وصديقي العزيز يقيم في هذه الشقة الدافئة نسبيا وحيدا, ولا يجد أمامه غير الأطعمة المعلبة يتناولها على الفطور. وبالرغم من أنني ألح عليه كي يشارك عائلتي موائد الشهر الكريم غير أنه يرفض. صديقي وأعرفه عزّ المعرفة! "أين أضع هذه؟؟ في المخزن أم الثلاجة؟" سألته وأنا أمسك بعلبة الزيتون الأسود فتناولها مني وقال: "هات" وفتحها وسكب بعض محتوياتها في طبق وقال: "تفضل. شاركني العشاء الليلة" ابتسمت وقلت: "شكرا يا صديقي." وتناولت بعض حبات الزيتون على عجل ثم قلت: "إذن سأذهب الآن. هل تحتاج أي شيء؟؟" فأجاب: "ألف شكر" وتصافحنا وغادرت شقته. وليد يعمل موظفا في إحدى الشركات ويقيم في هذه الشقة منذ عدة أشهر بعد أن هجر المنزل الكبير الذي كان يقيم فيه وحيدا, واتفق مع عائلته على عرضه للبيع. كانت تلك خطوة مهمة في حياته وأنا من أوحى له بها وشجعه عليها وسهل له العثور على هذه الشقة, إذ أن وليد كان ليصاب بالجنون لو استمر في العيش وحيدا هناك؛ تحيط به أطياف أفراد عائلته. كان وليد بحاجة إلى مبالغ مادية يسد بها القروض الكبيرة التي كان قد استدانها من مؤسسة البحري ليغطي بها مصاريف سفر شقيقه وإقامته في الخارج. باع سيارته الجديدة الفخمة, وسيارته القديمة التي علقت في شمال البلد, وكذلك سيارة وشقة أخيه, ومنزل عائلته في الشمال, بالاتفاق والتنسيق مع ذويه. واشترى هذه الشقة وسيارة متواضعة. وينتظر وصول عرض جيد لبيع المنزل ويحصل على نصيبه الشرعي منه فيتحسن وضعه المادي. عن السيدة أروى البحري؟؟ انفصل عنها بعد عودته من الخارج. مر وليد بفترة عصيبة للغاية عند عودته للوطن, تدهور وضعه المادي, واستدعائه من قبل السلطات مرات ومرات من أجل التحقيق في قضية اختفاء شقيقه سامر, وحاولنا أنا ووالدي دعمه بأقصى ما كان لدينا. وكنت كلما زرته في ذلك المنزل رأيت الوجوم يخيم على وجهه. وكلما حاولت مواساته وتشجيعه انهار وبثني همومه وانخرط يحكي لي ويصف. كيف حبس شقيقه في هذه الغرفة أو كيف لفه كالجثة في تلك السجادة. وكيف هاجمه رجال المباحث وأوسعوه ضربا وكيف امتدت أيديهم الخسيسة لتطال ابنة عمه. لا يزال يحتفظ بعكازها وهاتفها المحمول وأشياء كثيرة تخصها رفض التخلص منها. لم تهدأ الأمور وتتحسن بعض الشيء إلا مؤخرا. ووليد الآن يحاول جاهدا أن يُشفي ويعود للعيش الطبيعي. يحاول أن يملأ حياته ويسد الفراغ الكبير الذي خلفه فراق كل من خطيبته السابقة, يقضي أوقاته بين العمل نهارا والدراسة في المعهد ليلا, ونتبادل الزيارات أو نمر ببعض المعارف أو بالنادي الرياضي أو نتنزه عند الشاطئ في بعض أيام العطل. حتى يجتاز الفترة الحرجة من حياته ويبدأ من جديد. ولذا عندما اتصل بي سامر يوم أمس وسألني عن عنوان شقة وليد. أخبرني سامر بأنهم سيحضرون لقضاء شهر رمضان في الوطن. وليد كان يتحاشى الاتصال بأهله إلا قليلا لأن ذلك يقلب عليه المواجع حسبما يقول. لم أشأ أن أوتّره ولا أن أفسد المفاجأة فكتمت النبأ عنه. لكنني في خشية من أن تعيده هذه الزيارة أدراجه إلى الوراء. الحرب لم تضع أوزارها بعد لكن الحكومة تبدلت ووضع البلد بشكل عام يسير للأفضل وبعض الأسر المهاجرة عادت إلى الوطن مؤخرا. حالما وصلت إلى منزلي أخبرتني أم فادي بأن أحدهم قد اتصل قبل قليل يسأل عني وأنه ترك رقم هاتفه لأتصل به في أقرب وقت. فإذا بذلك الشخص هو لاعب كرة القدم الشهير. وبعض الخبز والزيتون والتمر! آه وماذا بعد؟؟ نعم. العصير! انتهيت من توزيع الأطباق على المائدة المربعة الشكل والصغيرة الحجم, المتربعة في آخر الصالة أمام المطبخ مباشرة, وجلست على أحد المقاعد الأربعة التي تحيط بجوانبها. هذا جيد الإفطار في غرة الشهر الكريم. كنت أشعر بجوع شديد. وأعددت وجبتي هذه على عجل بعد عودتي من المسجد. وما كدت أنطق بالبسملة حتى سمعت قرع الجرس. "ومن يكون هذا الآن!؟" استغربت. فأنا لا أتوقع زيارة من أحد وخصوصا في هذه اللحظة. كما وأن الأشخاص الذين يزورونني في شقتي معدودون. ولا أظن أحدهم يهتم لتناول فطور كهذا معي! قمت عن المائدة وذهبت إلى الباب وسألت: "من هناك؟؟" فجاء صوت رجولي يقول: "هل أنت وليد؟؟ افتح من فضلك" لم يكن الصوت غريبا. لكنه صوت لم أسمعه منذ زمن. من هذا؟؟ "من هناك؟؟" وجاءني الآن صوت نسائي حاد: "افتح يا أخي!" صوت. دانة! صوت دانة؟؟!! مستحيل!!! للوهلة الأولى وجمت. فأنا لا أريد لحالة الجنون تلك أن تعتريني مجددا. لا أريد أن أعود إلى التهيؤات والتخيلات . عاد الصوت النسائي يقول: "هل أنت وليد شاكر أم ماذا؟؟" نعم غنه صوت دانة! فتحت الباب بسرعة غير مصدق. تقف بالفعل أمام عيني!!! "وليد! أخي الحبيب!" قالت ذلك وارتمت في حضني بقوة وأطبقت عليّ بذراعيها. اندفعت خطوة إلى الوراء وأنا أحملق فيها غير مصدق أنها بالفعل شقيقتي. "يا شقيقي يا حبيبي كم اشتقت إليك! كل عام وأنت بخير عزيزي" تقول ذلك وهي لا تزال تطوقني بذراعيها بقوة وتمرغ وجهها في صدري. ابتعدت بعد ذلك لتنظر إلي. أنها شقيقتي دانة! "أوه! دانة!! أي مفاجأة!! لا أكاد أصدق." قلت ذلك وضممتها إلي وقبلت جبينها بحنان. عند ذلك سمعت صوتا يقول: "ألن تدعونا للدخول؟؟" فالتفت إلى صاحب الصوت فإذا به نوّار. ويحمل في يدي الاثنتين مجموعة من الأكياس. وعلى كتفه حقيبة قماشية كبيرة. تراجعت للوراء وأنا أقول: "يا للمفاجأة." فدخل نوّار ووضع الأكياس والحقيبة جانبا ثم أقبل نحوي فاقتربت منه كي أصافحه وأعانقه. كانت دانة تقف إلى جانبي فمددت ذراعي إلى كل منهما وحثثتهما على الدخول مرحبا. مفاجأة مذهلة" فسارا للأمام واستدرت للوراء لأغلق الباب. وإذا بي أرى شيئا مهولا. أنت لم تكد تصدق أنك شفيت من حالة الأوهام الفظيعة تلك. حتى كدت أعصرهما بجفوني. رغبة مني في محو الوهم الذي رأيته يقف أمام الباب قبل ثوان. تعالي!" فتحت عيني. وينظر إليّ!! أحسست بحركة من خلفي. ثم رأيت دانة تظهر أمامي. وسمعتها تقول: "مفاجأة! أليس كذلك؟؟!" ثم تمد يدها نحو الوهم. وتأخذ منه ذلك الشيء وتقربه مني. نظرت إلى ذلك الشيء. فإذا به ينظر إلي.!! أخذت عيني تدور بين الطفل. حتى أصابني الارتجاج في دماغي واستندت إلى الجدار المجاور خشية أن أقع. "هل أنت بخير؟؟" أقبل نوّار. واقتربت دانة مني وأمسكت بذراعي وسألت: "ماذا أصابك؟؟ هل أنت بخير؟؟" جذبت أنفاسا عميقة متتالية ثم قلت: "إنه. الصيام" ثم عدت انظر إلى الطفل. أنا أحس به وأبصر به جيدا. هل تسمعون؟؟ هل تفهمون ذلك؟؟ رغد. تمسك بي وتحثني على السير إلى الداخل. ثم تقول موجهة خطابها إلى رغد: "أغلقي الباب وتعالي يا رغد" فتنفذ الأخيرة ذلك. وتتبعنا إلى المقاعد. أنا أجلس على المقعد. ويجلس نوار إلى يساري واضعا الطفل في حضنه. "أأنت على ما يرام أخي؟؟" تسألني دانة, أنا بخير" يقول نوّار: "إذا لم تبدأ الفطور بعد؟ هذا جيد. أحضرنا معنا بعض الأطعمة كي نشاركك" التفت إليه فأراه يبتسم. وحقيقة هذا الرجل دائما مبتسم. أسمع صوتا يصدره الطفل الصغير. أين سامر؟؟؟ انتبهت للتو على عدم وجوده فالتفت نحو الباب أتأكد من كونه غير موجود. كان يتمنى أن يحضر معنا ولكن تعرف. خشينا عليه من السلطات" وأضاف نوار وهو يضحك: "إنه مشغول البال الآن!" انتفض جسمي. اصطدمت بعينيها بقوة. فارتدّت إلى الوراء وقد ظهر الفزع على وجهها. سمعت دانة تقول: "نوّار! اسكت" فيطلق نوّار الضحكات المرحة ثم يقول مداعبا: "لكنني لم أفش الخبر بعد!" تمد دانة يدها من أمامي. وتقرص رجل نوار بلطف, لكنني لمحت فيها كل شيء. يد دانة وهي تقرص رجل نوّار. وهي تنقبض وتضطرب. جاريت نوّار مفتعلا الضحك وقلت: "ليس بعد!. أنا انفصلت عن خطيبتي السابقة. بعد عودتي للوطن قبل عام وأكثر. ولم أطلع شقيقتي دانة على الخبر إلا لاحقا. خصوصا رغد وسامر. وأخبارهم عني. لم أكن أتصل بهم إلا قليلا للاطمئنان عليهم. أما رغد. فأصلا لم أكن لأجرؤ حتى على السؤال عنها. وربما كان منقذا لي من نسمة الذكريات التي كادت تلفحني. التفت إلى الطفل. ثم إلى دانة وسألت وأنا أكاد أغص بسؤالي: "هذا. ابنكِ؟؟" فابتسمت وقالت: "لا" فجن جنوني. وابتلعت الغصة مرغما وكدت أختنق بها. وجميلة جدا. ومددت أصابعي إليها ألمس خدها الناعم. لكن انتظروا! أنا لم أفهم. عدت أنظر إلى دانة وفي فمي عدة أسئلة. فإذا بها تحملق في ابنتها بنظرة عطوفة. ثم تقول: "أليست جميلة وليد؟؟ سميتها ندى." تناولت الطفلة وتأملتها برهة. فشعرت بسرور غريب يجتاح عواطفي. ضممتها إليّ وطبعت قبلة خفيفة على رأسها. آه. كيف لم تخبروني عن ولادتها؟؟" قلت معاتبا دانة فأجابت وهي ترفع حاجبا وتخفض الآخر: "الاتصال بك ليس مهمة سهلة!" وأنا أعرف ذلك وأتعمده. "لم لا نتم حديثنا على المائدة؟؟ إننا نتضور جوعا!" كان نوّار. وقد لا تتسع لنا. تناولت دانة طفلتها وجالت ببصرها في أرجاء الشقة وسألت: "أين يمكنني وضع الطفلة؟؟ شقتك تبدو صغيرة!" فقلت: "نعم. من هنا. تفضلي" وقدتها إلى غرفة النوم. فوضعت الطفلة على السرير وهمت بالمغادرة. هنا قلت بصوت منخفض: "انتظري" وألقيت نظرة نحو الباب أستوثق من أحد لم يتبعنا. عن سامر. شقيقة نوّار. قبل أسابيع" الخبر أربكني وأرسلني إلى قعر الحيرة والتيه. ثم خرجت الكلمة من بين شفتيّ من دون أن أشعر: "و. الاستقرار عند خالتها. سنقضي هنا أسبوعين ثم نذهب بها إلى الشمال." جمدني الذهول. وبقيت محملقا في عيني شقيقتي. رأيتها تسير مغادرة الغرفة. فتبعتها وذهني واقف في الغرفة موضعه, ثم دعتنا للجلوس. أنا لست بحاجة لأن أصف لكم. ربما لم آكل شيئا. من الذي يوجد معنا. ولا يتحدث؟؟ من الذي هنا. كأنه غير موجود. قامت الفتاتان ترفعان الأطباق. وفيما هما كذلك سمعنا صوت بكاء الطفلة. فتركت رغد ما بيدها وهي تقول: "أنا سأتفقدها" وذهبت إلى غرفة النوم, حيث كانت الطفلة موضوعة على السرير. وهي لم تنتبه إلي بادئ الأمر. جلست على السرير ورفعت الطفلة وهزتها قليلا. هذه المرة لم تتهرب أعيننا. عميقا. وبعد حصة النظرات الطويلة تلك. تقدمت باتجاهها وأنا ألهث مضطرب الكيان والجوارح. كذلك كان الاضطراب مجتاحا لرغد. اشتقت إليك. ووصلت على رغد. وأصابعها ترتجف أكثر. مفتشا عن رد. فإذا بي أرى حاجبيها ينعقدان ووجها يعبس وإذا بها تشيح به عني وتتنحى جانبا وتسير متجهة إلى الباب. استدرت إليها ومددت يدي في الهواء وناديتها بصوت هامس راج متلهف: "صغيرتي" فإذا بها تلتفت إليّ وتصوب أسهما نارية إلى عينيّ وللمفاجأة تقول: "إياك أن تناديني هكذا ثانية" واستدارت لتتابع طريقها في ذات اللحظة التي ظهرت فيها شقيقتي دانة مقبلة إلى الغرفة وفي يدها زجاجة حليب أطفال. نقلت دانة بصرها بيننا ثم تظاهرت بالمرح وقالت وهي تشير للطفلة: "هل نامت؟ إنه موعد الحليب!" في نفس الليلة أصرت دانة على أن نقوم بزيارة للمنزل الكبير والذي شعرت بحنين شديد إليه. لم أكن أرغب في دخول ذلك المنزل واسترجاع الذكريات التعيسة فيه غير أنني لم أجد بدا من تنفيذ رغبتها. مع الطفلة الصغيرة. ومن أول لحظة وطأت قدماي فيها أرض المنزل داهمتني آلام حادة في كامل جسدي. بقي نوّار مع ابنته في المجلس, نجوب أنحاء المنزل. لما اقتربنا من غرفة رغد السفلية توترت وتوقفت عن السير وتحاشت دخولها. علقت هناك. تابعنا أنا ودانة جولتنا تاركين إياها في غرفتها ربما تتفقد حاجياتها أو تسترجع ذكرياتها. هذه الغرفة كنت أدخلها كل يوم. أطمئن على طيف صغيرتي بجنون. بعد رحيلها. غرفة رغد. كانت رغد تقف بجانب السرير وعينها تحملقان في الورقة الملصقة على الجدار فوق السرير. قبل سنين طويلة. ما لم أكتشفه إلا بعد كل تلك السنين.؟؟ أحست رغد بحركتي فالتفتت نحوي فجأة. وإذا بالهلع يجتاحها ويحول وجهها إلى صحراء من الصفار. وأصابعها تضطرب وأنفاسها تتلاحق. لم أستطع التحمل وأنا أراها تهرب مني. وقفت عند فتحة الباب وسددت الطريق أمامها فوقفت أمامي في حيرة وانفعال ثم رفعت بصرها إلي وأخيرا نطقت: "تنحّ بعيدا لو سمحت" وكانت نظرتها أقسى من جملتها. همست متوسلا: "صغيرتي. لا أسمح لك. وابتعد عن طريقي فورا" تسمرت مذهولا في مكاني فإذا بها ترفع صوتها آمرة بعصبية: "ابتعد هيا" فما كان مني إلا أن تنحيت جانبا وسط الذهول. وتركتها ببساطة تختفي.أقنعت دانة زوجها بأن ننتقل للإقامة في المنزل الكبير عوضا عن الفندق, ولذلك ليتسنى لها تحضير الموائد الرمضانية المميزة وبحرية كما تقول. وطلبت من أخيها المكوث معنا أيضا. فوافق الأخير إكراما لها. طبعا أنا لم يعجبني الوضع ولكنني لم أملك إلا الانصياع للظرف المؤقت, وبعد انتقالنا للمنزل, إذا بدانة تقترح على زوجها أن يشتري حصة أخيها من المنزل ويسجلها باسمها. وتخبرنا بأنها تنوي التنازل عن الحصة لصالح وليد بعد ذلك. نوّار رجل ثري كما تعرفون, وهو يحب دانة وينفذ رغباتها. وبهذا تم توكيل المحامي أبي سيف للقيام بالإجراءات اللازمة بأسرع ما يمكن. أنا لا دخل لي بكل هذا إذ أنني لم أرث شيئا من هذا المنزل بطبيعة الحال, لكنني استلمت الحصة التي كان ابن عمي وليد قد تنازل لي عنها من إرث المنزل المحروق في الشمال, وسأستلم الإرث الذي تركه والدي الحقيقيان لي, وحان وقت استلامها. سأستغل جزءا من هذه الأموال في العودة إلى الدراسة من جديد. في أول ليلة لي في هذا المنزل اتصلت بصديقتي مرح أسامة والتي كنت قد انقطعت عن الاتصال بها منذ رحيلي عن الوطن. كانت تلك الليلة شديدة البرودة. وكانت دانة ترغب بالذهاب إلى أحد المتاجر لشراء بعض الحاجيات للمطبخ, لذا اصطحبنا شقيقها إلى منزل آل المنذر قبل أن يذهب معها إلى المتجر. ورغم برودة الجو لقينا آل المنذر في استقبالنا عن الباب ورحب أبو عارف وابنه الفنان عارف بابن عمي ترحيبا حميما عند لا يقل عن ترحيب مرح الملتهب بي داخل المنزل. فيما بعد وأنا ومرح نتبادل الأحاديث والأخبار سألتني: "ماذا عن الجامعة؟؟" فقد أرغمتني الظروف على الانقطاع عن دراستي وللمرة الثانية. وتأخر فرصتي في الحصول على شهادة جامعية, كما كنت أحلم. قلت: "سأعود إلى الجامعة في الشمال" فقال: "لا تقولي! أبليت بلاء حسنا هنا. عودي إلينا. ثم إن جامعتنا أرقى مستوى من تلك الشمالية" فقلت: "وأعلى تكلفة!" وابتسمت بقلة حيلة وقلت: "ولا طاقة لي بها حاليا!" قالت مرح: "آه صحيح تذكرت. لم يعد السيد وليد شاكر مديرا للمصنع والشركة" حقا؟؟ أنا لم أعرف ذلك! أصلا لم أكن أريد أن أعرف أي أخبار عنه. أنسحب فورا من المجلس. تابعت مرح: "والدي وعمي حزنا كثيرا لمغادرته. أروى؟؟!! فاجأني الخبر. صحيح أنني استغربت عيشه في تلك الشقة غير أنني لم أكن لآبه بأي شيء يتعلق به. فاجأني وأدهشني. قلت طالبة التأكيد: "أ. أعيدي ما قلت مرح؟؟" نظرت إلي مرح باستغراب. فكررتُ: "ماذا قلت الآن مرح؟؟ انفصاله عن ماذا؟؟" تقوس حاجبا مرح دهشة وقالت مستغربة: "عن السيدة أروى وعن الشركة!" رفعت يدي من الدهشة ووضعتها على فمي. وحملقت في مرح بعينين واسعتين. فقالت: "لا تقولي. أنك لم تكوني تعلمين!؟؟" سامحوني. أعرف أن هذه أمور يجب على المرء أن يبدي الأسف حيالها. في هذه اللحظة. أشعر برغبة مفاجئة في الضحك! لم أنتبه لنفسي إلا وأنا أطلق ضحكة ساخرة. الدخيلة. لأستحوذ عليه. دون تدخلي! يا للأيام.!! التفت بعد أن فرغت من الضحك إلى مرح وسألت ساخرة: "ولماذا انفصلا؟؟" فنظرت إلي مستغربة من ردة فعلي. وغيرت اتجاه الحديث بعيدا.************ ربما لم تستوثق من السيارة, فهي ليست السيارة السابقة التي اعتادت عليها. فتحت النافذة ونظرت إليها وقلت: "تفضلي" وربما لم تسمع صوتي لأنها لم تتحرك. فأطللت برأسي مستغربا وأومأت إليها أن تعالي. لكن رغد نظرت إلي نظرة غريبة ثم سألتني: "أين دانة؟" فقلت: "ذهبت مع زوجها وطفلتها في مشوار" وإذا بي أرى رغد تتراجع نحو بوابة منزل آل المنذر. وتهم بقرع الجرس! خرجت من السيارة مستغربا من تصرف رغد وأقبلت إليها وقلت: "ماذا ستفعلين؟؟" فقالت دون أن تنظر إلي: "سأتصل بدانة وأطلب منها الحضور مع نوّار لاصطحابي" عندها شعرت بطعنة قوية تخترق صدري. اقتربت من رغد وقلت متألما: "لماذا تفعلين ذلك؟؟" فالتفتت إلي وأجابت حانقة: "وهل تنتظر مني أن أركب السيارة معك أنت بمفردي؟" وكانت هذه الطعنة أشد من سابقتها. وهمت رغد بأن تقرع الجرس فتداركتها مسرعا: "أرجوك لا تفعلي. لا تحرجينا مع آل المنذر" ففهمت رغد حرج الموقف و سحبت يدها. قلت: "تعالي لنعود إلى المنزل الآن. أرجوك" فوقفت برهة مترددة. ومر تيار قوي من الهواء ارتعدت له فرائصنا. فقلت: "هيا فالريح تشتد" وما كان منها إلا أن سارت على مضض وركبت السيارة كارهة ومشيحة بوجهها للعالم الآخر. ووحشة المقابر. عندما وصلنا إلى البيت, قبل أكثر من عام. لكنها وفور دخولها المنزل أسرعت مهرولة إلى الطابق العلوي. لحقت بها وأنا أسير منكسر الخاطر. لكنه أخوك أنت وليس أنا" ". عودي فورا" هبطت للطابق السفلي. وانزويت على نفسي في غرفة المعيشة والتي عدت أستغلها كغرفة نوم لي. وجعلت أعض أصابعي حسرة على صغيرتي رغد. قدمت دانة مع طفلتها وزوجها بعد نحو ساعة. وسألتني عما حصل فأخبرتها بموقف رغد مني. وبأن ذلك جرح شعوري كثيرا. وبأنني سأعود إلى شقتي إن كان وجودي من حولها يزعجها لهذه الدرجة. إنها لا تزال تحبك. لكنها أيضا لا تزال تعتقد أنك. كنت تسخر من عواطفها تجاهك" رفعت بصري إلى شقيقتي وحملقت بها مندهشا. فأغدقت عليّ نظرات التفهم والحب والتعاطف, وكأنها كانت تقرأ كل ما يدور برأسي وترى ما يختبئ في صدري. وإذا بها تقول: "لسنين طويلة. لكنها لم تأبه بنا. وكانت تنتظرك. لو كنت اعترفت ذلك اليوم بحقيقة شعورك أنت أيضا. قبل رحيلك عنا. ربما كنا حللنا الموضوع بشكل أقل إيذاء. بل تحب شقيقه. واكتشف أيضا أن أخاه كان يحلم بالزواج منها" وتوقفت قليلا تتأمل ذهولي من كلامها. قلت في دهشتي من صراحتها, محاولا إنكار الحقيقة: "ما الذي. تهذين به!؟" لكن دانة أدارت وجهها يمينا ويسارا وقالت: "لا تحال يا وليد! لا جدوى من الإنكار. كأنها تكشف كل أفكاري. وسبب قتلك له. وكتمك الحقيقة وتحملك السجن. لذا. قرر الابتعاد عن رغد والارتباط بأخرى. ليثبت لك أنت بالذات. وأثناء تناولنا طبق التحلية, ونحن جلوس في غرفة المعيشة نشاهد التلفاز. وعدت به أمده نحو رغد. علّنا نبدأ صفحة جديدة. علّها تمنح قلبي لحظة اطمئنان واحدة. كانت مجموعة الصور التي رسمتها رغد لي ليلة أن وقعت من أعلى الدرج. تذكرونها؟ صور بقلم الرصاص كنت قد سلمتها إياها قبل سفرها الأخير إلى الشمال. واسترجعتها من غرفتها السفلية بعد عودتي من خارج الوطن. رغد تناولت الأوراق وراحت تقلبها وتتأملها. كنت مبتسما ومنتظرا تعليقا يجبر بخاطري بعد موقف البارحة. لكنني فوجئت برغد تمزق الأوراق وترمي بها نحوي وتقول: "أنا لا أذكر شيئا كهذا ولا يهمني أن أذكر. ولا تنادني باسمي المجرد ثانية. حدث كل هذا أمام مرأى دانة ونوّار. اللذين ظلا يحملقان بي مذهولين. لم أستطع الصبر بعد ذلك. غير أنني لم آبه ولحقت برغد. "انتظري" هتفتُ راجيا. أرجوك. لا أريد سماعك. ماذا أفعل حتى تصفحين عني.؟ أخبريني ماذا أفعل فأنا تعذبت ما يكفي. وتستعيدها وقت تشاء. البليد المتحجر الغشاش. لا أريد أن أرى وجهك ثانية. أنت رجل غريب وبغيض. اختف من حياتي يا بليد." وجرت بسرعة إلى داخل الغرفة وأغلقت الباب. يراقبان ما يحصل. ضربت على الباب بعنف وصرخت منفلتا قائلا: "لقد فعلت ذلك من أجل أخي. كيف أتركه يهلك أمام عيني؟؟ لماذا لا تسامحينني يا رغد؟ أنا لا أطلب منك أكثر من السماح الآن. لكنكم لا تشعرون بي. لا أحد يشعر بي أنا.وكان هذا أفضل ما فعل. وصار نوّار يحمل أطباق الفطور إلى شقته ويتناولها معه كل ليلة. مررنا بشقته. وذهبت دانة مع ابنتها ونوّار لتوديعه, ولازمت أنا السيارة -وهي سيارة استأجرها نوّار من المطار لدى وصولنا- وانتظرت عودتهما. ولا حتى هاتفي. ذلك الصباح الضبابي. تذكرون؟؟ بعد الليلة الوحشية تلك. بالحبيب الساخر. غاب نوّار ودانة نحو نصف ساعة وأنا أنتظر على الجمر المتقد. أقاوم سيل الذكريات لئلا يجتاحني. التقت نظراتي بنظراته, فأشحت بوجهي سريعا لأتفاداه وأتفادى الألم الذي يخلفه مجرد مرور طيفه على مرآي. ركب الاثنان السيارة وبدأت نسير على بركة الله مبتعدة عن شقة وليد. وللعجب. ويبتسم. ثم يرفع يده يلوح لي. أشحت بوجهي عنه ونظرت إلى الأمام. خلفي مباشرة. فملت برأسي للأمام لأبتعد عنهما. كل من حولي في شغل عني. أنظارهم وأفكارهم كانت تسير في اتجاه آخر. التفت إلى الخلف. وأمعنت إلى النافذة وعبرها إلى ما خلفها. كانت لا تزال تتمايل يمينا وشمالا. تتمايل لي! حضرتني فجأة تلك اللحظة المريرة. وسرنا مبتعدين. يلوح ويلوح. {لوحة الوداع}. وليد قلبي. ثم غطيتها بطبقة من الضباب الأسود. السرعة أخذت تتسارع. وأخيرا. أنا لم أعد أملك وليد. ولا صورة لوليد! "توقف" هتفت باندفاع أربك نوّار وجعله يترنح في السير قليلا ثم يخفف السرعة فيما تلتفت دانة إلي متسائلة: "ماذا هناك رغد؟" فقلت بلهفة: "عد إلى وليد. أرجوك الآن" تبادل نوّار ودانة النظرات ثم انعطف نوّار بالسيارة يمينا ودار حول المنطقة إلى أن وصلنا إلى مبنى شقة وليد من جديد. فقد اختفى هو ويده. وخشيت أنني كنت أصلا أتوهم وجوده. هبطت من السيارة ودانة تناديني بدهشة, ثم تترك طفلتها في حضن أبيها وتلحق بي. ركضت بسرعة حتى وصلت إلى شقة وليد وقرعت الجرس بشكل فوضوي. سمعت صوت وليد يسأل منزعجا وقلقا: "من هناك؟" فهتفت مندفعة: "وليد افتح لي" وسرعان ما رأيت الباب يُفتح ويطل منه وليد يملأ الفضول والدهشة زوايا وجهه وقسماته. "رغد!!!!" ولم أشعر بنفسي إلا وأنا أطير وأحط على صدره. فيفتح ذراعيه ويغلفني بقوة. لا أعرف... رفعت بصري إليه وذبت في عينيه. كنت أرسل الكلام عبر النظرات. وأستقبل إيماءاته بقلبي قبل عينيه. "لماذا فعلت هذا بي؟ لماذا وليد؟؟" قلتها مقرونة بنافورة من الدموع. فمد وليد يده ومسح دموعي. لا شيء. يا حبيبتي" ثم أمسك بوجهي بلطف براحتيه. تلفح وجهي. ويشتت نظراته بين عينيّ يمنة ويسرة. ويعضض على شفته تارة ويزدرد ريقه أخرى.********** ودّع العريسان فيه الأهل والأصدقاء. أقاما في نفس المنزل الكبير. واتخذا من غرفة وليد عشا لهما, بعد أن تم هدم الجدار الذي كان يفصل بينها وبين غرفة رغد. في ليلة عودتهما إلى المنزل. استخرج وليد من أحد الأدراج الصورة التي رسمتها رغد له عندما كانت طفلة, وكذلك استخرج من محفظته صورة رغد الممزقة التي احتفظ بها طول تلك السنين, فألصق أجزاءها بشريط لاصق, وألصقها مع صورته جنبا إلى جنب على الجدار فوق السرير وأخذ يتأملها ويبتسم مع رغد بسرور ويقول: "معا إلى الأبد" ثم أخذ العروسان الحبيبان يرتبان ملابسهما في الخزانات, تعالي. فإذا به. مصنوع من الورق. ومغطى بالطوابع اللاصقة! {صندوق الأماني!} "أوه! يا إلهي! ألا زلت تحتفظ به؟؟!" تقول رغد وهي تتناول الصندوق من بين يديه بمرح وتتأمله ببهجة, فيضحك وليد ويقول: "وسأخبئه حتى يضع أطفالنا أمانيهم فيه! وسنجعلها تتحقق!" تضحك رغد ثم تنظر إلى وليد من طرف عينيها نظرة تشكك مرحة وتقول: "هل فتحته؟ اعترف!" فيضحك وليد ويقول: "أنا؟؟ أبدا. لا بأس!. بل بكل سرور!" وفتحت الصندوق. وألقت نظرة على القصاصات. ثم أخذت تستخرج القصاصة بعد الأخرى. ووليد معها يقرأ المكتوب عليها. عندما وصلت إلى هذه القصاصة. نظرت إلى وليد ومشاعر شتى تملأ قلبها. {أتمنى أن أتزوج من ابنة عمي رغد} "وليد." هتفت بلهفة وعطف ومحبة. وقال: "أمنيتي الأولى. لو تعلمين." وأحاطها بذراعيه بكل الحب والحنان. ومسح على شعرها الأملس برفق. يفكر فيها. فقدت عقلي وأنا أحزر. حبيبي. كنت أشعر. بأنك شيء يخصني أنا." وليد يسكن برهة, ثم يطلق ضحكة خفيفة, ثم يضم رغد إلى صدره بحرارة ثم يقول: "أعرف. حبيبتي! قلت ذلك لي مسبقا." تبعد رغد رأسها عن صدره ثم تنظر إليه باستغراب وتقول: "أنا قلت ذلك؟" فيجيب: "نعم. طويل جدا. أليس كذلك؟؟" ************