْتَطْرَدَ قَائِلاً بِأُسْلوبِهِ الخاصِ : أَنا سائِقٌ مُنْذُ عَشَرِ سَنَواتٍ تَقْرِيبًا ، إِنَّهُ تَطَوُرٌ مُتَواصِلٌ ، وَالْقَدَرُ حَليفكَ ، سَوْفَ تَعِيشُ حَياةً مُسْتَقِرَّةً يَكْتَنِفُها الْأَمْنُ وَالْأَمانُ ، وَالشُّعورُ بِجَمالِ الْحَياةِ بصورِها وأشكالِها كافةً ، وَأَعْرَاقٌ مُتَبَايِنَةٌ ؛ يَنْعَمُونَ بِالْخَيْراتِ وَالْمَسَرَاتِ ، تَجْمَعُهُم قِيَمُ الْمَحَبَّةِ وَالتَّسامُحِ وَالْخَيْرِ وَالنَّقَاءِ . أَجَبْتُهُ وَأَنا أَشْعُرُ بِغِبْطَةٍ وَسَعَادَةٍ : إِنَّ هَذِهِ الْقِيَمَ هِيَ جَوْهَرُ الْأَدْيانِ الَّتِي تَسْمو بِالْإِنْسانِ فِي كُلِّ زَمانٍ وَمَكَانٍ عَلَى وَجْهِ كَوْكَبِنا الْأَرْضِيِّ ، وَتَأْخُذُنا نَحْوَ التَّالُفٍ وَإِعْمارِ الْأَرْضِ وَالْبِناءِ الْحَضارِيّ الَّذي تَنْتَفِعُ بِهِ الْبَشَرِيَةُ جَمْعاء بِمَحَبَّةٍ وَإِخاءِ . مَا زالَتْ مَضامِينُ كَلِماتِ السَّائِقِ تَتَرَدَّدُ فِي خاطِري " نَعَمْ ، يَتَجَسَّدَ هَذا السُّمُوِ ٱلْإِنْسَانِيُّ في مدينةٍ أَبْهَرَتِ الْعَالَمَ . وَتَرَبَّعَتْ عَلى عَرْشِ الْمُدُنِ ، وَتَتَجَلّى هَذِهِ الْأَبْعَادُ الْإِنْسَانِيَّةُ فِي الْإِمَارَاتِ كُلِّها . السِياحِيَّةِ ، فهي تَسْتَحِقُ الزِّيارَةَ ! لَقَضاءِ الْأَوْقاتِ الْمُمْتِعَةِ حَيْثُ الْفَنَادِقُ وَالْمَطَاعِمُ وَالْحَدَائِقُ وَالْأَسْواقُ التِّجارِيَّةُ . الْمُنْتَشِرَة فِي ( ديْرَة وَبَرّ دُبَي ) ، سَتَجِدُ فِي رُبوعِها مَا يَسُرُّكَ يا صَديقي . وَجَدْتُ نَفْسِي فِي حُجْرَتي بِأَحَدِ الْفَنادِقِ ؛ أَفْضِي لَيْلَتِي الْأُولى فِي دُبِي ، تَعُودُ ذاكِرَتي إِلَى مَقاعِدِ الدِّراسَةِ الثَّانَوِيَّةِ فِي أَوَاخِرٍ سِتْينِيَّاتِ الْقَرْنِ الماضِي حينَما يَتَهادى صَوْتُ مُعَلِّمِ الاجتماعِيّاتِ مُؤَكِّدًا بِأَنَّ مَدِينَةَ ( دُبَي ) مِنْ أَهَمّ الْمَحَطَّاتِ الْمُبشِّرَةِ بِمُسْتَقْبَلٍ عَالَمِيٍّ على ضِفافِ الخليجِ العربيِّ ، وَأَنِّ قِيادَتَها تَعْمَلُ بِثِقَةٍ وَاقْتِدارٍ عَلَى بُزُوغِ نَجْمِها فِي المَحَافِلِ الْمَحَلِّيَّةِ وَالْإِقْلِيمِيَّةِ وَالْعَالَمِيَّةِ ، وَمَا زالَتِ الذِّكرى تُخامِرُنِي عِنْدَما نَوَّهَ - أُسْتاذُنَا - بِأَنَّ مَرْحَلَةَ التَّطَّوُرِ الْحَقيقِيِّ وَالْمُتَنامِي تَدْرِيجِيًّا قُدْ انْطَلَقَ وَبِوَتِيرَةٍ عالِيَةٍ في الْعَامِ ١٩٥٩ تَزامُنًا مَعَ الْيَوْمِ الْعَالَمِيِّ لِتَخْطِيطِ الْمُدْنِ الَّذِي يُصادِفُ يَوْمَ الثَّامِنِ مِنْ نُوفِمْبرَ في كُلِّ عامٍ. تنْهَالُ الذِّكْرَياتُ شَلَالا مُتَدَفَقًا وَأَنا أُعانِقُ أَمواجَ الْخَلِيجِ ، كانَتِ اللَّيْلَةُ الْأُولى فِي دُبَيَ مَلِيلَةَ بِالتُّفْكيرِ وَالتَّأَمُلِ حَيْثُ سَأَعْمَلُ مَعَلّمًا لِلُغَةِ الْعَرَبِيَّةِ في وزارَةٍ لتَرْبِيَةِ وَالتَعْلِيمِ ، في صَبِيحَةِ الْيَوْمِ التَّالي تَعَرَفْتُ عَلَى تَفَاصِيل دُبَيَّ في رائِعةِ النَّهارِ، وَتُظْلِلُهُ قِيَمُ الْوِنامِ ، أَيْقَنْتُ وَأَنا أَتَأْمَّلُ مَعَالِمَ الْحَضَارَةِ الْمَبْثُوثَةِ فِي كُلَ الْأمَاكِنِ وَالْأرْكَانِ ؛ أَنَّ تَحَدِّياتٍ جَمَّةً رافَقَتْ عَمَلِيَّاتِ الْإِنْجَازِ، ذَللَتْها حِكْمَةُ الْمَغْفُورِ لَهُما - بِإِذَّنِ اللَّهِ تَعالَى - الشَّيْخ زايد بن سُلْطان أل نَهيان ، وَالشَّيْخ راشِد بِن سَعيد آل مَكْتوم - طَبَّبَ ٱللَّهُ ثَراهُما ، حِكَمَةٌ حَوَلَتِ التَّحَدِياتِ إِلَى نَجَاحَاتٍ وَإِنْجَازَاتٍ . أَجِدُ نَفْسِي بَعْدَ انقضاءِ أَرْبَعَةِ عُقودٍ ؛ أُعانِقُ أَمْوَاجَهُ ، أَخُطٌ بِقَلَمي قِصَّةَ مَدينَةٍ أَحْبَيْتُهَا ، وَدَوْلَةٍ تَعَلَقْتُ بِها شَغْفًا ، يَمُرُّ بِخَاطِري ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنْ عَامٍ ١٩٨٠ خيطَ ذكرياتٍ ممتدٍ ، أتمنَلُ أمامي مَنْظَومَةَ الْإِنُجَازَاتِ فِي شَتّى المَيادينِ الأكاديميَّةِ والبُنى التَّحْتِيَّةِ وَالافَاقِ الاقْتِصادِيَّةِ وَالاجْتِمَاعِيَّةِ . فِي امْتِدادٍ إِنْسَانِيّ مُتَناعِمِ مَعَ الْعالَمِ أَجْمَع ، أُحاوِرُ ذَائِيَ : كَيْفَ تَحَقّقَتْ هَذِهِ الطُمُوحَات ؟ وَتَكَلِّلَتْ بِالنَّجاحِ هَذِهِ الْإِنْجَازَات في حِقْبَةِ زَمَنِيَّةٍ قَصيرَةٍ ، فَبُجيبُ الواقِعُ الْحَضَارِيُّ وَالضَمِيرُ الْإِنْسانِيُ : بِوجودِ رُوَى طَمُوحَةِ تُعَانِقُ النَّريَّا ، وخططِها العلميّة ، لَدَى قِيادَةٍ فكِيمَةِ أمَنَتْ بِالْقِيَمِ طَرِيقًا ، وَبِبِناءَ الإِنْسَانِ دَيْدَنًا وَرَفيقًا ، وَبِالامْتِدادِ الإِنْسَانِيِّ صَديقًا ؛ فَتَسامَتْ وَتَعالَتْ فِي إِباءِ وَشُمُوخِ وَعَطاءٍ ، فَعانَقَتِ الْمَريخَ ، بِأَطْبَافِها الْواقِعيَّةِ ، وَانْتِمائهَا لِلْإِنْسانِ فِي مَعاقِلِ لبِناءِ الْبَشَرِيّ وَفْقَ مَنْهَجِيَّةِ صادِقَةٍ لَا تَعْرِفُ الْمُسْتَحِيلَ ، تَزْنُو لِلْمَرْكَزِ الأَوْلِ وَتُجَمِّدُهِ أَخْلاقًا وَعَمَلاً ، أيقونةُ العالمِ ، وَمَحَبَّةٍ وَتَسامُحِ وبناءٍ. أعودُ إلى صفحةِ مياهِ الخليج ، ترتفعُ الأمواجُ ؛ أهمسُ في مياههِ ، يا خليجُ على شواطِئكَ قصَّةَ حضارةٍ بناها الإنسانُ ، تعلو أصواتُ الأمواج : وماذا بُعدُ ؟ يمتزج صوتُ حنجرتي معَ الأمواجِ العاليةِ ، يرددُ الصدى : وتستمرُ الحكايةُ .