يتضح من هذا أن التيارات الشعبية في الأدب الأوروبي في القرون الوسطى كانت أقرب إلى روح الأدب العربى منها إلى الأدبين اللاتيني والإغريقى اللذين كانا بطبيعتهما أميل إلى الأرستقراطية، ذلك أن الأدب الشرقي في جملته ينزع إلى الخيال والألوان الزاهية الجذابة، فكانت أوروبا كلما احتكت بالشرق استلهمت روحه، وتأثرت بأدبه أشد تأثر، فتأصل الأدب الخيالي الجديد في أوروبا وترعرع حتى كاد يزحزح الأدب التقليدي من مكانه. فلما بدأت النهضة العلمية، نزعت أوروبا إلى درس الحضارة الإغريقية، وأصبحت مقاييس الأدب الإغريقي القديم هي السائدة في أوروبا في عصر النهضة، ومن ثم تغلبت النزعة التقليدية القديمة في الأدب على النزعة الخيالية الجديدة بعض الزمن غير أن النزعة الخيالية الجديدة، ولكنها كانت تحاول الظهور من حين إلى آخر، كانت من آثار النزعة الخيالية التي بدأت في القرون الوسطى، والتي حاولت النهضة العلمية أن تقتلها فلم تفلح، فتم النصر للأدب الخيالي. وقد كانت قصص ألف ليلة أقوى عامل على هذا النصر، فقد أقبلت الجماهير على قراءتها في شعف شديد وراح الكتاب يقلدونها في قصصهم. ويرجع نجاح كتاب ألف ليلة إلى حالة الأدب الإنجليزي والأدب الفرنسي في القرن الثامن عشر، فإن انتشار القراءة قد أنشأ جمهورًا جديدًا من القراء لم يكن الكتاب يحسبون له حسابًا من قبل، وهذا الجمهور الجديد كانت له مطالب وحاجات جديدة؛ فأخذ الكتاب يحاولون أرضاءه واشباع حاجاته. يتحسسون طريقهم إلى معرفة حاجات الجمهور فلا يكادون يصلون إليها، فلما ظهرت قصص ألف ليلة، ورأى الكتاب إقبال الجمهور الغربي عليها ذلك الإقبال الشديد، تنبهوا لهذه الظاهرة الجديدة وأخذوا يدرسونها لعلهم يقفون على السر في شغف الجمهور الأوروبي بذلك الأثر الشرقي الطارئ، فتبين لهم بعد طول التمحيص أن قصص ألف ليلة وليلة، وإن تنقصها مقومات العمل الفني الكامل، إلا إنها تنفرد بخاصة من أهم الخواص التي تحبب الجماهير في القصص، فعمل الكتاب على إدخال هذا العنصر الجديد في قصصهم، وما إليها من القصص التي ما كانت تظهر لولا قصص ألف ليلة. أما في القرن التاسع عشر فقد تأثر الأدب الألماني إلى حد كبير بالآداب العربية والفارسية والهندية، وكان «جوته» يستلهم روح الشرق في كثير من قصصه التي مزجها بالخيال الشرقي، و«هيني» الذي لم يسلم الأدب الشرقي من سخريته اللاذعة، لم تخل قصائده الغنائية من روح الشرق. وقد كان «شوبنهور» يتوقع اشتداد النزعة نحو الأدب الشرقي، وامتدادها من ألمانيا إلى فرنسا وإنجلترا، فقد وقفت الآداب الفرنسية والإنجليزية في وجه تلك الحركة، ذلك أن العقل الغربي تحول فجأة عن الشرق، فقد انصرف عنه إلى فلاسفته الجدد، وما ظهر وقتئذ من أفكار سياسية جديدة، وقد كان «جوته» يرغب بجعل الأدب الألماني أدبًا إنسانيًّا عالميًّا، فتحطم هذا الحلم الجميل بظهور الحركات القومية واشتداد النعرة الوطنية، ومع ذلك لا يمكننا تجاهل مكان الأدب الشرقي من الآداب الغربية في جميع العصور. ولكننا إذا لاحظنا أن الأدب الشرقي لم يكن إلا بمثابة الخميرة للنزعات الأدبية الجديدة في أوروبا، أدركنا مبلغ ما كان له من أثر في تكييف الأدب الغربي وتوجيهه، ويكفي أن نقول إن الشرق كان كلما اتصل بالغرب عمل على تحرير الخيال الغربي من القيود، وتخليصه من كابوس الأدب التقليدي القديم.