تبعث بوفودها - كما نقول اليوم - إلى الأقطار والممالك ، وتحملها مسؤليات و مهمات تقوم بها ، إما سياسية ، أو ثقافية ، أو دينية ، أو تجارية ، أو استطلاعية خالصة . ومن هذه الوقود بعثة برية أرسلها الخليفة الواثق بالله ( ۲۲۷ هـ - ۲۳۲ هـ ) إلى سد يأجوج ومأجوج ، حوالي منتصف القرن الثالث الهجري ، حفظ منها ياقوت الحموي في معجمه على لسان . سلام الترجمان ، ، ما يحسن الرجوع إليه والتفكه بنوادره ، والوقوف على عقلية الرحالين في ذلك الزمان . ومنها كذلك وقد أرسل إلى الصين أيام المحادثات بين السامانيين وملك الصين ، وفيه أبو دلف وصف الرحلة وصفاً بديعاً . ومن هذه الوفود الرسمية بعثات جاسوسية من الرجال والنساء كانت تستطلع الأخبار ، كما حدث ابن حوقل عن عهد هارون الرشيد أنه أرسل رجلاً يتجسس الأخبار من بلاد الروم عشرين سنة وكان سأله هارون الرشيد عن عجائب الأمور ، فكان يخبره . ونحن لا نطمح في هذه المقدمة أن نستقصي أخبار الرحالة المسلمين وأسماء الوفود الرسمية في القرنين الثالث والرابع الهجريين ، ووصف ما وقع منهم وما تركوه من كتب ، فذلك كثير واسع . ولكننا أردنا أن تمهد للحديث عن هذه الرحلة ، ونبسط أهميتها ، وترسم عاصمة الخلاقة ، ذكر المؤرخون أن المقتدر بالله أبا الفضل جعفر ابن الخليفة المعتضد ، بويع بالخلافة سنة ٢٩٥ هـ ، وعمره ثلاث عشرة سنة ، وقال عنه ابن الطقطقي ) إنه كان سمحاً كريماً كثير الإنفاق ، أكثر من الخلع والصلات وكان في داره أحد عشر ألف خادم خصي من الروم والسودان ، وكانت خزينة الجوهر في أيامه مترعة بالجواهر النفيسة . وذكر أن دولته كانت ذات تخليط الصغر سنه ، ولاستيلاء أمه ونسائه وخدمه عليه ، فكانت دولته تدور أمورها على تدبير النساء والخدم ، وهو مشغول بلذته فخربت الدنيا في أيامه ، وخلت بيوت الأموال ، حتى قال بعض المؤرخين إنه أنفق سبعين مليون دينار ضياعاً وتبذيراً ، ما عدا نفقات الدولة ، فقد اضطر في استرضاء الجند والغلمان أن يبيع ضياعه وفرشه وآنية الذهب ، وقد خلع وأعيد ثم قتل ، ومكشت جثته مرمية على قارعة الطريق سنة ۳۲۰ ه . وقد استوزر هذا الخليفة أبا الحسن علي بن الفرات ، وكان من أجل الناس وأعظمهم ، ثم استوزر علي بن عيسى بن الجراح ، وحامد بن العباس وهؤلاء الثلاثة كانوا من ألمع الوزراء وأقواهم في تدبير الملك ، ولكن الفتن الداخلية والخارجية سـ سدت عليهم سبيل العمل المثمر ، فحالف المملكة سوء الحظ ولولا ذلك لكانت خلاقة المقتدر من أجدى العهود على الناس ، في تاريخ الوزراء » " وفصله تفصيلاً لم يترك فيه زيادة لمستزيد يرغب في دراسة العصر والحكم وحال الشعب . والذين يريدون أن يقفوا على حال الخلافة وهيبتها وسمعتها في الخارج - كما نقول اليوم - يستطيعون أن يرجعوا إلى كتب التاريخ ليروا إلى أي مدى كان الوزراء يطمحون في إعلاء شأن الحكم واظهار حال السلطان . فقد بسط ابن مسكويه في كتابه . تجارب الأمم " ، حادثاً نحب أن نثبته هنا ، لتصور حال بغداد وحكومتها سنة ٣٠٥ للهجرة أي قبل أربع سنوات من سفر ابن فضلان قال مسكويه : « ودخلت سنة خمس وثلاثمائة : وفيها ورد رسولان لملك الروم إلى مدينة السلام ، على طريق الفرات بهدايا عظيمة وألطاف كثيرة ، يلتمسان الهدية . وكان دخولهما يوم الاثنين لليلتين خلتا من المحرم ، فأنزلا في دار صاعد بن مخلد . وتقدم أبو الحسن ابن الفرات بأن يفرش لهما ويعد فيه كل ما يحتاجان إليه من الآلات والأواني وجميع الأصناف ، وأن يقام لهما ولمن معهما الأنزال الواسعة والحيوان الكثير والحلاوة ، حتى يتسع بذلك كل من معهما والتمسا الوصول إلى المقتدر بالله ليبلغاه الرسالة التي معهما فأعلما أن ذلك متعذر صعب ، لا يجوز إلا بعد لقاء وزيره ومخاطبته فيما قصدا إليه ، وتقرير الأمر معه ، والرغبة إليه في تسهيل الأذن على الخليفة ، ما النمسا . فسأل أبو عمر عدي ابن عبد الباقي الوارد معهما من الثغر أبا الحسن ابن الفرات الأذن لهما في الوصول إليه ، فوعده بذلك في يوم ذكره له . ه و تقدم الوزير بأن يكون الجيش مصطفاً في دار صاعد الى الدار التي أقطعها بالمخرم ، وأن يكون غلمانه وجنده وخلفاء الحجاب المرسومين بداره منتظمين من باب الدار إلى موضع مجلسه ، وبسط له في في مجلس عظيم مذهب السقوف في دار منها ، يعرف بدار البستان ، بالفرش الفاخر العجيب ، وعلقت الستور التي تشبه الفرش ، واستزاد في الفرش والبسط والستور ، ما بلغ ثمنه ثلاثين ألف دينار ولم يبق شيء تجمل به الدار ، ويفخم به الأمر ، إلا فعل . وجعل على مصلى عظيم من ورائه مسند عال ، والخدم بين يديه ، وخلفه ، وعن يمينه ، وشماله ، والقواد والأولياء قد ملأوا الصحن . ودخل إليه الرسولان فشاهدا في طريقهما من الجيش وكثرة الجمع ما هالهما . و تابع مسكويه وصفه المفصل البديع ، فرسم الرواق والرجال قد امتلأت بهم الدار ، وصحن البستان ، والمجلس الذي جلس فيه الوزير ، وذكر أن معهما المترجم يصف لهما ويشرح ، وأنهما جاءا في طلب الفداء فوعدهما الوزير، والتمس لهما مقابلة يوصلهما فيها إلى الخليفة ، فلما كان اليوم المرسوم اصطف الجند من دار صاعد إلى دار السلطان فوقفوا في الزي الحسن والسلاح والتام ، وتقدم بأن تشحن رحاب الدار والدهاليز والممرات بالرجال والسلاح ، ووصف مسكويه كيف أخذ الرجلان من تمر يفضي إلى صحن ، ومنه إلى ممر فصحن ، الصحون والممرات حتى كلاً من المشي وانبهرا ، لكثرة الرجال والسلاح ، ثم أدخلا على الخليفة المقتدر وكان المقتدر جالساً على سرير ملكه ، وحوله الأولياء وقوف على مراتبهم فلما دخلا قبلا الأرض ووقفا حيث استوقفهما الحاجب ، فأديا الرسالة ، فأجابها عنه الوزير وانتهت المقابلة . فلما خرجا من حضر ته خلع عليها مطارف خز و عمائم خر . وأطلق على القواد الشاخصين من بيت المال مائة ألف وسبعون ألف دينار. وحمل إلى كل واحد من الرسولين عشرون ألف درهم صلة لهما ، وخرجا مع المترجم من حدود البلاد ، وتم الفداء . ولعلنا أسهبنا في الرواية والنقل والتلخيص ولكننا أردنا أن نرسم حال بغداد والخلافة والوزراء ، والجند ، والمراسم ، قبل أربع سنوات من سفر ابن فضلان وخروجه من بغداد ، وأن نصور البلد الذي خرج منه في حضارته وعمر انه وزيه وتقاليده وأن نشير إلى الغنى والثروة والجاه والمنعة والقوة وبراعة التمثيل ، مما ييز أعرق الممالك في الحفاظ على التقاليد القديمة من دول أوربة اليوم . فما نظن أن واحدة منها تقف اليوم في مراسمها من الجند واللباس والفرش وتوزيع المال والاغداق ، لما كانت تفعل بغداد منذ عشرة قرون . بل اننا لا نكاد نرى سبيلاً للموازنة في اصطناع الهيبة وإنظار السفراء وبهر أبصارهم بين ما كانت عليه بغداد وما هي عليه أغنى عواصم الملك اليوم في الغرب . 4 وسنرى أثر هذا كله عند ابن فضلان ، ومملكته من ترف وحضارة ، أصبح يستصغر أحوال الممالك التي رآها ، وخاصة أوربة الشمالية ، فرسمها رسماً غريباً ، يشعرنا بأنه كان ينظر إليها في عجب كما ينظر بعض سفراء الغرب اليوم إلى من يسمونهم بسكان الممالك المتخلفة . وهذا أوان الحديث عن الرحلة وصاحبها . الوفد والخطة رسمنا جانباً من حال الخلافة والخليفة ، لتنتهي إلى أن سمعة بغداد في الخارج كانت جيدة بل عظيمة ، يتهافت الملوك والامراء عليها ليعقدوا معها أجمل الصلات وأوثق المخالفات . حتى أن « الصقالبة ، وهم من سكان الشمال في أوربة ، على أطراف نهر الفولغا ، وعاصمتهم على مقربة من « قازان (۱) ، اليوم في خط يوازي مدينة موسكو ، قد طلبوا عون الخلافة ومساعدتها . فقد ذكر ابن فضلان أن مليكهم « ألمش ابن يلطوار (۳) ، طلب إلى أمير المؤمنين المقتدر بالله أن يرسل إليه بعثة من قبله، تفقهه في الدين وتعرفه شرائع الاسلام ، وتبني له مسجداً ، وتنصب له منبراً يقيم عليه الدعوة للخليفة في جميع مملكته وسأله إلى ذلك أن يبني له حصناً يتحصن فيه من الملوك المخالفين له . فقال إنهم ملوك الخزر وهم من اليهود ، كانوا يعتدون على قومه ، ويفرضون عليهم الضرائب يؤدونها عن كل بيت في المملكة جلد سمور ، وابن ملك الخزر يخطب من يريد من بنات ملك الصقالبة ويتزوجها غصباً ، والخزري يهودي ، وابنة الصقلبي مسلمة . وقد رأى ابن فضلان أن مملكة الصقالبة واسعة وأموالها جمة وخراجها كثير فسأل الملك عن سبب استنجاده بخليفة المسلمين فأجاب بأنه يتبرك بأموال المسلمين ويعتز بدولتهم ) . وهذا الأمر يدعو إلى الزهو من جانب بغداد ، ويوضح هيبة الخليفة ، مكانة السلطان في أوربة آنذاك ، وخاصة حين يستنجد به ملك المملكة واسعة ، ويسعى معه إلى حاف ثقافي ديني عسكري ، كما نعبر عن ذلك اليوم . ويرسم ويبدو أن الخليفة أو وزيره حامد بن العباس (۲) أو كلاهما معاً - فقد كانت سن الخليفة سبعاً وعشرين سنة - ارتضيا هذه المعاهدة حين وفد رسول ملك الصقالبة يسعى لها وهو عبد الله بن باشتو الخزري ( وعجيب أن يرسل الصقالبة رجلاً خزري الأصل ، ولعلهم اختاروه لمعرفته اللغة العربية ، أو لثقتهم به وبحسن إسلامه . وتقرر أن يكون الوفد الرسمي من أربعة أشخاص هم سوسن الرسى مولى نذير الخرمي ، وتكين التركي ، وبارس الصقلابي ، وأحمد بن فضلان ، ومعهم دليل هو رسول الصقالبة . الروسية ، فالأول ( سوسن ) يبدو في نسبته من بلاد الروس قد استجلب كرقيق ثم تعلم العربية وحسن اسلامه و تقدمت به مراتبه والثاني بارس الصقلابي واسمه و نسبته دليلان على أصله (") . وأما الثالث فهو تركي الأصل يجيد لغات الأتراك التي يمر ببلادها الوفد في طريقه إلى الفولغا ، وقد كان حداداً في خوارزم ، وقف على بيع الحديد في بلد الكفار وهو الذي أقنع نذير الخرمي بايصال كتاب ملك الروس إلى الخليفة المقتدر بالله - فيما تقول الرسالة - وأما الرابع أحمد بن فضلان فهو فيما تعلمنا الرسالة يجهل اللغات الأجنبية ، ولكنه على إلمام تام باللغة العربية وبالشريعة الاسلامية ، وإليه فيما رأينا رئاسة الوفد وقياده ، فهو في كل الظروف يأمر وينهى ويقرر الرحلة أو البقاء ، وهو نفسه يقول (۳) : « فندبت أنا لقراءة الكتاب عليه ، وتسليم الهدايا ، والاشراف على الفقهاء والمعلمين . وقد علمنا من الرسالة أن الوفد سيحصل على المال اللازم للفقهاء والمعلمين ولبناء الحصن من خراج ضيعة معينة من ضياع ابن الفرات الوزير السابق (1) ، وقد خلع قبلها ، وصودرت أملاكه ووزعت جراياتها ، وجعلت للدولة تنفقها كما فعلت في نفقات هذا الوفد . وقد أرفق الوفد بأشخاص ثانويين ذكر هم ابن فضلان فقال : « الفقيه والمعلم والغلمان الذين خرجوا معنا من مدينة السلام ، ولعلهم في مرتبة الملحقين المعاونين كما نسميهم بلغة الدبلوماسية اليوم ( بالورقة ۱۹۹ و ) . وقد حمل الوفد فيما حمل « أدوية ، كان ملك الصقالبة طلبها من نذير الخرمي وهذه شهادة أخرى على تقدم المملكة العباسية ، وغنى حضارتها ، ووفرة الأدوية عندها ، وفقدانها في بلاد البلغار آنذاك وصف الرحلة وفي الرسالة تفصيلات دقيقة على ايجازها وقصرها ، تحدد لنا تاريخ الرحلة وأيامها وخطتها وسيرها ، وتتيح لنا أن نرسم الطريق الذي مرت فيه ، والأوقات التي قضتها في كل مدينة وقرية ، وعند كل نهر أو مفازة . فقد رحل الوفد من بغداد يوم الخميس ۱۱ صفر ۳۰۹ هـ ( الموافق ۲۱ حزیران (۹۲۱) وظل يصعد شرقاً وشمالاً ماراً باقليم الجبال ، فهمذان فالري قرب طهران اليوم ، وعبر نهر جيحون ، فبلغ الى بخارى ، ثم أوغل في البراري والبوادي حتى وصل إلى الفولغا ، عند ملك الصقالبة ، يوم الأحد ۱۲ محرم ۵۳۱۰ ( الموافق ١١ أيار (۹۲۲ ) ، فاستغرقت رحلته أحد عشر شهراً في الذهاب ، لاقى خلالها مصاعب كثيرة وأهوالاً مذهلة ، وصفها ابن فضلان وصفاً جميلاً بارعاً يضعه في الصف الأول من الرحالة الأدباء فقد ذكر أنه تنكر في القافلة قبيل نيسابور خوفاً على نفسه ثم دهمه الشتاء في الجرجانية على نهر جيحون ، فإذا باب من الزمهريز قد فتح ، واذا الريح عاصف شديدة ، فإذا خرج من الحمام الى البيت جمدت لحيته فأصبحت قطعة واحدة من الثلج ، وإذا هو يبيت في بيت داخل بيت ، ويتدثر بالأكسية والفراء ، يلتصق خده على المخدة لشدة البرد . وحين أوغل في بلد الترك لقي الضر والبرد حتى أشرف على التلف فيمن معه . ولقيه واحد من قطاع الطرق فأوقف القافلة بأسرها وهي نحو ثلاثة آلاف دابة وخمسة آلاف رجل ، فنجا منه بالهدية والحسنى وعبر الأنهار في جهد جهيد والغرق يتهدده مع القافلة كلها . (1) وهو على هذه الأخطار التي واجهته ، والدسائس التي تربصت به ، والمشقة الطويلة التي عاناها ، كان شديد الايمان بالله ، عظيم التمسك بدينه وأخلاقه وتقواه لا يخون الأمانة ولو خانها رفاقه ، ولا يفتر عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طوال الرسالة ، فتراه يضرع إلى الله أن ينجيه من شر ما يلقاه ، ويبرأ إليه من شرور الناس الذين يراهم في طريقه . يتقزز من القذارة والأوساخ . والاسلام أمر بالنظافة وجعلها من الإيمان . ويهوله أن يرى النساء إلى جانب الرجال ، بل يفزعه أن يراهن في عرى مخجل فيدعوهن إلى التستر ، فإذا شاهدهن في الماء بغير ثياب طارصوا به ، وفزع إلى الله من شر الكفر الذي كان يسمعه من الكفار في سبيله . وكم تلفت إلى أمور الدين وهو في أشد المواقف خطراً ، فنعى على القوم أنهم ه لا يستنجون من غائط ولا بول ولا يغتسلون من جنابة ( ، ، وكم ستر وجهه حين تكشف النسوة عن عوراتهن . وكان يرتجف لسماع أسئلة ملؤها الكفر ، فيستغفر الله السائله حين يقول له ألربنا عز وجل امرأة ؟، ولفت نظره أن الرجال هناك ينتفون لحاهم ويرسلون سبالهم فشبههم بالتيوس . أقوام الخشب ينحتونه على أشكال مخزية ، أو أن يتخذوا أربابا كثيرة ، فيتلو للحال آية الله الكريمة : : تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، وساءه أن تعبد طائفة من الطوائف سمكاً أو حيات أو كراكي . بل إنه ليتمسك بالدين وتقاليد الاسلام ، فيأمر الملك برد السلام على أمير المؤمنين ، ويمنعه من تسمية نفسه بالملك ، لأن الله هو الملك وانما يستطيع أن يلقب نفسه بعبد الله وأورد في ذلك حديثاً للنبي صلوات الله عليه في هذا الصدد ثم انه يأمر المؤذن بافراد الاقامة وكان يثنيها إذا أذن ، حتى لقد عرف الملك شدة تقواه فسماه : أبا بكر الصديق ، وآثره وقربه وباعد أصحابه ، وقد اعترف بأن رجلاً أسلم على يديه وكان اسمه ، طالوت ، فسماه ، عبد الله ) ، وأسلمت امرأته وأمه وأولاده فسموا كلهم باسم . محمد ، وعلم الرجل سور القرآن القصار ، فكان فرحه بذلك أكثر من فرحه إذا صار له ملك الصقالبة . ويطول بنا الأمر ان رحنا نستعرض ما في الرسالة من تمسك ابن فضلان بدينه ، وفرحه الشعائر الاسلام ، وغضبه لانتهاك حرمة المسلمة حين ذكر أن ملك الخزر اليهودي يغصب المسلمة الروسية على الزواج منه . وذلك كثير في الرسالة يشير إلى أن الرجل قام بمهمته في الدعوة للدين والتبشير به خير قيام ، فقد وفد لهذا ، وذكر أن البعثة كانت تريد تفقيه الشعب هناك بالدين في جملة مهماتها . ونظن أنه انما فصل الأمر في احراق الروس أنفسهم ، واحراق جارية مع الميت ، لكرهه ذلك ، وغضبه من مرأى الجارية يتناولها الفجار من اصحاب الميت في أوضاع يأباها الاسلام والدين والذوق . .. والعجب أشد العجب في هذه الرسالة ، يخطها رجل فقيه ، فيجيد في الوصف على أروع ما يجود فيه الأدباء ، يصور ما يجول في نفسه من مشاعر الفرح والغبطة والخوف والفزع ، والعجب والدهشة ، فيقربنا من المشاهد التي رأى تقريب أديب أريب لا فقيه مبشر . ولولا أنه ذكر مهمته وألح على بيانها ، وأكثر من النصح والنهي لسلكناه في الأدباء والقصاصين فحسب ، وذلك لبراعة قلمه وحسن بيانه وجودة عبارته ، وشدة أسره ، وعظيم ايجازه في التعبير ، ودقته في اللفظ وانسيال الجمل على قلمه في سهولة ويسر ، وفي تتابع من غير تقطيع ولا استطراد . فلم نقع على تقعر في المفردات ، ولا تكلف في الانشاء ، فأسلوبه من السهل الممتنع وبيانه من الإيجاز بحيث يقع في صدور الكتاب وفي طليعة المنشئين . وأما رسالته من حيث المنهج فهي أشبه بالقصة ، تتماسك حلقاتها وأحداثها ، كرواية متشابكة متصل أولها بآخرها . وهو على ايراده الأرقام والأعداد في ذكر التواريخ والمسافات والأبعاد والأيام ، لا يبتعد عن أسلوب الأديب ، ولا يتقرب من أسلوب الجغرافي . فلا ترى له ذكراً لدرجات الطول والعرض ومواقع البلدان ، ودرجات الحرارة وموازنة الأقاليم بعضها ببعض كما يصنع الجغرافيون . التي مرت به والأشخاص الذين لقيهم على المحاورة المباشرة ، كقصة كتبت لأيامنا وهذا سر نجاحه في رسالته ، وسر الاعجاب بها والعكوف عليها ، حين اتخذها المستشرقون موضعاً للترجمة والنقل فرأوا فيها قطعة من الأدب الرائع في الرحلة . وقد أفاده أدب القرآن والحديث في أسلوبه ، فاقتبس منهما من غير أن يتكلف ذلك ، كأنه تشبع به فسال بيانه مشرقاً متيناً لا ضعف فيه ولا انحطاط . فإذا بدا بعض التفكك في هذه النشرة فمرده إلى حال النسخة وتصحيفها وإلى الترقيع الذي أدخل عليها في التصحيح ، فالثوب الرائع لا يصلح رتقه إلا الناسج الرائع . وأنى لبياتنا أن يصلح من بيانه ما أفسد الدهر والنساخ . أهمية الرحلة : يقول المستشرق الأستاذ ، فرمن ، حين قدم لدراسة ابن فضلان في الألمانية ان تاريخ روسية وما جاورها في العصور القديمة غير معروف وهو ما يزال غامضاً مبهماً في أكثر نواحيه لم يضىء من جوانبه أحد من الأوربيين . وفي زمن نسطور - Vextor ، كتب عن البزنطيين والفرنك والسكاندنافيين ولكن ما كتب لم يتوسع في أخبار الروس . فإذا كان الغرب قد أغفل روسية فان العرب والشرقيين تحدثوا عنها ، فألقى العرب أنواراً كثيرة على تاريخ الغرب القديم ، وأدلى بمعلومات نافعة وخاصة عن البلغار وروسية في عهدها البعيد ، وبذلك فتح العرب عيون الغرب على معلومات في الكون عجيبة من أقصى الهند والصين إلى المحيط الأطلسي . فقد كتبوا عن مجاوريهم في حدود واسعة ، والفولغا . وذلك لأن تعاليم الدين الاسلامي توحي بطلب العلم وتفرضه وتطلب السعي إليه . ذلك ما قاله المستشرق منذ مائة عام في فضل العرب على الغرب من حيث كتب الرحلة ، أثبتناه ، لنبين أهمية ما كتبه الأجداد ، وفيهم ابن فضلان ، ولنشير إلى يدهم في الكتابة عن أقطار الغرب ، وعن روسية خاصة . فالقوم لا يعرفون من تاريخها القديم كبير أمر . فلما وقعت إليهم رسالة ابن فضلان فرحوا بها لأنها تسد ثغرة كبيرة في الحديث عنهم الماضيهم البعيد ، ولعلها وحدها تنير صفحات واسعة في حياتهم ، وتتحدث عن معيشتهم في أمانة ودقه وتوفيق ونحن لا تنظر إلى الرسالة من هذه الناحية فحسب ، وإنما نرى أن الرجل قد صور الرحلة والعادات والتقاليد والحياة والأخلاق في ذلك العصر ، في مختلف المناطق التي مر بها أو قام فيها ، فلم يغفل كثيراً مما يحتاج إليه ذلك الزمان ، وكان دقيق الملاحظة ، يسجل أكثر ما يرى السائح ، وينقل إليه ما يدور خلال السياحة من حوار ودسائس ، ويصف الحكام والأمراء ورجال الشعب على حد سواء ويرسم الهيئات والوجوه على ايجاز الرسالة وقصرها . مر ببخاري فوصف الدراهم الغطريفية وتركيبها وقيمتها ، وفعل مثل ذلك حين وصل إلى خوازرم فوصف در اهمها و تركيبها وتسميتها بالطازجة ورسم وحشية أهلها وصور كلامهم بأنه أشبه شيء بصياح الزرازير ، كما صور كلام قرية قريبة بأنه أشبه شيء بنقيق الضفادع فبين حال الأجنبي حين يسمع لغة لم يألفها سمعه ، فحار في تشبيهها ورسمها . ورسم اللباس في البلاد التي مر بها ، وقرب إلينا أشكاله حتى ليستطيع الرسام أن ينقل منه صوراً صوراً لأزياء البلاد في ذلك الزمان رحالة شاهد بعينه وصور بقامه ، وأسماء الألبسة مهمة جداً لمن يريد أن يدرس الحياة الاجتماعية والبشرية . .. وأما عادات تلك الشعوب في عيشها وحديثها وتدينها فقد أحسن في بسطها فشرح حال الزواج والمهر وشروطه ، وأوضاع السكنى والمأكل والمشرب ووفاء الدين وحال المدين ، والضيافة واستقبال الزائرين والغرباء ومراسم ذلك كله في هذه الأصقاع . والمهم في هذه الرسالة أنه خص بلاد البلغار والروس بوصف محيط دقيق وصف الصقالبة فأفاض في مراسم الاستقبال ، وفي عيش القوم ، وجلوس المليك وطريقة الأكل مما يخالف حياة العرب ومأكلهم . ووصف المائدة . وقد جلس مليكهم فأخذ سكيناً ، وقطع لقمة من اللحم المشوي وأكلها ، ثم دفع قطعة إلى غيره ، فلا يمد أحد يده إلى الأكل حتى يناوله الملك قطعته . وكان كل يأكل من مائدته لا يشركه فيها أحد ، ولا يتناول من مائدة غيره شيئاً . ووصف قصر الليل وطول النهار في تلك البلاد ، حين حار في تأدية صلاة المغرب مع صلاة الصبح وقرب طلوع الفجر . وذكر أن القوم يأكلون لحم الدابة وأنهم لا يجدون موضعاً يجمعون فيه الطعام ، فيعمدون إلى آبار يحفرونها في الأرض ويجعلون فيها الطعام ، ولا تمضي عليه أيام حتى يتغير وينتن . ثم ذكر أن القوم يلبسون القلانس ، ويرفعونها عن روؤسهم حين يمر بهم الملك ويجعلونها تحت أباطهم ، وينهضون له واقفين ، فاذا جاوزهم ردوا القلانس إلى الرؤوس . وأنهم يحيون الملك بمثل ذلك ، حين الدخول عليه ، ويحنون له الرؤس وينتظرون الاذن بالجلوس . وذكر أنهم ينزلون إلى النهر فيغتسلون رجالاً ونساء وهم عراة ، وقانونهم في الزنا شديد فهم يقطعون المجرم بالفأس من رقبته إلى فخذيه . .. و دفن الموتى عند المسلمين منهم يكون بعد الغسل بأن يحملوا الميت في عجلة ، وأن يواروه اللحد ، ويجعلون بعد ذلك سلاحه عنده حول قبره ولا يقطعون البكاء عليه سنتين . ثم وصف الروس في أبدانهم فرأى أنهم شقر حمر ، وأن الرجل منهم يحمل سيفاً وفأساً وسكيناً لا تفارقه . والمرأة تجعل على ثديها حقة مشدودة من حديد أو فضة أو نحاس أو ذهب على قدر غناها ، وفي كل حقة سكين مشدودة على الثدى ، وفي عنقها طوق أو طوقان على قدر ثروتها كذلك . وقال إنهم يجتمعون على السكنى في بيت واحد عشرة أو عشرون ولكل منهم سرير يجلس عليه ، وحياتهم الزوجية عجيبة مكشوفة لاحياء فيها ولا عار ، على قذارة في الثياب والأبدان . فهم يغسلون وجوههم في طست واحد يطاف عليهم به يرسلون فيه كل ما يخرج من أفواههم وأنوفهم . وأنهم يسجدون لخشب ركزوه في الأرض وقد صنع على شكل صور ، وفصل الأمر في الموت عند الروس تفصيلاً بارعاً ، فقد وقف على ذلك بنفسه و شاهده بعينه ، فقص علينا ما رأى من موت روسي جليل . فقال إنهم جعلوه في قبر وسقفوا عليه عشرة أيام حتى فرغوا من قطع ثيابه . ثم سألوا جواريه من تموت معه ، فإذا كان يوم الحرق شربت الجارية وغنت ، وأحضرت إلى سفينة معدة لذلك الأمر . وأخرجوا الميت من قبره وجعلوا معه نبيذاً وفاكهة وطنبوراً ، وألبسوه أجمل الثياب الفاخرة وأدخلوه القبة ، وطرحوا بين يديه الماكل ، ثم دفعوا الجارية بعد أن تودع صواحبها ، فخنقوها وقطعوا أضلاعها ، ثم أحرقوا الخشب تحت السفينة ، حتى أصبحت رماداً تذروه الرياح ، وغرسوا في موضعها خشبة عليها اسم الميت واسم ملك الروس . ولا نستطيع أن نسرف في رواية ماجاء عند ابن فضلان وما قص من مشاهداته في بلاد الروس ، فالرسالة بين الأيدي تفصل الدقائق وتوضح الحركات في شكل دقيق لانراه في مصدر عربي أو غربي غيرها . ويستطيع المصور أن يتخذ من التفصيلات مادة للوحة الحرق عند الروس في ذلك الزمان ، لدقتها الشديدة ووضوحها البين . وقد استقى فنان روسي اسمه ( هنري سمير ادسكي ( ) من هذه الرسالة لوحة للدفن ، تزين اليوم أزهى متاحف الروس في لننغراد رفعت اسم ابن فضلان إلى مراتب الخلود والشهرة ، وأكسبت رسالته سمعة عالمية . ونحن لا نريد بهذا أن نقول إن ابن فضلان وحده ذكر احراق الموتى عند الروس ، ولكننا نريد أن نشير إلى أنه وحده فصل الأمر ووصف الحرق وصف شاهد معاين . يحرقون موتاهم ، فقال ابن حوقل : : والروس قوم يحرقون أنفسهم إذا ماتوا ويحترق مع مياسيرهم الجواري منهم بطيب أنفسهن ، كما يفعل بغانة وكونة ونواحي بلاد الهند ، وقال المسعودي " : . فأما من في بلاده من الجاهلية فأجناس منهم صقالبة وروس وهم في أحد جانبي هذه المدينة ، ويحرقون موتاهم ودوابهم ، والآلة والحلية . وإذا مات الرجل أحرقت معه أمر أنه وهي في الحياة ، وان ماتت المرأة لم يحرق الرجل ، وإن مات منهم عزب زوج بعد وفاته . والنساء يرغبن في تحريق أنفسهن لدخولهن عند أنفسهن الجنة ، وهذا فعل من أفعال الهند . . وقال غيرهما مثل هذا ، ولكن هذه الأقوال ليس فيها كبير غناء من حيث الدقة والقصة والحكاية ، فهي أخبار منقولة تواترت ، وربما كانت في أكثرها مأخوذة عن ابن فضلان ، والفضل للمتقدم وهنا يجب أن نشيد بفضل الرسالة على الجغرافيين والمؤرخين من العرب فهم كلما تحدثوا عن هذه الأصقاع نقلوا عن ابن فضلان من غير أن يذكروا غالباً اسمه أو رسالته ، اللهم إلا ياقوت الحموي ، فقد نقل عنه حرفياً صفحات كثيرة من الرسالة - كما نبين بعد قليل - و نقده وخالفه في بعض المواضع ، وأخذ عليه أشياء ، وكذبه في أشياء ، ولكنه على كل حال أثبت اسمه في كل موضع نقل عنه من مواضع معجم البلدان . فالرسالة في ذلك مرجع من أهم المراجع عن البلاد التي زارها وخاصة بلاد البلغار وبلاد الروس . وذلك سبب عناية المستشرقين بها ،