بعـد انهيـار الإمبّاطوريـة الرومـانيـة في غرب أوروبا واجتيـاح البّابرة الجرمـان غرب أوروبا تغير المجتمع الأوروبي تغيرا أس ـاس ـيا، كان له أثره الكبير على الحياة الاجتماعية والاقتص ـادية والعس ـكرية والس ـياس ـية. ومن جراء الهجرات الجرمانية إلى جوف أوروبا أص ـبحت مدن أوروبا غير آمنة على نفس ـها، ولذلك انتقل أعيان المدن إلى قص ـورهم في الريف وأحـاطوا أنفس ـهم بأتبـاعهم وأعوانهم، يضاف إلى ذلك تواجد بعض الأديرة التي كان رهبانها يزرعون الأرض ويش ـتغلون ببعض الص ـناعات اليدوية. ومع عـدم إمكان الاتص ـال بين المدن والقری س ـع  الأعيان إلى الاكتفاء الذاتي داخل القرية وبدأت الض ـياع تص ـنع العديد من البض ـائع التي كانت تشـتريها من المدينة، ودولة القوط الش ـرقيون في إيطاليا بقيادة ملكها ثيودريكTheuderic   )493-526م( على س ـبيل المثال نجد أن الملوك الميروفنجيين ومن بعدهم الملوك الكارولنجيين أخذوا يؤجرون أو يمنحون قوادهم وموظفيهم مس ـاحات من الأرض أصـبحت شـبه مسـتقلة، ومن هنا أقام هؤلاء الأعيان الذين يطلق عليهم البارونات بالإضافة إلى الأساقفة أو رؤساء الأديرة نظاما محليا في المناطقة الخاصـة بهم، وقد تقبل الأهال هذا النظام عن طيب خاطر طالما أصـبح هذا النظام هو الكفيل بحمايتهم مما يحيط بهم من أخطـار. وقـد واكـب هـذه العمليـة قيـام الفلاحين ببنـاء منـازلهم بالقرب من قص ـر البارون الحصـين أو الدير المنيع، ويجب ألا يغيب عنا أن هؤلاء الناس الذين خضعوا للسادة الإقطاعيين كانوا رجالاأحرارا لم يعودوا قادرين على حماية أنفسهم، وكان من عادة الس ـادة الإقطاعيين أن يمنحوا أتباعهم قطعة من الأرض بعقد لفلاحتها ولهؤلاء السـادة حق اسـترداد هذه الأرض متى شـاءوا . وهكذا كان الإقطاع هو خضـوع الفرد اقتصـاديا وعسـكريا إلى رجل أرفع منه منزلة مقابل الحماية العسـكرية، والأحرار هم البـارونات ورجال الدين والجنود النظاميين ومعظم التجار والصـناع وأصـحاب المهن، وأخيرا الفلاحين الذين يملكون أرضأ ولا يرتبطون بأي سيد إقطاعي إلا قليلا. وكان هؤلاء الأحرار من القلة بحيث لم يتجاوز عددهم ربع الأهال في غرب أوروبا. كـانـت كلمـةServus  اللاتينيـة تطلق على رقيق الأرض والعبيـد ولكن هـذا اللفظ تطورمع مض ـي الزمن وتحول إلى كلمةSerf  لتقابل رقيق الأرض وكلمةSlave  أي العبد. أو من الص ـبيان الصـغار وكذلك البنات الذين يتم خطتهم من البلاد الإسـلامية أو اليونان أو البلاد الممتدة على س ـواحل آس ـيا الغربية والبحر الأس ـود وشمال إفريقيا. ثم دفع الجشع هؤلاء التجار إلى بيع آلاف الأطفال المسيحيين الذين كونوا حملة الأطفال في عام ۱۲۱۲ م إلى البلاد الإس ـلامية في الش ـام ومص ـر وشمال إفريقيا. وإذا كـان البـابا جريجوري الأولGregory1   )590-604م( قـد أعتق إثنين من عبيـده وقـال أن للنـاس جميعـا الحق الطبيعي في الحرية، كما أنه حرم على العبيد أن يص ـبحوا رجال دين أو يتزوجوا من نس ـاء مس ـيحيات أحرار. ومفرد الأقنـان )قن( وهو الرجـل الفلاح الـذي يعيش على قطعـة من الأرض يمنحها إياه أو يملكها له الس ـيد الإقطاعي، وكان هذا القن يمتلك هذه الأرض أو تؤجر له مدى الحياة مقابل أن يمنحه السـيد الإقطاعي حمايته العسـكرية، وفي نظير ذلك يؤدي لـه القن أج را س ـنويا من الغلال أو العمـل أو المـال. والقن مربوط بهـذه الأرض ولا يملـك حريـة الانتقـال منهـا، وإذا مـات هـذا القن فلا تنتقل قطعة الأرض إلى ورثته إلا بموافقة السيد الإقطاعي. وإذا كانت هذه الأسـس الرئيسـية التي تقام عليها العلاقة بين السـيد الإقطاعي والقن فهناك روابط أخرى تربط القن بالس ـيد الإقطاعي وبالأرض الممنوحة له . لذلك فض ـل القن البقاء في وسـ ط مجموعة وأرض مولد وترب  فيها وعمل بها. فإن جماعات الأقنان عاش ـت فيالأرض الممنوحـة لهم أجيـالا بعـد أخرى دون طرد أو حرمـان. والواقع إنه من الأفضل للسيد الإقطاعي الجديد أن يش ـتري الأرض وما عليها من الأقنان الذين أص ـلحوها وأفلحوها وبإمكانهم التعامل معها بكل سهولة.  ويمكن القول على ض ـوء ما س ـبق أن علاقة القن بالس ـيد الإقطاعي كانت ذات ش ـقين: فهي تبعية اقتص ـادية، ولكن هذا المفهوم تغير مع الزمن حيث أص ـبح من الجائز أن يكون هناك إرتباط شـخصـي فقط بين القن والسـيد الإقطاعي دون أن يكون لـدى القن أي قطعـة من أرض الس ـيـد الإقطـاعي. وأص ـبح القن الـذي يرتبط بالأرض منفصـلا عن القن الذي يؤدي واجبات معينة للسـيد الإقطاعي مثل الحراسـة أو العمل في مخبز السيد الإقطاعي أو طاحونته أو غير ذلك من الأعمال المرتبطة بالزراعة. مع الأخذ في الاعتبار أن الحالة الجديدة لم تشـمل كل الأقنان بل ظلت جهات كثيرة تسـير طبقا للأوضـاع القديمة من الجمود والظلم حتى بداية التاريخ الحديث. وحتى نتفهم الحـالـة الواقعيـة للأقنـان فيجـدر بنـا أن نعـدد الواجبـات الإقطـاعيـة التي كـان على الأقنان أن يؤدوها للسيد الإقطاعي ومن أهم هذه الواجبات:  وعلى القن أن يـدفع كـل عام جزءأ من غلاته وماش ـيته تص ـل إلى حدود العش ـر، وكان القن في هذه الأيام يقوم بالأعمال العامة مثل إقامة الجس ـور أو تقطيع أش ـجار الغابات أو تجفيف المس ـتنقعات، ومن المس ـلم به إن على القن أن يطحن حبوبه ويخبز خبزه ويعصـر نبيذه عند السـيد الإقطاعي مقابل مبلغ محدد، وإذا اقتضـى الأمر وكان للقن قضـية فعليه أن يرفعها أمام محكمة السـيد الإقطاعي مقابل رسـوم معينة تختلف حسـب نوع القض ـية . ويلاحظ أنه لم يسمح للأقنان ببيع ما يفيض منهم إلا بعد ما يفرغ السيد الإقطاعيمن بيع ما عنده بأس ـبوعين، وعلى القن أن يدفع غرامة معينة إذا أرس ـل ابنه للمدرس ـة أوليلتحق بالكنيسة لأن الضيعة سوف تخسر هذه القوة البشرية. ورغم هـذا كلـه فقـد ظـل الأقنان حتى القرن الثالث عش ـر الميلادي ينظرون إلى الس ـيد الإقطاعي نظرة إعجاب وربما نظرة الحب في بعض الأحيان باعتباره المدافع الأول عنهم ضد أخطار الزمان. وإذا ألقينا نظرة على الحياة العامة للفلاح نكون قد أوضـحنا صـورة كافية عن حياة الأقنان في تلك المرحلة، وبداية نقول أن الفلاح كان يسـكن كوخا من الخشـب يعلوه سـقف كان من الخش ـب غالبأ، أما عن ملابس القن أو الفلاح فقد كان قميص ـا من القماش أو جلد الحيوان وعليه س ـترة من الص ـوف أو من الجلد وس ـروالا، وإنه يتحمل كل هذا من أجل حياته وحياة أس ـرته وحياة الس ـيد الإقطاعي والآخرين الذينيعيشون حوله. وعاش مع أقرانه في القرية حياتهم البس ـيطة يجتمعون في المناس ـبات وأيام الأعياد والأحاد في س ـاحة القرية أو الكنيس ـة. وعلينا أيض ـا أن نعرف أنه كان أميا غير مثقف ليس لديه معرفة عن ش ـيء س ـوى الزراعة وأعمال القرية التي تكفل له الحياة التي اقتنع بها. وكـان مهـددا إمـا بحريق أو قحط أو مجـاعـة تأتي على كوخـه أو حيواناتـه أو مزروعـاتـه مثلا تعرضـت فرنسـا لقحط أهلك الزرع والنسـل، وكانت ش ـخص ـية العمدة من الأهمية داخل القرية فهو الذي ينس ـق نش ـاط الفلاحين الزراعي، كما تخصـص البعض في الأعمال اليدوية فنجد الحداد ودابغ الجلود والنجار الذي يصـنع أثاث المنزل والأكواخ وصـانع العربات والقصـار والصـباغ والبناء والسـروجي وصـانع الأحذية وغير ذلك من الأشياء التي يحتاجها المنزل القروي على فترات متباعدة. يترك أحدها للراحة ولا يزرع أما القس ـمان الآخران فقد كان أحدهما يزرع شـعيرا أو شـوفانا والآخر يزرع قمحا. وتولى موظفو القرية تسـليم كـل قطعـة أو أكثر إلى أحـد الفلاحين لزراعتهـا طبقـا للخطـة الموض ـوعـة، وكـان الفلاحون جميعا يتولون العملية الزراعية من حرث وبذر ورعاية وحصـاد متعاونين قانعين بهذه الحياة. فإذا ما فرغ الفلاحون من هذه الأعمال أو ربما أثناءها كان عليهم أن يقوموا بقطع الأشـجار ورعي الماشـية، ثم تطور الأمر واس ـتخدموا الحص ـان بعد ما ص ـنعت الأطواق الجلدية التي س ـاعدته على الجر دون مش ـقة حتى أنه كان يحرث في اليوم أض ـعاف ما يحرثه الثور. والألعـاب الرياض ـيـة مثـل كرة القـدم والمص ـارعـة والهوكي أو رفع الأثقال  . وتزاور الفلاحون لبعض الوقت في الأمس ـيات تناولوا فيها الخمر والحديث عن متاعبهم أو مس ـراتهم، وبهذا الصـراع والكد المتواصـل أطعم هؤلاء الفلاحين أنفسـهم وأوروبا كلها بما عليها من السـادة الإقطاعيين والجنود العاملين ورجال الدين، ووس ـعوا نطاق الحض ـارة بما اكتس ـبوه من معرفة أتـت إليهم من المس ـلمين، ويض ـاف إلى هؤلاء الفلاحين جمـاعـات الرهبـان الـذين أقـاموا أديرتهم في أراض نائيـة ثم مـا لبثوا أن زرعوا مـا حولهـا ودافعوا عنهـا بالحرب في بعض الأوقـات، - النمو والنضج الإقطاعي: اس ـتغرقت عملية النمو الإقطاعي حوال قرنين من الزمان هما القرنين التاس ـع والعاش ـر الميلادي وذلك وسط اضطرابات اجتماعية واسعة وأحداث سياسية صاخبة، وبمعنَ آخر أن الدولة الكارولنجية لم تتمكن من القض ـاء على فكرة المحليـة وإنمـا مـا أمكنهـا القيـام بـه هو وقف بنـاء التطور نحو المحليـة في مرحلـة قص ـيرة ولعله في البداية. فـإنـه بعـد وفـاة شـارلمان وما أعقبه من إهمال مسـتمر في الإدارة المركزية بالإضـافة إلى اشـتداد غارات أهل الشـمال في الشـمال والمسـلمين في الجنوب على جزيرة صـقلية وجنوب إيطاليا كان كافيا بل دافعا لتثبيت دعائم الحكم الإقطاعي في مراحل لاحقة وهي مراحل النضج الإقطاعي. ومن ذلك قيام أودوOdo  ونتباريس بالـدفـاع عن المـدينـة عنـدمـا هـاجمهـا الش ـمـاليون في عـامي ۸۸۹- ۸۸۷ م، وفي هذه المرحلة أيض ـا نجد امتلاك الأرض أص ـبح مصـاحبا لحق امتلاك الحكم والس ـلطان فاندمجت الأرض بالسـلطان، حتى صـارت هذه التعهدات هي القاعدة التي س ـارت عليها أمور الحكم ومتطلبات الأمن والحياة. ونش ـأ عص ـر من الأرس ـتقراطية مالكة الأرض دام إلى عص ـر الانقلاب الصناعي وإلى ما بعده في بعض المناطق الأوروبية. ولما كان هذا السـيد المالك قد أطلق عليه أسماء مختلفة في أنحاء أوروبا منها السـيدLord  والإيرلEarl  وتعني المسـتشـار في إنجلترا، وإذا كانت هناك واجبات تجاه الفلاحين للس ـيد الإقطاعي وهي ما س ـبق أن ذكرناها مثل اس ـتخدام معاص ـر وافران الس ـيد المالك وغير ذلك فإن بعض الملاك كان رحيما وعامل رجاله معاملة طيبة ولم يثقل عليهم في الواجبـات الملقـاة على كـاهلهم، وكان للمالك أيضـا سـلطات قضـائية وعسـكرية في أراضـيه، ولذلك لم تكن هذه المحاكم ظالمة بالص ـورة التي يمكن أن نتخيلها عن العص ـور الوس ـطى، فإن الوثائق تش ـير إلى لجوء رقيق الأرض لهذه المحاكم لانص ـافهم، حتى يمكن القول أن هذه المحاكم أعطت هؤلاء الأرقاء مزيدا من الحريات وإن كانت بطيئة حتى حررت في النهاية كل رقيق الأرض، وكان هذا المسـكن محاط بسـور تقع داخله الأسـطبلاتوالمخازن والمخبز ومس ـاكن الخدم وكنيس ـة ص ـغيرة وغير ذلك من لوازم الحياة. وكـان الطـابق الثـاني هو الطـابق الرئيس ـي حيـث تعقـد محكمة الس ـيد الإقطاعي في القاعة الرئيس ـة، ويلحق بهـذه القـاعـة غرفـة واحـدة لجلوس الأس ـرة ونومهـا عنـدمـا يحين وقـت النوم،