الكتاب:دستور الأخلاق في القرآنالمؤلف: الدكتور محمد عبد الله درازتعريب وتحقيق وتعليق: الدكتور عبد الصبور شاهينمراجعة: الدكتور السيد محمد بدويالطبعة الأولى: مؤسسة الرسالة – بيروت ، ودار البحوث العلمية – الكويت 1973م.دستور الأخلاق في القرآن كتاب فريد استكشف فيه الشيخ العلامة محمد رداز أرضا علمية لم يكد يطأها أحد قبله, واجتهد فيه للكشف عن الشريعة الأخلاقية في القرآن الكريم, مبينا سموها على غيرها من النظريات الأخلاقية الفلسفية.وسأقوم بعون الله بتقديم موجز للكتاب.• والكتاب رسالة دكتوراه قدمها الشيخ بالفرنسية بعنوان La Morale du coran: سنة 1947 في جامعة السوربون بإشراف المستشرق المعروف لويس ماسينيون (M. Louis Massignon).• قام بتعريبها الدكتور عبد الصبور شاهين ونشرت بهذا العنوان سنة 1973 (دار البحوث العلمية بالكويت ومؤسسة الرسالة ببيروت.• الدراسة محاولة لاستخلاص واستقراء الشريعة الأخلاقية من القرآن في مجموعه, ويمكننا القول إن الإنسان بصفته كائنا أخلاقيا هو موضوع هذا البحث.• الكتاب يتكون من الفصول التالية:إضافة إلى قسم تطبيقي (ص:686-778): "دستور الأخلاق العملية في القرآن" ذكر فيه المؤلف أمثلة عن النظام الأخلاقي القرآني.وقد سرد نصوص الأخلاق العملية مصنفة في آخر الكتاب ، وذلك في خمسة فصول هي : (الأخلاق الفردية، الأخلاق الاجتماعية، الأخلاق الدينية)• الغرض من الكتاب: نبه الشيخ في المقدمة إلى وجود فجوة عميقة في كتب منظري الأخلاق فهم يقفزون من تراث اليونان والفكر اليهودي النصراني إلى الفكر الأوربي الحديث. هذا التجاهل لدراسة الأخلاق القرآنية - في نظر الشيخ- يحرم الانسانية من حل المعضلة الأخلاقية.• ولما كانت المكتبة الإسلامية نفسها تفتقر إلى مصنف يجلي حقيقة الشريعة الأخلاقية في القرآن الكريم, فإن الشيخ دراز سعى ببحثه هذا لسد تلك الفجوة كما صرح بذلك: "ملء هذه الفجوة في المكتبات الأوربية، وحتى نري علماء الغرب الوجه الحقيقي للأخلاق القرآنية، ص:4).• سعى المؤلف لاستنباط الشريعة الأخلاقية من القرآن وللكشف عن أصولها الثابتة حتى تتميز كبنية مستقلة وهو في سعيه هذا, يلفت نظر القارئ إلى اشتمال القرآن على النظام الأخلاقي بشقيه النظري والعملي, وإلى منهجه الفريد في صياغة القواعد الأخلاقية, ومثال ذلك موقفه الوسط "بين الغموض و"التجريد" و"بين الافراط في الشكلية". ويجمع بين الطرفين في مرونة وصرامة في آن واحد, فيتحقق مقصد خضوع الفرد لشريعة الأخلاق القرآنية حرا مختارا, يبادر طائعا لمجاهدة نفسه وتزكيتها.• ومن أمثلة وقوف الاسلام هذا الموقف الوسط حديث أبي هريرة عند مسلم :" خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمْ الْحَجُّ فَحُجُّوا ، فَقَالَ رَجُلٌ : أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ ، ثُمَّ قَالَ : ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ ." فالشريعة الأخلاقية القرآنية لا تسعى للحجر على عقول وقلوب الناس, بل تفسح المجال للمجهود الشخصي الذي يعكس ميول واستعدادات كل فرد, فيجيء العمل الأخلاقي يحمل بصمة عامله دون أن يحيد عن المنهج القرآني العام.• القرآن يعرض منهجه الأخلاقي ويحث على التدبر والتفكر ويخاطب القلب و الوجدان ويستدل على صحته وصدقه بصوة تفحم الفلاسفة وترضي أبسط المدارك في آن واحد, وهذا ما ذكره الشيخ في كتاب النبإ العظيم, من جمع القرآن بين خطاب الخاصة والعامة.• الأساس الذي تنبني عليه الشريعة الأخلاقية في القرآن: الفطرة تتيح للنفس معرفة الخير والشر والتمييز بينهما معرفة غير مكتسبة, فهذه المعرفة مغروسة في النفس قبل تعلم الشريعة السماوية. فالخير خير في ذاته, يعرف الانسان ذلك بالفطرة وبالعقل و بالوحي, فالعقل والوحي نور يهتدي به الانسان لمعرفة الحق, ومعرفة الفضيلة ومعرفة الخير, وإن شئت قلت: إن العقل والوحي نور يسترشد به الانسان لكشف حقائق الأشياء والأعمال.• شريعة القرآن: شريعة شاملة ودائمة تجمع للانسان بين أمرين متباعدين:- الأول: تكفل له مطامحه الفطرية- الثاني: تكبح نزواته وأهواءه الجامحة.• استخلص المؤلف النصوص القرآنية التي تعرض لقضية الأخلاق, ولم يتقيد بترتيب السور, وسار على اصطلاح فلاسفة الأخلاق في دراسته للموضوع, دون أن يغفل عن التذكير بأن القرآن ليس كتابا نظريا, وبين الفروق بين منهج التعليم القرآني والتعليم الفلسفي.الفصل الأول: الإلزام فإذا انتفى انتفت المسئولية التي بدونها لا يمكن أن تتحقق العدالة.• الفضيلة تدفعنا للعمل, فهي محركة بطبيعتها, فالخير الأخلاقي له سلطة تحثنا على ترجمته واقعا عمليا. لهذا يشعر كل إنسان بضرورة الامتثال للواجب الأخلاقي مهما شق عليه, ويشعر باستهجان مخالفته.• سمى القرآن هذه الضرورة وهذا الإلزام أمرا (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) و كتابة وفريضة.• يرى الشيخ دراز أن القرآن جعل الأمر في قضية الأخلاق إلى الضمير الإنساني, فهو الذي يسد الفجوة بين سمو المثل الأخلاقي الأعلى, وبين تفاوت التطبيق العملي الأرضي، وهذا العامل الفردي في قضية الأخلاق العملية مما أشار إليه القرآن: " فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ"(التغابن:16), "وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا"(الأحزاب:5) فأخلاق العامة انعكاس لضغط المجتمع, فهي متأثرة, وأخلاق النخبة نابعة من حب الفضيلة والتطلع للمثل الأعلى, فهي مؤثرة دافعة للمجتمع. فإذا كان الإلزام شبه غريزي انتفت صفة الأخلاقية, لأن الحب نقيض الإلزام, فالإنسان عنده تتنازعه الغريزة والعاطفة بصورة تسلبه القدرة على المقارنة والتقدير والاختيار.• ولا يكفي وجود هذين العنصرين: بل ينبغي أن يؤلف بينهما نظام أخلاقي في ضمير الفرد, وبعد ذلك يوجبهما العقل.• ولهذا: حذر القرآن من عدوين لدودين للسلوك الأخلاقي: اتباع الهوى (ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) واتباع الآباء لمجرد التقليد: ( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا).• ويرى دراز: أن في الانسان كائن أخلاقي لاتصافه بالعقل, كما أن العقل والحرية والمشروعية عناصر لا بد منها لتحليل الحكم الأخلاقي وهي عناصر أغفلها برجسون فكان تحليله للمسألة الأخلاقية ناقصا.• القرآن يؤكد تلقي النفس الإنسانية في تكوينها الأول: لبصيرة أخلاقية: ( بل الانسان على نفسه بصيرة) وأن الاحساس بالخير والشر حاصل للنفس بالفطرة والالهام: ( ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها). ( ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين) البلد 8-10, نعم إن (النفس لأمارة بالسوء) يوسف 53 ولكن الانسان مزود بالقدرة على مدافعة الهوى ( وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى) النازعات 40.• تأنيب الضمير: دليل على هذه الثنائية: نفس لها نزوات وعقل يأمر وينهى, وشعور منا بأننا مخلوقات نبيلة أخطأت.• الإلزام يقتضي المسؤولية, والمسؤولية تقتضي الجزاء. وقدرة على الإلزام الذاتي, لا من خارجها.• والمسؤولية تتخذ أبعادا مخلتفة وتتسم بالشمول قال الله تعالى:"أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ"(الأنفال:27)، ومن السنة: (ألا كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته) متفق عليه, فهي مسؤولية دنيوية وأخروية, وهي مسؤولية أخلاقية في جوهرها.• والقرآن صريح في أن كل نفس بما كسبت رهينة, فالمسؤولية شخصية: " وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ"(النساء:111)• ولا يتعارض ذلك مع إخبار القرآن بحمل المجرمين أوزار أتباعهم: "وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ"(العنكبوت:13), فإنما يتحملون تبعة إغوائهم وتضليلهم لمتبوعيهم دون أن ينقص ذلك من أزوار الاتباع شيئا.وفي السياق نفسه يرد الشيخ على اعتراض ثان يتعلق بالشفاعة, فهي لا تعني وساطة لإسقاط المسؤولية عن المذنبين, فهذه هي الشفاعة التي نفهاها القرآن في مواضع كثيرة,• أولها: أنها لا تكون إلا بإذن الله, وثانيها أن الشافع لا يشفع إلا لمن ارتضى الله, وثالثها أن الشافع يستند إلى بعض محاسن المشفوع فيه, لا إلى جاهه ومنزلته, فالشفاعة بهذا المعنى نوع من الشهادة, ومما يدل على أن الشفاعة ليست نوعا من المحاباة كما يتوهم المتوهمون, قول النبي عن رجال عند الحوض:"أصحابي, أصحابي" فلما سمع قول الملائكة: "إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك" قال: "سحقا, سحقا".• ولا تتحقق المسؤولية إلا بشروط, أولها أن يكون المكلف على علم بأحكام الشرع, والقرآن صريح في أن الإنسان مجبول على معرفة الخير والشر على وجه العموم, قال تعالى: "ونفس وما سواها, فألهمها فجورها وتقواها" (الشمس: 7-8) لكن أهل السنة يذهبون إلى أن التكليف مقترن ببلوغ الرسالة, "وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا"(الإسراء:15) "رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا(النساء:165)• يرى الشيخ دراز أن: "النية شرط ضروري للأخلاقية، وهي على ذلك شرط للمسؤولية، ولكنها ليست بأي حال شرطاً كافياً لهذه أو تلك" (ص:180)، قال الله تعالى: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ وقال سبحانه: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ. وقد استنبط الشيخ من مجموع النصين أن العمل "الإرادي"، فالمكره لا يتحمل مسؤولية فعله الذي أجبر عليه, قال الله تعالى: " مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ"(النحل:106)، ويستطرد الشيخ مناقشا للمواقف الفلسفية المختلفة من قضية الحرية, بين أنصار الإرادة الإنسانية الحرة, ونفاتها, ويورد أربعة عناصر تلخص جواب القرآن عن هذا الإشكال:2- قدرة الإنسان على أن يحسن أو يفسد كيانه الجواني: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا،3- عجز جميع المثيرات عن أن تمارس إكراهًا واقعيًّا على قراراتنا. والقرآن يقرر هذه الحقيقة على لسان الشيطان: وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ إبراهيم: 224- الإدانة القاسية للأعمال الناشئة عن الهوى،