اعتقد ان كبار الراحالين الذين تستحوذ عليهم رغبة ملحة في الطواف بين ارجاء العالم تملكهم على الرغم منهم"ملكة شخصية"يصح أن تسمى عبقرية السياحه،ويصح أن تتجاوز الحد فتسمى هوسة السياحهواعتقد أن هذه الملكة الشخصية مستمدة من ملكة قوية أصيلة في الأمة التي يخرج منها أولئك الراحالون المنقطعون للسياحةلأن معظم الرحالين الكبار خرجوا من أمم قد تعود أبناؤها الرحلة وشفت عليهم الاقامه الطويله.الفينيقيين والاغريق لأنهم يقيمون على الشاطئ ويحتاجون إلى الملاحة،وكالبنادقة والبرتغاليين الإنجليزي في العصور المتأخرة،واكثر الرحالين الكبار الذين اشتهروا في التاريخ ونسب اليهم الفضل في الكشوف الجغرافية،الأبناء أمم تشبهها في البداوة واللشتغال بالملاحة.ملكة شخصية مستمدة من ملكة قوية .هذه هي عادة الرحلة التي تغلب على بعض الناس،اوهذه هي هوسة الرحلة إذا تجاوزت حدها المعقول.على انني أعتقد-إلى جانب هذا الاعتقاد-أن ملكة الرحلة غالبة على الرحالين وغير الرحالين.ولكنها تظهر في صور كثيرة غير صورة الرحلة الخارجية،ومنها الرحلة في داخل النفس أو في عالم الخيال.وبين كبار الرحالين من هذا الطراز أناس لم يفارقوا مكانا واحداً خلال عشرات السنين كأبى العلاء المعرى!.فإنه سمى نفسه"رهين المحبسين"لملازمته داره وحبسه في جسده،ولكنه شاء أن يرحل في كتاب من كتبه-وهو رسالة الغفران-فلم يقنع بأقل من الرحلة إلى السماء،لقد تعلقت بالسياحة في أوائل صباي،وشاقني أن أسيح هنا وأسيح هناك بين مشارق الأرض ومغاربها.ولكنها كانت كلها كما تبين لي بعد ذلك عارضاً من عوارض الصبا التي تنزوي مع الزمن وراء غيرها من الميول المتمكنة في السليقة، فما زالت تضعف وتضعف حتى ليسعني أن أقول اليوم إنني لولا رياضة المشي التي تعودتها لما خطر لي أن أبرح المنزل أياما بل أسابيع.وسبب من أحوال العصر الذي نعيش فيه.فأما السبب الذي مني فبعضه يرجع إلى حب العزله التي نشأت عليها وورثتها من أبوي.وكجول فيرن الكاتب الفرنسي الحديث.فإن ما رآه من جوانب الأرض بالقياس إلى المشاهدات المأثورة عن كبار الرحالين شيء لايذكر،ولكنه ساح بخياله في جوف الأرض وفي أعماق البحار وفي أجواء السماء،بل ساح في عالم الغيب فوصف للناس مخترعات لم تخلق بعد،ثم خلقت في أوانها فإذا هي كما وصف .!حتى قال ليوتى القائد الفرنسي الكبير إن الناس اليوم "يعيشون أحلام جول فيرن"أو سياحة بغير انتقال.والظاهر-لا بل المحقق-أنني أنا احد الرحالين بغير انتقال، كما لاحظ بحق أحد أصدقائي، حين علم مرة باعتذاري من تلبية الدعوة إلى كثير من السياحات، وبعضها بغير نفقة على الإطلاق .ومع هذا يجوز لي أن أقول إنني طفت العالم من مكاني الذي لاأبرحه،لأنني رأيت في هذا المكان مايراه الرحالون التنقلون.وبعضها يرجع إلى شعوري بالقراءة التي تعنيني .لأنني أشعر بأنني لاأقرأ سطوراً على ورق،ولكني أحيا في تلك الأوراق بين أحياء.ومن هنا ألفت بعض شخوص التاريخ كأنني أعاشرهم كل يوم، في حركتهم وسكونهم،واستمليت من ديوان شاعر كابن الرومي سيرة حياته أو صورة حياته، وثبت له في خيالي شكل لا يتغير ولايزال يلوح لي على هيئة واحدة كلما طاف بي طيفة في منام .ومثله المعرى والفاربي وابن سينا وطائفة من مشاهير الأدب والفن بين الشرقيين والغربيين .اما السبب الذي من العصر،فلك أن تقول إنه في الحقيقه جملة أسباب .فينظر مساكنها وسكانها،ويتراءى لسكانها في ساعات أو أيام.كانت السياحة هي الوسيلة الوحيدة للإحساس بالبلاد البعيدة.اما اليوم فنحن نحسها بالعين والاذن كلما أردنا،الصحف تنقل إلينا أخبارها.والإذاعة تسمعنا أصواتها وأصحابها.والصور المتحركه تستدنى للآذان-كما تستدنى للعيون-كل ماهو خليق منها بمشاهدته اوالاستماع إليه.وعلم تخطيط البلدان قد يعرفك بما يجهله المقيمون فيها،ومراجع التاريخ قد تملأ نفسك بما يملأ عصورها من الأحداث والذكريات،ونقوش الفنانين وأغاني الشعراء والموسيقيين تهيىء لك أن تنفذ إلى روحها وتمتزج بعبقريتها، وتحياها على على أحسن أنماطها في الحياة.نعم إن الإحساس بالمكان-وأنت فيه- غير الإحساس به وأنت على مسافة منه.ولكن هل نستطيع أن نقول إن الإحساس بالمكان القريب يغني عن الإحساس البعيد؟أو هل نستطيع أن نقول إن الإحساس من الداخل يغني عن الإحساس من الخارج؟ أو أن الإحساس بالعين والاذن يغني عن الإحساس بالوعي والخيال؟هما إحساسان ولاشك لازمان.والخير كل الخير أن تجمع بينهما،فالخير بعض الخير"خير"من لا شيء!ولست أزين لأحد أن يفضل طريقتي في السياحة على طريقته.