بأنّه كائن حرّ لا يدين بقدرته على التّفكير بنفسه ومن ثمّ على إعطاء قيمة خلقيّة لأفعاله أو لمصيره الخاص، إلى أيّة جهة كانت مهما علت أو بسطت هيبتها على عقولنا. وذلك تقديراً منه بأنّ “ما لا يصدر عن ذات نفسه وحريّته، 1] في هذا السّياق تحديدا افتتح كانط تصدير الطّبعة الأولى من كتاب الدّين في حدود مجرّد العقل بالإعلان عن أطروحة مركزيّة لديه، من جهة ما هي مؤسّسة على مفهوم الإنسان… لا تحتاج أبدا فيما يتعلّق بذاتها إلى الدّين… بل هي مكتفية بذاتها”. 2] فما الذي دفع فيلسوف الأخلاق الأكبر إذن إلى تقديم “نظريّة فلسفيّة في الدّين”؟[3] هل توجد حاجة لا يحقّ للأخلاق أن تدّعيها لنفسها رغم اكتفائها بنفسها؟  إنّ الإنسان غالبا ما يعرف “كيف” يفعل في حياته لكنّه لا يعرف “لأجل ماذا” يجب عليه أن يفعل. 4] هو يشعر على الدّوام بحاجته إلى “غاية” ما، تكون هي غاية الغايات التي يجعلها نصب عينيه في كلّ وجود له على الأرض، غاية تمكّنه من أن يعثر على الخيط الرّفيع الذي يربط بين أن يفعل ما “يجب” عليه، أي أن يكون “سعيدا” بوجه ما. ولكن لأنّ الأخلاق لا تساعدنا إلاّ على الشّطر الأوّل، “تلبّي حاجتنا الطبيعيّة لأن نفكّر بالنّسبة إلى كلّ نشاطاتنا برمّتها في أيّة غاية يمكن أن يتمّ تبريرها من طرف العقل”. 5] ولكن مع شرط وحيد أنّها لن تكون إلاّ غاية حرّة. إلاّ أنّها “ناتجة عن تلك الواجبات ذاتها”. 7]  بذلك يصرّح كانط دونما مواربة: “إنّ الأخلاق إنّما تقود على نحو لابدّ منه إلى الدّين، وعبر ذلك هي تتوسّع إلى حدّ مشرّع خلقي… في إرادته تكمن تلك الغاية النهائيّة (لخلق العالم)”. إنّ أصل حاجة البشر إلى الدّين لا يكمن في أيّ نوع من العبوديّة، وبالتّحديد حريّة المصير، حريّة اقتراح غاية نهاية لوجودهم على الأرض، وليس أساسا لها”. بل الأمر بعين الضدّ: إنّه لا يصبح متديّنا إلاّ لأنّه متخلّق، 10] ليست العبادة غير نوع من الاحترام الكبير لكائن يساعد عقولنا على تمثّل أكبر قدر ممكن من الاحترام الأجلّ وأروع غاية نهائيّة ممكنة لوجودنا على الأرض. حتّى أكثر الأشياء جلالة، إنّما يصغر بين أيدي بني الإنسان، لكنّ المعضلة الفلسفية التي ينبّهنا إليها كانط هنا هي التالية: كيف نجمع بين حاجة البشر إلى تقديس شيء ما، وهو يقترح علينا أن نمشي في هذا السبيل: لا يمكن لأيّ شيء مقدّس أن يكون أهلا لأن يُعبد إلاّ “من حيث أنّ الاحترام الذي يتعلق به ينبغي أن يكون حرّا”. 12] العبادة الصحيحة ضرب من الاحترام الحرّ لقداسة نابعة من حاجة خلقيّة في طبيعتنا وليس من خوف كسول من المجهول. وبالتّالي تعامله وكأنّه في حاجة إلى من يدافع عنه. ولهذا السّبب فإنّ دفاع اللّاهوتيين عن الدين لا مبرّر له، خاصة إذا ما تمّ ضدّ فلاسفة الأخلاق. فاللاهوتي الذي يستعمل الكتاب المقدّس ضدّ منجزات العقل هو لا يريد بذلك سوى “إذلال كبرياء العلوم وإعفاء نفسه من التعب في طلبها”. 14] و“مثل تلك الشعوب، التي لا تجد في نفسها لا القوة ولا أيضا الجدّ الكافي للدفاع عن نفسها ضدّ هجمات خطيرة، فتحوّل كلّ ما حولها إلى صحراء، هو سوف ينتهي بالضرورة إلى مصادرة كل تجارب الذهن الإنساني”. الدين في حدود مجرد العقل بل هو الأمارة الكبرى والحاسمة على قدرتنا المطلقة على الحرية. أن نبقى في حدود العقل بمجرده يعني أن نرفض أيّ وصاية على طرق تفكيرنا، فإنّ اللاهوت نفسه ينبغي أن تكون له “الحرية الكاملة في أن يذهب في عمله إلى أبعد ما يمكن أن يبلغه”. 18] هذا هو الدّرس المثير للعصور الحديثة. ينطوي في ذاته على الآخر بوصفه دائرة أضيق من الأولى”. 19] يدور كلّ من العقل والدين حول “مركز واحد”، وعلى الفيلسوف أن يكشف النقاب عنه. 20] وليس دين شعب دون آخر، بل هو دين الطبيعة البشريّة أو الدين الذي يليق ليس فقط بالجنس البشري بل بالكائنات العاقلة عامّة. ولذلك فالمشكل هو: كيف نخرج بالإنسانيّة من دين الشّعائر إلى دين العقل؟ من دين تاريخي خاص بشعب دون آخر، إلى دين عقلي هو كوني لكل الشعوب؟. وبالتّالي قابلا للفهم. 21] 2. أنّه يوجد فينا صراع يقوده مبدأ الخير ضدّ مبدأ الشر من أجل السيادة على الإنسان. وعلينا أن نأمل في أن يؤدّي إلى إقامة مملكة الرب على الأرض. على حدّ عبارة كانط، علينا ألاّ نفهم هنا من لفظة “الطبيعة الإنسانيّة” في الإنسان سوى “الأساس الذاتي لاستعمال حريته عامّة”. “وذلك على نحو كلّي، إنّ الإنسان هو وحده مسؤول عن خيره وشرّه. 25] وحدها الحريّة هي مصدر كل ما هو شر أو خير فينا. 28] وهكذا يمكننا أن نقول في نفس الوقت إنّ الشرّ جذري فينا، لأنّه لا وجود لشرّ أخلاقي من دون حريّة. 29] ذلك يعني أنّ الشرّ ليس خبثاً، بل هو ناجم فقط عن “هشاشة” الطبيعة الإنسانية: إنّ حواسّنا أو الحيوان فينا أقلّ من اللازم لعقولنا؛ كما أنّ الشّيطان فينا أو “العقل الخبيث” هو أكثر من اللازم لحريتنا. 31] وعلينا أن نسأل: كيف يمكنني أن أكون إنسانا أفضل؟  طالما بقي تأسيس المسلّمات غير نقيّ، بل ينبغي أن يتحقّق عبر ثورة في النّوايا التي في الإنسان (عبر انتقال إلى مسلمات القداسة التي في تلك النّوايا)؛ سوى عبر نحو من الولادة الجديدة”. 32] و“حتّى الأطفال هم قادرون على رصد أقلّ أثر على خلط الدّوافع غير الصّحيحة”[33] مع الفعل الموافق لواجبنا. إنّ الضمان الوحيد للحريّة هو الاستعداد الخلقي في أنفسنا، من حيث هو كائن واجب الوجود، هو أمر ليس بالعسير في شيء”. وذلك بقدر ما يعمل بعقله الخاص على التّمييز بين دين تجاري وأناني، قائم على طلب النّعم والخيرات بواسطة مجرّد إقامة الشّعائر باعتبارها هي الدّين كلّه، كريم ومتواضع بشكل رائع، لذلك علينا أن نميّز بين “إيمان دغمائي” يقدّم نفسه بوصفه علماً جازما، متغطرسا على غير العالمين، وهذه الأفكار المزعومة التي لا سند لها سوى طاقة مريبة على الاستهانة بعقولنا يحصيها كانط في صنوف أربعة: وهو منها براء. وتحويل الدين إلى خرافة. الجرأة على الانغماس في نزعة إشراقية تتظاهر بأنّ نور العقل البشري يمكن أن ينفذ إلى الأسرار ما فوق الطبيعية.  4. التّجاسر على محاولة الفعل في الطبيعة وصنع المعجزات واستجلاب آثار الرّحمة والنّعمة الإلهية للبشر بشكل مباشر. 38] 39] وذلك من استحالة تسديد “دَين الخطيئة” بوصفه “الدَّين الأكثر شخصية”[40] في الضّمير العميق للبشر. لا يحتاج الدّين إلى عبيد يستعملون الشعائر دونما فهم لمعناها، في تملّق نسقي للإله الغائب، من أجل نعيم أخروي تمّ تحويله إلى جهاز ابتزاز أخلاقي للفانين على الأرض، بل إلى أحرار يؤمنون بأنفسهم بناءً على ما يمليه العقل بمقتضى الطبيعة البشرية بمجردها. وذلك أنّه “لا يوجد أبدا أيّ خلاص للبشر إلاّ في القبول الأشدّ حميميّة بالمبادئ الأخلاقية الأصيلة في نواياهم”. 44] إنّ الأخلاق مقام مناسب تماما للتحرّر من إيمان الخرافة، حيث لا تشترط الكفّارات التي يعوّل عليها أيّ تغيير في وعينا. وحده تغيير وعينا بإمكانه فتح الطريق أمام إيمان استطاع الاستغناء عن أيّ انتظار للمعجزات. ومن يرفض تحرّره بنفسه هو يزاول ضربا مقيتا من “الكفر الأخلاقي”[45] بفكرة الله نفسها التي يحملها في عقله : يكفر بما كُتب في قلبه “بقلم العقل” ويعوّل على ما يُحكى له من الخرافات. أي بالنّسبة إلى الاستعمال العمومي لعقلنا”. وفي عبارات تذكّرنا بما قاله ابن رشد في مستهلّ فصل المقال، ينبّه كانط إلى أنّ “بحثا في الكتاب المقدّس عن ذلك المعنى الذي يكون في تناغم مع أقدس ما يعلّمه العقل، ولكن هل يحقّ لنا فرض دين ما بالقوّة ؟ هل يحقّ لسلطة ما أن تكره النّاس على الدخول في جماعة أخلاقية أو دينية ؟ – إنّ إجابة كانط هي التّالية: “ويلٌ للمشرّع الذي يريد أن يحقّق بواسطة الإكراه دستوراً موجّها نحو الغايات الأخلاقية!”[48] على الدولة أن تترك المواطن حرّا تماما في أن يدخل أو لا يدخل في اتحاد أخلاقي مع غيره. ينبغي التّمييز بين مشرّع الجماعة الحقوقيّة ومشرّع الجماعة الأخلاقيّة: في السياسة يكون الجمهور هو ذاته واضع الدساتير؛ أمّا في الجماعة الأخلاقيّة فإنّ الشّعب لا يحق له أن يضع المبادئ الأخلاقية. 49] إنّ فكرة الله في عقولنا هي وحدها يحقّ لها أن تشرّع للجماعة الأخلاقيّة، ولا يمكن تصوّر جماعة أخلاقية “إلاّ بوصفها شعبا تحت أوامر إلهية… وبلا ريب طبقا لقوانين الفضيلة”[50] وليس شيئا آخر. “مأخوذ بوصفه إلهيا”، وهي فكرة رائعة لكنّها حين تقع بين أيدي البشر، أي حين تصبح “مؤسّسة”، 52] هي تفقد من أصالتها وتتحوّل إلى سياسة خرافة. الإيمان الدّيني المحض هو “مجرّد إيمان عقلي يمكن تبليغه إلى أيّ كان بغرض الإقناع؛ أن تبلغ إليه تحت ظروف الزّمان والمكان”. ينبغي علينا أن نميّز في أيّ إيمان بين “دين العبادات” الخاضع إلى “قوانين نظاميّة” ليس لها من صلاحيّة سوى صلاحية أحكامها المفروضة؛ ولأنّ الجنس البشري واحد، فإنّه لا يمكن لنا التذفكير إلاّ في “إله واحد” وبالتّالي لا يمكن أن يوجد بالنّسبة إلى عقولنا إلاّ “دين واحد”. 54] وهكذا فإنّ كلّ من يقبل الخضوع إلى “قوانين نظامية لهذا الإله” أو ذاك، فإنّ إيمانه لن يكون سوى “إيمان تاريخي” ولن تكون معرفته ممكنة إلاّ “عبر الوحي” المنقول إليه عبر الأجيال. وذلك انطلاقا من أنّ “إرادة الله مكتوبة في قلوبنا على نحو أصلي”، وهو أمر يرغب كلّ “دين نظامي”[55] في التغافل عنه. مرّة واحدة، منظورا إليه بوصفه مجرد إنسان”[56] أم خضوعا لتشريع نظامّي يحرص على الاستمرار التاريخي بأيّ ثمن، ولو كلّفه ذلك التضحية بالمشاعر الدينية نفسها ؟ يذهب كانط إلى أنّ الأجدر بنا، هو “أنّ التشريع الخاص بإرادتنا لا يجب أن يكون إلاّ تشريعا خلقيّا فحسب؛ وبما هو تشريع لم يصل إلى كلّ إنسان ولا هو يستطيع أن يصل إليه، هو لن يُعتبَر بالتالي ملزما للناس بعامة”. 57] كلّ معتقد يستمدّ صلاحيته من سنّة أو وقائع أو أحداث سردية بعينها هو ينتهي إلى التحوّل إلى قرية روحية لا ترقى إلى طموحات الجنس البشري في التوفّر على كرامة كونية أمام نفسه. ولذلك فليس من مستقبل لأيّ نوع من دين الوحي سوى النجاح الكوني في ترجمة هذا الوحي إلى وحي عقلي محض في صلب الطبيعة البشرية بما هي كذلك. ولذلك لا يحقّ لأيّ وحي أن يتعالى على الإمكانات الأصلية في العقل البشري، إنّ الشيء الوحيد الكوني فينا هو عقولنا من حيث ما تعبّر عن ملكات الطبيعة الإنسانية بمجردها. فكلّ معتقد يتطلّب تشريعا نظاميا هو لا يعبّر إلاّ عن عقيدة محلية أو جزئيّة. وحده الاعتماد على العقل البشري بمجرده يمكن ويحقّ له أن يحثّ بني البشر أجمعين على الخروج من “إيمان الكنائس” الذي لا يتميّز عن الجماعة السياسيّة إلى “إيمان الدّين المحض” الذي لا يمكن أن يأخذ إلاّ شكل الجماعة الأخلاقيّة. عندئذ “علينا نحن أنفسنا أن نحقّق الفكرة العقليّة لهذا النوع من الجماعة”[58] الأخلاقيّة بعيدا عن أيّ “قوانين نظاميّة” تقدّم نفسها على أنّها إلهية، تحت دعوى نفوذ إلهي”. إلاّ أنّه يمكن أن يكون ثمّة ضروب كثيرة من المعتقدات”. بل فقط أن نكتفي بالإشارة إلى المعتقد[62] : إنّ الإنسان إمّا يهودي أو مسلم أو مسيحي لكنّه في صميمه لا يعتنق الدّين بحدّ ذاته. بل “نحن نخلع على أغلب النّاس شرفا كبيرا بأن نقول عنهم: هم يعتنقون هذا الدّين أو ذاك، إنّ الإيمان الكنسي النّظامي هو كل ما يفهمونه تحت هذه اللفظة”. 63] كلّ متديّن هو متديّن قرية روحية محدّدة، وليس متخلّقا بإطلاق. 64] وهكذا فإنّ من يسمّى “كافرا” هو في واقع الأمر مجرّد مؤمن مختلف عنا. وليس يصنّف الناس إلى كفّار ومؤمنين مثل “سلفية استبدادية (متوحشة)”. 65] وكل معتقد نظامي يقود في آخر المطاف إلى تصنيف الناس إلى كفار ومؤمنين. إنّه لا مخرج من الاستبداد الدّيني إلاّ بالتّنبيه على وجود “مبادئ خلقيّة كونيّة للإيمان”[66] متقاسمة بين العقول كافّة، بل على العكس من ذلك هو يقصد إلى العمل الدءوب على تقريب كل دين شعبي من “نظرية خلقية مفهومة للناس كافة” هي وحدها تكون “ذات جدوى”. بل هو لا يتردّد في الدفاع عن أيّ إيمان شعبي بأنّه شيء لا يجب التلاعب به قائلا: “إنّه ليس من الفطنة القضاء عليه لأنّه يمكن أن ينبثق من ذلك إلحادٌ أشدّ خطرا على الدولة”. ولذلك نجد أنّ كانط يثني على جميع الأديان التي نعرفها بقدر ما تتأوّل العقائد الإيمانية “من أجل غايات حسنة وضروريّة بالنّسبة إلى كل النّاس”. حيث يقول: “إنّ المحمّديين إنّما يعرفون… كيف يمنحون وصفَ فردوسهم، المرسوم بكلّ شهوة حسية، معنى روحيّاً جدّا حقّا”. 69] وذلك أمرٌ مطلوب أخلاقيا ويمكن أن يحدث، حسب كانط، “من دون أن نصدم كثيرا مرة أخرى المعنى الحرفي للإيمان الشعبي”، 70] لا يعني تأويل الكتاب المقدّس بشكل خلقيّ العثور على المعنى الوحيد المقصود من قبله، لكنّ الدّين العقلي المحض هو الطرف الوحيد الذي يمكن أن يقدّم تأويلا مناسبا للطبيعة البشريّة بعامّة، بل إنّ “حرية التفكير العمومية” هي الضمان الأكبر لإصلاح أيّ استعمال غير مفيد لعقولنا في مسائل الدّين. وهذه الحريّة هي مبررة تماما ليس فقط للفلاسفة بل حتى لعلماء الدين أنفسهم حتى يكونوا دوما منفتحين على الرأي الأفضل في فهم أي مسألة ويمكن عندئذ “أن يعوّلوا على ثقة الجماعة في قرارهم”. ولا تطيقها أيّة عقيدة نظامية بعينها. وذلك أنّ الإيمان المخلّص ينبغي أن يكون إيماناً حرّا، 74] لأنّه يقع عقلاً ما وراء الإيمان والكفر بهذا الدّين أو ذاك. إنّ الإيمان الحرّ لا يحتاج إلى أيّ طقوس حتى يقنع رجال الدين النظامي بجدارته. إنّه يحمل الله في قلبه بوصفه فكرة الخير القصوى الممكنة لنا، 75] أي مثل طلاّب النّعيم الأخروي بالتملّق المنظّم للشعائر. ومن ثمّ يضيع الفرق بين “الخدمة” و“العبادة” على نحو مخجل ( der Dienst مصطلح يعني لدى كانط “الخدمة” و“العبادة” في نفس الوقت )، إلى حدّ أنّ اللغات الغربية لا تفرق بينهما إلاّ بتنبيه خاص. وإنّ أبرز تعبير عن حريّة الإيمان كونه لا يتمّ من أجل أيّ غاية أخرى غير ذاته. أن يؤمن المرء بشكل حر لا يعني سوى “أن يغيّر حياته إلى حياة جديدة مطابقة لواجبه”. 76] الإيمان الحرّ ليس “إيمان كفّارة”، إنّ العقل وحده يمكن أن يحرّرنا من أيّ شعور بالذّنب. أي بالاعتماد على “جملة القوّة التأمّلية لعقلنا”[78] بمجرده. وهم قد بحثوا عنه في كلّ مكان، إلاّ في أنفسهم. وقد آن الأوان ليفهم الإنسان أنّ هذا النّموذج ليس سوى فكرة “الإنسانيّة التي يرضى عنها الله” نفسها، وحسب كانط فإنّ فكرة “ابن الله” المسيحيّة تستجيب بوجه ما إلى هذا الشّرط الأخلاقي. 79] إنّ القبول بإمكانيّة وجود إنسانيّة يرضى عنها الله هي فكرة عقليّة تشير إلى إيمان عقلي صرف، وليس إلى معتقد بعينه. ومن ثمّ لا يتعلّق الأمر بمسألة “نعمة” بل بمسألة “سيرة”. 80] وإبعاد البلاء عن الدولة”. 81] ما وقع هو نقل مصدر الدّيون من الأرض إلى السّماء. نعني قدرته على التّشريع لنفسه فيما يجب ولا يجب أن يؤمن به بكلّ حريّة. 82] ماذا يبقى من العقل، وهو أقدس المقدّسات على الأرض، بما هو القوة التي تمكّن البشر من معرفة الله نفسه، ولكن بما فينا من قوة عقلية على التشريع لأنفسنا. وذلك أنّه لا معنى لأيّ ألوهيّة تعطّل “الاستعداد الخلقي فينا، الذي هو الأساس وفي نفس الوقت المؤوّل لكل دين”. 84] بل لأنّه أنبل فكرة في أفق أنفسنا، ومن ثمّ أكثر الأفكار العقلية حريّة بالنّسبة إلينا. ومتى بلغنا إلى الإيمان الحرّ به بوصفه فكرة حرّة، يختارها الأحرار طواعية بوصفها الشّكل الأقصى من مطابقة حياتهم لواجبهم بناءً على قوانين الحريّة، “عندئذ يزول الفرق المهين بين اللائكيين والقساوسة، 85[85] وعندئذ يسقط الفرق الاستبدادي بين عامّة جاهلة وخاصّة عالمة، هو يؤجّل كلّ تنوير حقيقي من أجل الانتقال نحو عصور الحريّة. بل فقط التعامل معه وكأنّه “إرادة حاكم العالم كما أوحيت إليه عن طريق العقل”. 86] ذلك يعني أنّ الأمر لا يتعلق بالفصل بين الإيمان وعدم الإيمان، بل بتصوّرين مختلفين للوحي: هل هو بضاعة عقديّة متناقلة بشكل وضعي وتاريخي، أم هو وحي العقل المحض، لأنّه أقدس ما يمكن أن يخطر على بال البشر عامّة؟ ولذلك ليس مطلوبا سوى الإنصات إلى ما هو عقلي في كل وحي، وتخريجه بشكل مناسب لطبيعتنا الأخلاقيّة، أي لحريّتنا. و“لا ينبغي انتظاره من ثورة خارجيّة، تأتي بشكل عاصف وعنيف… وحيث أنّ ما يُقترف من الأخطاء عند تأسيس دستور جديد يوما ما، 87] إنّ الإيمان الحرّ موقف أخلاقي باطني خاصّ بتغيير ما بأنفسنا. ولذلك لا معنى لأيّ عنف ديني عامّة. بين الدّين والعنف لا توجد أيّة رابطة ضروريّة، وحدها الدّولة التي تعامل الدّين بوصفه مؤسّسة رسميّة للطّاعة، لكنّ الدّين ليس مؤسّسة بالضرورة. وحده دين العبادات يقبل هذا النّوع من الاستعمال العمومي. معارك الدّول كلّها معارك تتعلّق بالشرعيّة؛ أمّا الجماعة الأخلاقيّة التي ينشدها أيّ إيمان حرّ فهي في جوهرها ثورة روحيّة من أجل انتماء غير مرئي، غير قابل للتّرجمة في أيّ جماعة مدنية إلاّ عرضا. لذلك ليس “دين العقل الكوني” الذي يصبو إليه كل مؤمن حرّ سوى ضرب من الاستعمال العمومي لحريّتنا وفقا لواجبات أخلاقية نريد لها أن تُعامل بوصفها أوامر إلهية، وبالتالي مقدّسة. 89 [89] وذلك بناءً على طموح شديد إلى بلورة ملامح “قانون دولي للشعوب، لكنّ كلّ إيمان تاريخي مطالب بالانفتاح على أفق الإنسانيّة. فإنّ اليهوديّة “قد أقصت الجنس البشري برمّته من جماعتها”. ولا بأيّة شرائع عامّة، إنّما ينبغي أن يتضمّن ديناً يكون صالحا للعالم، وليس لشعب وحيد بعينه”. 93[93] ولذلك لا يمكننا أن نقبل من قصّة المسيح إلاّ “تاريخه العمومي”،