وكانت حياة الجامعة في أول عهد المصريين بها عيدًا متصلًا يَحيَوْنه إذا أقبل المساء من كل يوم، ولكنهم كانوا يختلفون إلى هذه الدروس والمحاضرات ليروا ويسمعوا ويُمتعوا أنفسهم إن أتيح لهم المتاع. ولم يرَ الطلاب بهذا بأسًا، فمن حيل بينه وبين ذلك انتظر المحاضرة الثانية. وكان أهل السَّعَة منهم يذهبون إلى قهوة كوبري قصر النيل القريبة، فلا تأذن به إلا لمن قدموا بطاقات الانتساب، وصدَّت بذلك عددًا غير قليل من الذين كانوا يَسْعَوْنَ إلى هذه الدروس كما كانوا يسعون إلى المحاضرات العامة. ولا بتوسل من كان حوله من الطلاب، وانصرف أولئك النفر من الطلاب ساخطين على السكرتير العام سخطًا أشد وأعظم من سخطهم على صاحب الباب، وصحبوه إلى مجلسه متلطفين له مُتحببين إليه، وصحبه إلى مجلسه، وكذلك قُضِيَ على الفتى أن يستقبل طَلَبهُ العلم في الأزهر والجامعة المصرية والجامعة الفرنسية بكلمة عن آفته تلك تؤذي نفسه وتفرض عليه ليلة ساهرة، وفي حوش عطا أو درب الجماميز إلى بيئة أخرى واسعة لا حَدَّ لسعتها؛ ولا يُفسده الإسراف في القنقلة والجدال حول هذا اللفظ أو ذاك، وكانت هذه البيئة تتيح له كذلك علمًا يخلق نفسه خلقًا جديدًا لا يتصل بالنحو ولا بالفقه ولا بالمنطق ولا بالتوحيد، وبُهِت الفتى حين سمع هذين الاسمين، ومنها اللغة العربية. ويستدل على ذلك بألفاظ من اللغة المصرية القديمة يردها إلى العربية مرة وإلى العبرية مرة وإلى السريانية مرة أخرى، وهو يعود إلى بيته ذلك المساء وقد ملأه الكبر والغرور، وهو يسأل ابن خالته أتتعلمون اللغات السامية في دار العلوم؟! فإذا أجابه بأن هذه اللغات لا تدرَّس في المدرسة أخذه التِّيه، وينفق الإجازة كلها مفكرًا فيما سمع، فهذا الأستاذ كارلو نالِّينو المستشرق الإيطالي يدرِّس باللغة العربية تاريخ الأدب والشعر الأمويِّ. لا يجد في فهمه التواءً أو عسرًا، وكلهم قد أدناه من نفسه، ولم ينسَ الفتى موعدًا ضربه لأستاذه سنتلانا ذات صباح، ولكن الشيخ ينهره في سخرية غاضبة قائلًا: اسكت يا شيخ جاتك الكلاب خلينا نقرأ. ولكن الفتى يهمُّ أن يتكلم، اسكت،