عندما بدأ العقل الإنساني بالتفكّر في الكون ونشْأته، راح يطرح تفسيرات وتعليلات محاولاً من خلالها فهم ماهيّة هذا الكون، كانت الأساطير ولاهوتيات الكهّان والشعراء هي التي تتحدث عن نشأة الكون مبتعدة عن أي تفسيرٍ طبيعيٍّ أو علمي للأشياء، أطلقت العقول تشريعاتها للتفكير في أبسط تفصيلات الحياة والكون والفنّ، بل والتفكير بالتفكير ذاته، والتي تعبر عن نشأته وتربيته وأخلاقه، ونظرته لمفاهيم وقيم الحق والخير والجمال. نشأت الفلسفة اليونانية وتأسست في القرن السادس قبل الميلاد، وعُدّت نقطة التحول الأولى في الفكر الفلسفي بالنسبة لفلسفة الغرب، هل كان ثمّة تأثيرٌ خارجيٌ على نشأة الفلسفة اليونانية؟ وفي صدد هذا التأثير. ومن المؤكد أنَّه أعطاهم العديد من الأفكار الإيحائية. لكنهم علَّموا أنفسهم التفكير في العقل والنقاش حول جوهر ما وراء الأشياء". ولكن هذا وحدهُ لا يكفي لانطلاق الحرية الفكرية، وهي ذاتها الأسباب التي ساعدت في قيام الحضارة الإغريقية، حيث أنَّ الانتقال الكبير من نظام الحكم الدكتاتوري إلى النظام الديمقراطي والدولة المدنية، ومناقشتها بشكل علني دون خوف أو حرج، مع إمكانية إجراء الحوارات والمناقشات والجدالات الفكرية. كما وأنَّ التحوّل الذي طرأ على المجتمع ونقله من النمط الرعوي والزراعي إلى النمط التجاري والصناعي، كالتجار والصناعيين وأرباب الحرف والملَّاحين الكبار. نتج عن هذا الازدهار الاقتصادي رخاء مالي واجتماعي وسياسي وفكري، وزيادةٌ في مظاهر الغنى وإسناد مختلف الأعمال إلى طبقة العبيد، والتفات بقية فئات الشعب الإغريقي عموماً إلى الفنون والعلوم والسياسة. كلّ ذلك ساهم أيضاً في ظهور الفلسفة. عوامل ولادة الفلسفة اليونانية كان للحرية السياسية والاقتصادية دورٌ كبيرٌ في نشوء الفلسفة اليونانية ولكنها لم تكن الركيزة الأساسية، فانتشار العلوم مثل الرياضيات والفلك وغيرهما، مثّل الركيزة الأساسية في ظهور الفلسفة، فالفلاسفة أنفسهم كانوا في البداية علماء في مختلف المجالات. كما وأنّ الانفتاح على ثقافة الحضارات الأخرى كالفينيقية والبابلية والمصرية، وأبقراط في الطب، وانتعش التاريخ على يد هيرودوت. المرحلة الأولى: ما قبل سقراط و"أيونيا" هو الاسم الذي كان يطلق على جزيرة تقع في بحر إيجة بين اليونان وتركيا، وتميزت بكونها مهد العلم والفلسفة الغربية. والتجربة العلمية. وأنكسيمانس. وهم من العلماء الماديين. م) يعتقد أنَّ الأصل هو الماء، م- 546 ق. م) بأنَّها "اللامتعيّن"، بينما اقترح أنكسيمانس أنَّ أصل الكون هو الهواء. وإذا ما أخذنا برأي طاليس في أن أصل الكون هو الماء؛ فمن أين استمد رائد المدرسة الأيونية هذه الفكرة؟ وكيف اعتقد أنَّ الماء هو جوهر كل شيء في الكون؟ لطالما سطّر البابليون والفراعنة الأساطير حول الماء وألوهيته وعظمته، فلا يمكن التسليم بالادّعاء الغربي أنَّ طاليس هو صاحب الفرضية الأساسية، ولكنَّ الجديد في فكر طاليس أنَّه قدّم تفسيرات منطقية لكون الماء يحمل احتمالية أن يكون أصل الوجود، وهو منهج استقرائي مختلف عن المنهج الأسطوري عند البابليين والفراعنة. م) وبالتحديد خلال حكم (أمنحوتب الرابع/ أخناتون) صاحب الديانة التوحيدية الأولى في مصر القديمة: "في البدء كان المحيط المظلم أو الماء الأول، حيث كان آتون وحده الإله الأول صانع الآلهة والبشر والأشياء". وبحسب ما نقلهُ إلينا أرسطو عن طاليس، فقد كان تعريفهُ للماء على أنَّهُ إله؛ لأنه يعتقد أن كل ما هو خالد فهو مقدَّس أو إله، وذهب طاليس إلى أبعد من ذلك، يتحوّل إلى غاز إذا تبخّر، وإذا تجمّد استحال صلباً. الاختلاف بين طاليس وأنكسمندريس حول نشأة المادة والعالم الحي: الجاف والرطب، ومنها أتى الوجود، كما أنهُ سمَّى هذا الجوهر بــ"اللامتناهي" أو "اللامتعيّن". وقد ذهب بتفسيرات أخرى حول أصل الإنسان سبقت نظرية التطور (النشوء والارتقاء) لــ"تشارلز دارون" بنحو ألفي عام، الهواء أصل الكون: ومن الهواء اللانهائيّ صدرت جميع الموجودات، حيث أنّ كلّ شيء في تغيّر، موجود بذاته ولا يحتاج في وجوده لغيره، وهو مصدر العناصر الأخرى الثلاث (الماء، النار)، مثلاً: عند ضغط الهواء يتشكَّل أولاً الماء، وعند زيادة تكاثفه وضغطه يتشكل التراب. وحول فكرته في أن الهواء هو "إله" بذاته، يقول أنكسيمانس: "الخالق أزلي لا أول ولا آخر له ولا هوية تشبهه. هو مبدأ الأشياء الواحد، ليس كواحد الأعداد". وعلى هذه الركيزة نشأت الفلسفة اليونانية مع حكماء الطبيعة الذين بحثوا عن العلِّة الحقيقية للوجود الذي أرجعوه إلى أصل مادي، وبهذا تمَّ وضع أُسس الفلسفة النظرية لهذا الفكر الجديد، م- 420ق. الذين سَخِروا من الاهتمام بالقضايا الميتافيزيقية (الدينية/ الأسطورية) وركزوا اهتمامهم على السياسة والفصاحة والنجاح الدنيوي، وأصبح معيار الحق والعدل لديهم مرتبط بمدى قدرة الإنسان على المناظرة والجدل والمواهب الخطابية في إقناع الجماهير. وقد شككوا في إمكانية تحصيل المعرفة، هي: واختلفوا حول كون الحواس والعقل مصادر موثوقة للمعرفة، وهكذا يمتنعون عن الجزم بأيّ شيء. العِنادية: هم الذين يقولون إنَّ أي قضية بدهية أو نظرية لا بدَّ أن من وجود ما يعارضها، فكانوا يجزمون بأنَّه لا توجد حقائق في الكون. فما يراه أي شخص على أنه موجود، فهو موجود عنده فقط، ومع أن النزعة الشكّية انتشرت في اليونان وكادت أن تخرّب العقول، إلّا أن الفيلسوف سقراط تمكَّن من الردِّ عليهم وتسخيف منهجهم بالشك الذي ينفي اليقين ويجعل المعرفة أمرًا مستحيلًا، المرحلة الثانية: سقراط والبحث عن الحقيقة الداخلية للإنسان م) بفلسفتهُ الجديدة التي جاءت مناقضة تماماً للمرحلة السابقة، حيث انتهج منهجًا جديدًا في البحث والفلسفة، وكانت إحدى دعواتهِ البحث عن الحقيقة الداخلية للإنسان، ومن أشهر أقوالهُ في هذا الموضوع: "اعرف نفسك بنفسك". فاكتشف سقراط أنّ الإنسان يعلن امتلاكه للمعرفة، من دون إدراكه للجهل الذي يمتلكه في الحقيقة، وهنا كانت شهرة أسلوبهُ القائم على الجدال والتهكُّم؛ حيث كان يذهب إلى السوق وُيناقش المارِّين هناك في موضوعات عميقة كالحياة والموت؛ وذلك عن طريق طرحه أسئلةً يدَّعي بأنّه لا يعلم شيئًا عنها، والاعتدال، والعدالة. وليس بالضرورة من يتم انتخابهم،