الفصل الثاني : آداب الحوار في السيرة النبوية للحوار الناجح الراقي آداب لا بد منها ، وللمحاور البارع المؤثر آداب يحسن وإحسانه إليه، وحذره مما ينافي ذلك. وما يندرج تحتها تمثل آداب الحوار، ولقد كان النبي يأخذ بتلك الآداب في حواراته مع : كافة الطبقات. —————— المبحث الأول : إقباله على محاوريه —- وترك مقاطعته، والبعد، والتشاغل عنه. وهذه الآداب من جملة ما كان يأخذ به النبي في حواراته. وفيما يلي بيان لتلك الآداب بشيء من البسط. والتعالي على المحاور والاستخفاف به من أشد آفات الحوار وأسباب إخفاقه؛ وأزرى به، أشعره ولو من طرف خفي - أنه أعلى منه رتبة ، والتعالي على الآخرين دليل السفه، وآية نقص العقل، يرفع من شأن الآخرين، ولا يترفع أو يتعالى عليهم. وطب نفساً عن كثير مما يعرض لك فيه صواب القول والرأي؛ ۱) وازدرائه، أو إشارة أو تعريضاً؛ فإن فيه ثلاثة محاذير : ———————— والإثم على فاعل ذلك الثاني : دلالته على حمق صاحبه ، وسفاهة عقله، وجهله. الثالث : أنه باب من أبواب إثارة الشر، والضرر على نفسه . (۱) المتواضعين للحق وللخلق. وجميع حواراته شاهدة بالتواضع، وترك الترفع. والأمثلة على ذلك كثيرة جداً، ١ - ما جاء في صحيح البخاري عن أنس بن مالك قال : « إن كانت الأمة من إماء أهل المدينة لَتَأْخُذُ بيد رسول الله الله فتنطلق به حيث شاءت» (۲) فهذا الفعل من نبي الأمة وإمامها غاية في التواضع وخفض الجناح. (۳) ولك أن تتصور ما يدور في ذلك الحوار؛ إذ إن اهتمامات تلك الأمة لا يمكن أن ترتقي بحال إلى أن تتجاوز كلمة قيلت في حقها ، أو سؤالاً ربما أقلقها وهو لا يحتل كبير شأن. ومع ذلك يتواضع لها هذا النبي الأكرم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم. يقول ابن حجر الله في تعليقه على الحديث : وقد اشتمل على أنواع من المبالغة في التواضع ؛ لذكره المرأة دون الرجل، وحيث عمم بلفظ « الإماء» أي أمة كانت ، وبقوله : «حيث شاءت» أي من الأمكنة، والتعبير بالأخذ باليد إشارة إلى غاية التصرف، ولو كانت حاجتها خارج المدينة، والتمست في مساعدتها في تلك الحاجة المساعد على ذلك. وهذا دال على مزيد تواضعه ، وبراءته من جميع أنواع الكبر» . فقالت : يا رسول الله إن لي إليك حاجة ، فقال : « يا أم فلان انظري إلى أي السكك شئت، حتى أقضي لك حاجتك فخلا معها في بعض الطرق . (۲) ولسائل أن يقول : ماذا تريد تلك المرأة ؟. وما مدى اهتماماتها؟ وهل عند النبي له فراغ حتى يصرفه في محادثة تلك المرأة التي في عقلها شيء؟ هذه أسئلة قد تدور في ذهن من لا يدرك تلك النفس الواسعة، وذلك القلب الكبير الذي وسع الناس بحلمه وكرمه ، فكان لصغار الأمور وكبارها. وفي ذلك درس لمن يأنف من محادثة تلك الطائفة من الناس من ذوي المدارك الصغيرة؛ ويُحرَمُ الرحمة والنصر اللذين يستجلبان بسبب أولئك الضعفاء. ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي رفاعة قال : انتهيت إلى النبي وهو يخطب قال : فقلت: يا رسول الله رجل غريب جاء يسأل عن دينه، لا يدري ما دينه. —————- قال : فأقبل علي رسول الله الله وترك خطبته حتى انتهى إلي، فأتي بكرسي فأتم آخرها » . (۱) وذاك التواضع ؛ حيث ترك خطبته، فأي تواضع أعظم من ذلك ؟! قال النووي الله معلقاً على ذلك : «فيه استحباب تلطف السائل في عبارته ، وخفض جناحه لهم» (۲) فهذا حاله عليه الصلاة والسلام في حواراته؛ فأجدر بأتباعه أن يجعلوا هذا الأدب مَعْلَماً لهم في حياتهم، ليفتحوا بذلك قلوب محاوريهم، وليصلوا إلى مقصودهم في هداية الناس وإرشادهم؛ فإن الكبر من أعظم ما يصد عن الحق؛ فالطرف الآخر إذا رأى من محاوره ازدراء أو تعالياً بالقول أو الفعل - نفر منه ، وكره ما عنده من الحق؛ وكراهية المتكبرين. (۳) وسيأتي مزيد بيان لذلك في مباحث آتية. وحسن الاستماع سواء كان ذلك من المتقدمين أو المتأخرين، ولا تكاد تجد من يتحدث عن آفات الحوار، أو المحادثة إلا وتجد دم من لا يصغي المحاوره أو محدثه، إما بمقاطعته ، أو منازعته الحديث، أو بالتشاغل عنه، أو متابعة متحدث آخر، أو إجالة النظر يمنة ويسرة إلى غير ذلك مما ينافي أدب الحديث والحوار. ولهذا تتابعت الوصايا في الحث على أن يحسن الإنسان الأدب مع محاوره، فإن وأنسه بحديثه . (۱) بل إن المتحدث البارع هو المستمع البارع، وطرف العين، وحضور القلب، وإشراقة الوجه. (۲) (۳) وقال عمرو بن العاص الله : « ثلاثة لا أملهم : جليسي ما فهم عني ، وثوبي ما سترني ،