"الساعة 08:30 مساءً قسم العمليات المركزية في تلك الغرفة الواسعة والشبّه مظلمة التي تستمد نورها من إضاءات شاشات المراقبة الكبيرة المثبّتة على أحد جدرانها، والموزّعة على الطاولة المستديرة في منتصف تلك الغرفة، وبينما يمارسون وظيفتهم الاعتيادية، كان مدير ذلك القسم يتفقد سير العمل ويُجري حديثًا مع أحد أفراده، وعلى ما يبدو أن خطبًا ما قد حدث. - ماذا عن الحادث المروري الذي وقع في منطقة المعمورة؟ - لقد قمت بإبلاغ قسم الدوريات» - هل ثمَّة إصاباتٍ قد حدثت؟ "- لا أردف الموظف قائلًا: ثم ردّ قائلًا: انتظرْ زميلك المناوب حتى يستلم منك التقرير هكذا انتهى الحوار بينهما، الدقة والتركيز والمتابعة المستمرة من أهم ركائز العمل في هذا القسم، وليس هناك مجال للانشِغال بأمور آخرى تُؤثر على سيرِ العمل. - العمليات المركزية، تفضل:" - أريد أن أتقدم ببلاغ حول اختفاء طفلة الجيران. من يتحدث معي؟ - اسمي (أسامة هاشم). - كانت في منزلها في منطقة (دفان الخور)، تغيَّبت منذ نصف ساعة. - نحن جيران، وأم الطفلة طلبت المساعدة. دوّن الموظف كل المعلومات الأساسية اللازمة، ونبّه على المتصل أن يتوجّه بصحبة ذوي الطفلة إلى أقرب مركز للشرطة للتقدّم ببلاغ رسمي عن الحادثة. نهض بعدها مباشرةً إلى مديره ليُعلمه عن مضمون ذلك البلاغ، ودار بينهما حوارٌ سريعٌ: استقبلت بلاغًا يفيد باختفاء طفلةٍ من منزل ذويها. - إنه بلاغٌ حسّاسٌ جدًا. - سجّلتُ كلَّ المعلومات اللازمة، وطلبت من المتصل أن يتقدّم ببلاغ رسمي في أقرب مركزٍ للشرطة. الساعة 11:00 ليلًا بعد ثلاث ساعات من الاختفاء لا أحب أفلام الرعب كثيرًا، خصوصًا تلك القصص المرتبطة بالمشاهد الدمويّة، فأنا أحبّذ قصص النفس البشريّة وحكايات ما وراء الطبيعة، تلك التي يحفّها كثيرٌ من الغموض والتشويق. في هذه الليلة بالذات عكفتُ على مشاهدة فيلم الرعب الكندي (لقاءات القبور)*1 الذي يجعلُك تقاوم النعاس، وتحوم في دائرة الترقب، ففي الدقيقة الخمسين تمامًا من شريط الفيلم، اكتشف أبطاله أنهم حُبسوا في مستشفى مهجور للأمراض النفسية بعد أن قرّروا المبيت فيه ليلًا، وأنا أراقب ما سيحدث لهم بفضولٍ كبير. رنّ هاتفي، ضغطتُ على زر إيقاف الفيلم، - معك الرقيب عبيد، وردنا بلاغٌ رسميٌ يفيد باختفاء طفلةٍ من منزل ذويها. - ومتى حدث ذلك؟ - حسب المعلومات الأوليّة، كان وقت اختفاءها حوالي الساعة الثامنة مساءً. - في أي مكان بالضبط؟ - منطقة (دفان الخور) رقم المنزل (D٧٠) انتابني شيءٌ من القلق، رغم أنني في معظم الأحيان أصافِحُ الاطمئنان وأفكّر بسكينة عندما أستقبل أي بلاغ مزعج كهذا، لكن يبدو أن حادثة من هذا النوع جعلت هاجسًا ما يسيطرُ علي. قمت بالاتصال بمسؤول فريق التمشيط، ذكر لي أنها في الرابعة من عمرها. حنطية الملامح. كانت ترتدي ملابس وردية قبل أن تختفي عن أنظار أمها. عرّجت على غرفة الأطفال، ألقيت عليهم نظرة الأمان وشيءٍ من الخوف، كان يجول في خاطري أنهم مثل ملايين الأطفال في العالم ينامون بهناءٍ في رعاية آبائهم، تمنّيتُ حينها أن أكون سببًا في رجوع الطمأنينة إلى قلب من ينتظر عودة طفلته بسلام. كانت زوجتي تنتظرني في غرفة المعيشة، يبدو أنها استيقظت على ضجيج دخولي وخروجي، هي تعلم جيدًا طبيعة عملي وما أمر به من صعوبات يومية، لذا لم تسألْني عن أي شيء، ووقفت بجانبي، تفاجأتْ هي من الأمر، قبّلتُها بهدوء ثم طلبتُ منها أن ترفع يديها إلى السماء وتدعو من أجل تلك الطفلة. خرجتُ من منزلي الكائن في منطقة (الظيت الشمالي)، فتحتُ باب السيارة، أدرتُ المحرك، أجزم بأن درجة الحرارة الآن تقترب من الصفر، فنحن نعيش أجواء شهر يناير الباردة ليلًا. ضغطتُ على دواسة البنزين وانطلقت كالريح قاصدًا موقع الحادثة، المسافة بين منزلي ومنطقة (دفان الخور) قريبة لا تتعدى سبعَ دقائق. رنّ صوت هاتفي، ماذا لديه يا ترى؟ هل من جديد؟ - وصلتُ إلى موقع الحادثة وعمليات التمشيط بدأتْ حول المنزل. - هل دخلتَ إلى المنزل؟ - نعم، أنا هناك، - أنا في الطريق إليكم. شكرت وليد على حرصه واستعداده الدائم في إدارة القضايا الميدانية التي نواجهها، ثم أغلقتُ الهاتف، تمعّنت في ساعة السيارة والتي تشير إلى الحادية عشرة وواحد وعشرين دقيقة، قبل أن أصل لمفترق طريق دوّار الساعة، أحد هذه الطرق يقودني إلى شارع «كورنيش القواسم» المطلِّ على الخور؛ أما الطريق الآخر فيدخلني في بعض الشوارع الضيقة وغير المعبّدة، لذا قرّرت أن أسلكه، لربّما أجِد أثرًا للطفلة على طريقي وسط الظلام، أو أشاهد أشخاصًا قد يشتبه بهم. دخلت في ذلك الشارع غير الممهّد، وسط اهتزازات السيارة المتكرر، أو بالغين يتسكّعون، مجرد مرور عادي لبعض السيارات العابرة، شاهدت بعض العمالة الآسيوية هنا وهناك، والبعض الآخر ترمق في ملامحهم نوايا المكر والخديعة، أصبحتُ قريبًا من منزل الطفلة، ثم ترجلّتُ منها، هذا الأمر كثيرًا ما أستخدمه كي أستطيع قراءة بعض الدلالات أو الشواهد القريبة من موقع الحادثة. أرى على مقربة منّي مبنى قاعة الكورنيش للأفراح، الذي لا يبعدُ سوى أربعمائة متر من منزل الطفلة، نظرتُ إلى عدد كبير من السيارات تقف بجانب القاعة، صوت أغاني الفرقة الشعبية تصدح في المكان، وعدد غفير من المدعوين الرجال والأطفال يشاركون مراسم العرس في ساحة الاحتفال. يا تُرى هل دخلت الطفلة تلك القاعة؟ هل كانت تلهو بالقرب منها مستمتعةً بالأغاني والرقص الشعبي الجميل؟ هل شاهدها أحدهم واصطحبها معه ؟! كل شيء وارد. أجريت اتصالًا بالمساعد الميداني في فريق التحري الوكيل (ناصر) المتواجد في منزل الطفلة، طلبت منه أن يتوجه برفقة أحد زملائه ليتفقدوا قاعة الأفراح ويبحثوا فيها جيدًا، وأمرته أن يخاطب قسم الأمن في قاعة النساء ليبحثوا عن الطفلة حسب المواصفات المتوفرة لدينا. بدأت أمشي باتجاه منزل الطفلة، بعضها مُهْترئ، وأخرى "قد جرى ترميمها منذ فترة طويلة، لاحظت عددًا كبيرًا من السيارات في المكان، قد يدل هذا على وجود عدد كبير من المستأجرين، أقلقني هذا الأمر كثيرًا لاسيما وجود فرص حقيقة للتحرش الجنسي قد تمارسها هذه الفئة مع الأطفال أو المراهقين. ألقيتُ بعضاً من مخاوفي خلف ظهري، أكملت طريقي، شاهدت الممرات الضيّقة والكثيرة بين المنازل، إنّه أمر يصعّب مَهمّة التمشيط أحيانًا، وصلتُ بالقرب من باب منزل الطفلة؛ وبينما عيناي ترصد المكان بدقة، وجدت مساحة لابأس بها في فناء المنزل تغري أيّ طفلٍ باللهو واللعب، ويستطيع أي مراهق تسلقه والقفز فوقه، - ما هو انطباعك الأولي؟ - يشوب القضية الكثير من الغموض. - لم أفهم. - هناك ثلاثة أفراد فقط يسكنون المنزل، الأب والأم والطفلة! - في لحظة وصولي إلى المنزل وما إن بدأتُ تحقيقي مع الأم، بدتْ منهارة وبرفقتها جارتها (سعاد)، لم تستطع التحدث معي ثم فقدت وعيها، وها نحن ننتظر سيارة الإسعاف، أما الأب فلم يكن موجودًا هنا آنذاك. - أين هو؟ - حاول الفريق الاتصال به ولكنه لا يرد على الهاتف. - أمر غريب، قرّرت أن أدخل إلى صالة المنزل برفقة وليد، رأيتها مستلقية على الأرض، طويلة القامة، جميلة الوجه، طلبت التحدث إلى سعاد على انفراد، تقدّمت باتجاهي وقد بدا عليها بعضٌ من الارتباك. سألتها بشيء من الحزم: - هل أنتِ جارةُ أمِّ لمياء صمتت قليلًا، ثم أجابت: - نعم، وأنا قلقة كثيرًا. هل لكِ أن تخبرينا ماذا حدث؟ - ماذا قالت لك بالتحديد؟ - قالت أنها كانت مشغولة في إعداد الطعام، وعندما خرجت إلى الصالة لم تجد ابنتها، - وماذا قالت أيضًا؟ لم أفهم منها ماذا جرى بالتحديد؟ عندها قمت بإبلاغ زوجي (أسامة) الذي قام بالاتصال برقم الطوارئ، ثم طلبوا منا أن نتوجه لأقرب مركز للشرطة، ونتقدم ببلاغٍ رسمي هناك. صوت سيارة الإسعاف مُدَوٍّ في الخارج، خلال دقائق دخل طاقم التمريض وبدأوا عملية الإسعاف، وطلبتُ من أحد المساعدين مرافقتي مع المصور الجنائي، تعمّدت النظر داخلها، ثمَّ عرّجت على بعض الأدوات التي تستخدم للطبخ، بدأت أتفحّص ما بداخله، ثم توجّهت إلى غرفة النوم، وأمرته بتسجيل كافة بياناتهم وإرسالها إلى قسم البحث الجنائي ليقوموا بعمل اللازم، عدتُ من جديد إلى الصالة وأنا أراقب عملية نقل الأم إلى الخارج. دخل إلي الضابط المسؤول عن عملية التمشيط، وأكّد لي سلبية نتيجة البحث، أدركت صعوبة الموقف بحق، وعلينا العمل بحذر وتركيز، فجميع من يعمل هنا يدركون خطورة الأمر، كلٌ في تخصصه، فريق التمشيط، فريق مسح البصمات، الفريق الجنائي وفريق التحري. تحدّثت إلى وليد قائلًا: - ما رأيك أن نقوم بزيارة منازل الجيران القريبة لنجري بعض التحقيقات اللازمة؟ ردّ علي مترددًا:- من الصعب جدًا في هذا الوقت، - نذهب إلى المستشفى لنستمع إلى أقوال الأم. - إذًا أريدك احتياطًا أن تذهب في جولة تفقدية لكل الدكاكين والمحلات المنتشرة في المنطقة، طلبتُ التحدث مع زوجها، ولكنه لم يكن في المنزل، فذكرت أنه ربما خرج ليبحث عن الطفلة. وردني اتصال من المساعد ناصر، الأب غائب عن المنزل ولا يجيب على المكالمات، ظللت أتأمل في البيوت المجاورة وأنا في حيرة من أمري، نظرت إلى ساعتي،