حدد ماركس١ لنفسه هدفًا هو الكشف عن القوانين الموضوعية التي تحكم عمل النظام الرأسمالي. ولتحقيق هذا الهدف كان عليه مراجعة الفكر السابق عليه؛ أي الفكر الاقتصادي للطبيعيِّين، وفرنسوا كينيه بصفةٍ خاصة، والفكر الاقتصادي لآدم سميث ودافيد ريكاردو، وبالأخص ريكاردو الذي اعتنق ماركس أهم أفكاره وتصوراته في أبرز المواقع الفكرية وأكثرها خطورة في مذهبه في «رأس المال».وابتداءً من تحديده الاقتصاد السياسي الكلاسيكي بأنه العلم المنشغل بدراسة: الفصل الأول).وباستخدام أعلى درجات التجريد: مقدمة الطبعة الألمانية الأولى، ١٨٦٧م).انشغل ماركس بظاهرة القيمة التي تدور في فلكها علاقات نمط الإنتاج الرأسمالي؛ الأمر الذي جعله يبدأ من تحليل السلعة؛ لأنها التي تتجسد فيها القيمة: بينما تتبدى كل سلعة كشكلٍ أوَّلي لهذه الثروة؛ لذلك يتعين البدء بتحليل السلعة» («رأس المال»، الفصل الأول).وفي أثناء تحليله يسير على نفس خُطى سميث وريكاردو؛ حيث يفرق بين قيمة الاستعمال وقيمة المبادلة، أي كنسبة يجري بموجبها تبادل قيمٍ استعمالية من نوعِ ما بقيمٍ استعمالية من نوعٍ آخر. ويستخدم ماركس، كما أسلافه، القيمة النسبية بنفس معنى القيمة التبادلية. و«ع» من الفضة، ولكن بما أن «ك» من الأرز، و«ع» من الفضة وما إليها، كما يقول ماركس، أن تكون قيمًا تبادُلية قادرة على أن تحل محل بعضها البعض؛ أيْ أَنْ تكون متساويةً فيما بينها؛ ومن هنا فإن القيم التبادلية المختلفة للسلعة تُعبِّر عن شيءٍ واحد؛ فمهما تكن العلاقة التبادلية بين الحرير والفضة، يمكن دائمًا التعبير عن هذه العلاقة بمعادلة تتعادل فيها «ص» من الحرير مع «ع» من الفضة. الحرير والفضة، لا هو الأول ولا هو الثاني؛ وبالتالي لا بد وأن يكون كل منهما، باعتباره قيمة تبادلية، الذي لا يكون متمثلًا في خصائص هندسية أو فيزيائية أو أي خصائصَ طبيعية أخرى للسلع؛ إذ إن خصائص السلع الجسدية، كما يقول ماركس، لا تُؤخذ في الاعتبار إلا بقدر ما تتوقف عليها منفعة السلع، بقدر ما تجعل من السلع قيمًا استعمالية. إن الأمر الثالث المشترك بين «قيمة السلعتَين التبادلية» هو العمل؛ فكلاهما نتاج قوة العمل. متسائلًا: ما هي قيمة قوة العمل؟ ومن أجل الإجابة يسير التحليل على النحو التالي: إن قيمة كل سلعة تُقاس بكمية العمل الضروري، اجتماعيًّا، وقوة العمل تُوجد في شكل العامل الحي الذي يحتاج إلى كميةٍ محددة من وسائل المعيشة لنفسه ولعائلته، مما يضمن استمرار قوة العمل حتى بعد موته. ومن هنا، فإن وقت العمل اللازم لإنتاج وسائل المعيشة هذه يمثل قيمة قوة العمل:«إنني أقصد بقوة العمل أو القدرة على العمل، مجموع القدرات الجسدية والمعنوية التي تمتلكها أعضاء الإنسان؛ أي شخصيته الحية التي يستخدمها في كل مرة ينتج فيها قيمًا استعمالية. إن قيمة قوة العمل تتحدد مثل أي سلعةٍ أخرى بوقت العمل الضروري لإنتاجها وبالتالي لتجديد إنتاجها. الكتاب الأول،وعلى ذلك، يدفع الرأسمالي للعامل أجره، أسبوعيًّا مثلًا، شاريًا بذلك استخدام قوة عمله لهذا الأسبوع (الواقع أن الرأسمالي يدفع الأجر بعد استهلاك قوة العمل!) وبعد ذلك يجعل الرأسمالي عامله يبدأ في العمل. وافترضنا كذلك أن أجره الأسبوعي يمثل ثلاثة أيام عمل؛ فإنه، في يوم الإثنين، فلقد اشترى الرأسمالي قوة عمل٥ العامل لمدة أسبوع، ولم يشترِ عمله، كما كان يظن سميث وريكاردو.وحينما ينتقل ماركس لمقياس القيمة، عدم دقة أسلافه! ولكي يخرج من متاهة «المقياس/المقدار» الذي أدخل سميث فيها الاقتصاد السياسي، يطرح، كما سميث وريكاردو،ولكن، بوقت العمل. بينما يجد وقت العمل، بدوره، وإنما ابتداءً من اعتبارها «مقياس مقدار!» القيمة، ثم يُضطر، نتيجة عدم وضوح المقياس، وكمية العمل تُقاس بوقت العمل؛ بالزمن، خالطًا كذلك بين المقياس (كمية العمل) ووحدة القياس (اليوم، الدقيقة، … إلخ)! بل غير صحيح علميًّا؛ وليست آلة، وليست أداة. وينبغي حينئذٍ أن نستعمل آلة/أداة القياس المناسبة لقياس الزمن، وآلة قياس الزمن ليست كمية العمل، كما يقول الاقتصاد السياسي، إنما هي الساعة (التي هي آلة يُعرَف بها الوقت) والتي يعلقها الرأسمالي على الحائط في مكتبه! أما وحدة القياس فهي الدقيقة (التي هي جزءٌ من ستين جزءًا).إن الاقتصاد السياسي ابتداءً من عدم استخدامه للمقياس الصحيح، وابتعاده عن وحدة القياس المناسبة، كما أوضحنا في الباب الأول، يصل إلى ذروة ارتباكه حينما يقيس المقياس نفسه! ثم يخلط بين هذا المقياس ووحدة القياس!وبعدما أتم تحليله مفهوم القيمة وما يتعلق به، قام ماركس بمراجعة تصوُّر الكلاسيك لأقسام الرأسمال، أو من جهة التركيب العضوي، ولأن الكلاسيك نظروا إلى جهتَي التداول والتركيب العضوي، فقد كان سميث وريكاردو، والكلاسيك بوجه عام، يرون، وكما ذكرنا، أن الرأسمال اللازم من أجل عمليةٍ إنتاجيةٍ ما، ينقسم إلى قسمَين: القسم الأول: الرأسمال الأساسي ويحتوي على المباني والآلات … إلخ، وكل ما لا يستهلك في عمليةٍ إنتاجية واحدة. والقسم الثاني: الرأسمال الدائر وهو الذي يُستخدم في عمليةٍ إنتاجية واحدة مثل المواد الأولية والمواد الوسيطة وقوة العمل، ولكن هذا التقسيم لم يكن ليتناغم مع نظرية ماركس في القيمة؛ الأمر الذي جعله يعيد النظر في التقسيم إنما ابتداءً من القيمة ذاتها؛ متسائلًا: ما هي الأجزاء من الرأسمال التي تغير من قيمتها أثناء عملية الإنتاج؛ أي التي يمكنها أن تخلق قيمةً أكبر من قيمتها؟ وما هي الأجزاء التي لا تغير من قيمتها؛ أي التي لا تنقل إلى المنتوج قيمةً أكبر أو أقل من قيمتها؟ وحينئذٍ رأى ماركس أن تقسيم الكلاسيك يحتاج إلى تعديل؛ فالرأسمالي من أجل إنتاج السلعة يستخدم قسمَين من الرأسمال (منظورًا إليه من جهة ازدياد القيمة):القسم «الأول»: الرأسمال ذو القيمة الثابتة «ث»، ويتكون ذلك القسم من: جزءٍ أساسي مثل المباني والآلات، وجزءٍ دائر مثل المواد الوسيطة والمواد الأولية. والجوهري عند ماركس هو كيف تنتقل قيمةٌ معينة منفَقة في عملية الإنتاج، سواء كانت أجورًا أم ثمن موادَّ أولية أو ثمن وسائلِ إنتاج، كمواد العمل، بالدوران مرارًا وتكرارًا؛ فمواد العمل، يلزم تجديدها بقدرِ ما يتم استهلاك القديم منها في تكوين المنتوج. فهي حاضرة دائمًا في عملية الإنتاج ولكن عن طريق التجديد المستمر لفعل شرائها؛ ومن ثَمَّ فإن ما يُنفَق على الرأسمال الدائر (الذي ينقل كامل قيمته إلى المنتوج دفعةً واحدة) يُنفَق دفعةً واحدة ويعود أيضًا إلى الرأسمالي دفعةً واحدة.أما القسم «الثاني»: فهو: الرأسمال ذو القيمة المتغيرة «م»، ويتكون من قوة العمل، وهو الذي يُغيِّر قيمته أثناء عملية الإنتاج. وهذا القسم يحقق أربعة أمور: (أولًا) ينقل قيمته إلى المنتوج. (ثانيًا) يزيد من قيمة المنتوج. (ثالثًا) يسمح بنقل قيمة الرأسمال الثابت إلى المنتوج. ولذلك سُمي هذا القسم من الرأسمال بالرأسمال المتغير؛ وفقًا لمعدَّل الربح الوسطي، وريع، وضرائب … إلخ: ما لم يُضطر إلى التنازل عن جزءٍ منها لشركاءَ آخرين مثل الريع العقاري للمالك العقاري. والريع العقاري، والضرائب» («رأس المال»،وما ينشغل ماركس بالتأكيد عليه هو نفيُ حصول العامل على نصيبٍ في القيمة التي خلقها؛ فالعامل بعد أن ينتج معادل قيمة قوة عمله ينتج قيمةً زائدة يستحوذ عليها الرأسمالي. وهذا التصور يغاير، كما رأينا، تصوُّر الكلاسيك الذين رأوا أن القيمة التي يضيفها العمال إنما تنحل إلى أجور وأرباح. ولم يكن لماركس الوصول إلى هذه النظرية في التوزيع إلا باستبعاد فكرة «الاكتناز» التي انطلق منها أسلافه؛ فلو افترضنا أن الرأسمالي بدأ عملية الإنتاج ﺑ ١٠ وحدات، فالكلاسيك، سوف يُوزِّعون القيمة الزائدة، والتي قدرها ٣٠ وحدة، إلى أجور وريع وربح. ولخُلُو التوزيع لديه من فكرة الرأسمال المسلَّف بالمعنى الذي يقصده الاقتصاد السياسي الكلاسيكي، على النحو التالي: ٤ لقوة العمل (كأجور)، أي اﻟ ٣٠ وحدة، فسوف يستحوذ عليه الرأسمالي ويحصل منه على الربح، ويدفع منه الفائدة والريع.والرأسمالي، الذي حصل على القيمة الزائدة، يدفع الفائدة من هذه القيمة الزائدة وفقًا لمشاركة الرأسمال المقترض بنصيب في دورة الرأسمال الكلي؛ فإن كتلة الرأسمال النقدي المقترض تندمج في كتلة الرأسمال الصناعي؛ كي يُكوِّنا معًا كتلة الرأسمال الكلي الناشط في فرع الإنتاج، وحين توزيع الربح يحصل الرأسمال الناشط، على نصيبه من الكتلة الكلية للربح حسب حجمه من الكتلة الكلية للرأسمال على الصعيد الاجتماعي، فلنفترض أن رأسمالًا يتكون من ١٠٠ وحدة، منها ٥٠ مقترضة، ولنفترض أيضًا أن معدَّل الربح ٢٠٪، ومعدَّل الفائدة ٦٪، فحينئذٍ سوف يحصل مالك الرأسمال النقدي على ٣ وحدات، والرأسمالي الصناعي على ١٧ وحدة، وذلك من القيمة الزائدة التي تحققت من خلال دورة الرأسمال الكلي على الصعيد الاجتماعي.ويعالج ماركس الريع ابتداءً من افتراضه أن الزراعة شأنها شأن الصناعة خاضعة لنمط الإنتاج الرأسمالي؛ فالمزارع ينتج القمح مثلما ينتج الرأسمال والعمل المأجور النسيج أو الآلات. والريع الذي يدفعه الرأسمالي/المزارع إلى مالك الأرض التي يستغلها يتماثل مع الفائدة التي تُدفع إلى مالك الرأسمال النقدي؛ وبالتالي سوف يطالب مالك الأرض بنصيب قيمة أرضه في دورة الرأسمال الكلي. وبذلك سيرتفع ثمن قطعة الأرض نفسها من ٤٠٠٠ جنيه إلى ٥٠٠٠ جنيه.١٢الفرضية الأولى: أن الكميات الموظَّفة من الرأسمال متغيرة، وجود أربع قطع من الأرض: «أ»، و«ب»، و«د»، في سبيل إنتاج ٢٥٠ إردبًا من القمح، على حسب خصوبة التربة في كل أرض، فالأرض «أ» توظف «٢م + ٣ث» والأرض «ب» توظف «٤م + ٦ث» والأرض «ﺟ» توظف «٦م + ٩ث» والأرض «د»، وهي الأقل خصوبة، توظف «٨م + ١٢ث». ولو افترضنا كذلك أن معدَّل القيمة الزائدة ١٠٠٪، فسيُباع القمح بقيمة قدرها ٢٨ وحدة «٨م + ١٢ث + ٨ق ز»، وهي القيمة الاجتماعية للقمح الذي تنتجه الأرض الحدِّية «د». ناقلين عبء الريع (الذي يتدفق إلى جيب المالك العقاري) إلى المستهلك، وليكن عند ١٠ وحدات، في الأرض «أ»، و«ب»، و«ﺟ» مع تغيُّر غلة الأرض؛ وتنتج الأرض «ب» ٢٠٠ إردب، أما الأرض «ﺟ» فتنتج ١٠٠ إردب فقط؛ لا ريع، فرقي قدره ٢٠٠ إردب، فرقي قدره ١٠٠ إردب، مثل باقي الرأسماليِّين، بالقيمة الزائدة التي ينتجها العمال الأجراء. هذا الربح الفرقي، أو للرأسمالي إذا كان هو صاحب الأرض المستثمر فيها؛ فسبب حصول الرأسمالي على الربح الفرقي هو أنه استخدم وسيلة إنتاج، هي الأرض الأخصب، أكثر إنتاجية. وينتظم الريع هنا أيضًا بالقيمة الاجتماعية للمنتوج في الأرض الأقل إنتاجية. ولفهم جهازه الفكري، فهمًا ناقدًا، الانتباه جيدًا لأربع مجموعات من المصطلحات الفنية التي يستخدمها أثناء تحليله هيكل وأداء نمط الإنتاج الرأسمالي:فهو يميز، أولًا: بين إنتاج القيمة الزائدة المطلقة وإنتاج القيمة الزائدة النسبية. ويرى أن إنتاج القيمة الزائدة المطلقة يكمُن في إطالة يوم العمل إلى ما بعد الحدود التي يستطيع العامل ضمنها أن ينتج معادل قيمة قوة عمله وحسب، ويقوم الرأسمالي بالاستيلاء على هذا العمل الزائد. ويؤلِّف إنتاج القيمة الزائدة المطلقة القاعدة العامة التي يرتكز عليها النظام الرأسمالي. أما إنتاج القيمة الزائدة النسبية فهو يفترض أن يوم العمل مقسَّم إلى قسمَين، وبُغيَةَ إطالة العمل الزائد يُقلَّص العمل الضروري بأساليب تتيح إنتاج معادل قيمة قوة العمل في أقصر وقت. وإذا ما كان إنتاج القيمة الزائدة المطلقة يتوقف على طول يوم العمل، فإن إنتاج القيمة الزائدة النسبية يعتمد على التطور التقني.ويقارن ماركس، ثانيًا: بين عملية تكوين القيمة وعملية ازدياد القيمة؛ فعملية ازدياد القيمة ما هي سوى عملية تكوين القيمة التي تستمر لأَبعدَ من نقطةٍ محددة، فهذه عمليةٌ بسيطة لتكوين القيمة. أما إذا استمرت عملية تكوين القيمة إلى أَبعدَ من هذه النقطة؛ فإنها تصبح عملية لازدياد القيمة فحسب.كما يفرق، ثالثًا: بين العائد الكلي والإيراد الكلي والإيراد الصافي؛ فالعائد الكلي يساوي العناصر المادية التي تؤلف الرأسمال الثابت والرأسمال المتغير، أما الإيراد الصافي فهو القيمة الزائدة؛ أي المنتوج الفائض المتبقي بعد اقتطاع الأجور.١٣ رابعًا: بين يوم العمل وفترة العمل؛ فيوم العمل هو المدة الزمنية التي يتعين على العامل خلالها أن ينفق قوة عمله يوميًّا. أما فترة العمل فهي تعني عددًا معينًا من أيام العمل المتصلة اللازمة لإخراج المنتوج الناجز في فرعِ إنتاجٍ محدد. وهذه التفرقة؛ أي التفرقة بين يوم العمل وفترة العمل، ترتبط بالتفرقة بين زمن العمل وزمن الإنتاج؛ فزمن العمل هو الوقت الذي يُستخدم فيه فعليًّا الرأسمال على نحوٍ منتج، وهو ما يعني إمكانية، وربما وجوب، بقاء الرأسمال مقيدًا في مجال عملية الإنتاج دون استخدامٍ فعلي؛ أي يظل هاجعًا دون عمل:«وثَمَّةَ مثالٌ طريف (التشديد من عندي م.ع.ز) على التباعد بين زمن الإنتاج وزمن العمل تُقدِّمه لنا الصناعة الأمريكية لقوالب الأحذية. ولا يتعرض الخشب خلال هذا الوقت إلى أي عملية عمل، الكتاب الثاني، الفصل الثالث عشر). يمثل في ذاته أزمة، تستدعي مباشرة نفس أزمة الزمن عند ريكاردو؛ الهاجع دون عمل، من نصيب في ربحٍ إضافي؟أليس من حق صاحب القوالب المطالبة بربح عن تعطل رأسماله دون أن يعود إليه كما عاد إلى صاحب القمح؛ أي ألا يُكافأ صاحب القوالب عن طول فترة الدوران؟فإذا كانت الإجابة: نعم له الحق في ربحٍ إضافي، فالسؤال: ألا تُعد تلك المكافأة الإضافية، في الوقت نفسه، كمحدد وكمقياس وكمنظم للقيمة! وعائد الرأسمال هذا ليس هو الرأسمال كعملٍ مختزن؛ لأن ما يرغب صاحب القوالب في إضافته ليس قيمة الرأسمال الهاجع كعملٍ مختزن، والذي شارك فعلًا في عملية الإنتاج، إنما هو ربحٌ يرى الرأسمالي إضافته دون سبب إلا كونه مقابل تعطُّل رأسماله فترة انتظار نضج سلعته! ولذلك، كان هذا المثل الطريف سببًا في أزمة من أكبر أزمات الاقتصاد السياسي الكلاسيكي؛ فهو الذي أدى بريكاردو، إلى أن يعلن أن تحليله للقيمة يحتاج إلى إدخال دور الزمن النسبي الذي تستغرقه السلعة قبل طرحها في السوق، وهو أيضًا الذي قاد جيمس مِلْ١٤ ورامساي،١٥ وغيرهما من كبار مفكري الكلاسيك، إلى إعلان إيمانهم بأن نفقة الإنتاج هي منظم القيمة.فصديقنا صاحب القوالب الخشبية (ولنفترض أنه تكلَّف ١٢٠ ساعة عمل، نفس اﻟ ١٢٠ ساعة عمل، ولكن ظلَّت سلعته في القبو لمدة ١٢٠ يومًا فقط قبل أن ينتقل بها إلى السوق) وصديقنا الآخر صاحب الفخار (الذي تكلَّف كذلك ١٢٠ ساعة عمل، فكيف يمكن التبادل هنا وفقًا لقانون القيمة؟ المشكلة إذن أمام الكلاسيك، بل أمام الاقتصاد السياسي بأسره، ولكي نتعرف إلى الطريقة التي ظن ماركس أن بها حل المشكلة، يتعين أن نتعرف، أولًا، إلى منهجه في تحليل الأداء اليومي للمشروع الرأسمالي.فعلى مستوى الأداء اليومي للمشروع الرأسمالي، ينتهي ماركس، إنما ابتداءً من نظريته في القيمة والقيمة الزائدة المستندة مركزيًّا إلى أفكار سميث وريكاردو، وهو لن يُقدِم على الاستثمار في فرعٍ إنتاجي معين، إلا إذا كان هذا الفرع الإنتاجي يحقق معدَّلاتِ ربحٍ متساوية مع باقي فروع الإنتاج، فكيف يحدد ماركس معدَّلات الأرباح التي تحكم قرارات الرأسمالي؟ يتعين علينا قبل الإجابة عن هذا السؤال أن نوضح أن تحليل ماركس، بصدد التوازن بين القطاعات، هو تحليل: أولًا: ساكن. ثانيًا: مجرد من تأثير عنصر الزمن. ثالثًا: يفترض ثبات كلٍّ من: «أ» قيمة وكمية النقود. «ب» الكمية المطلوبة من السلع. «ﺟ» كمية/كتلة الربح الممكن توزيعه على الرأسماليين؛ فلو افترضنا أن:وأن عدد المشروعات = ٥ مشروعات؛ رأسمال كل مشروع = ١٠٠ وحدة؛وأن «كمية/كتلة» النقود التي تُوزَّع كأرباح = ١١٠ وحدة.فإن نصيب كل مشروع من الربح سيكون ٢٢ وحدة، ومعنى ذلك أن أي مشروعٍ جديد يدخل السوق سوف يشارك المشروعات الخمسة القائمة في كمية الربح المحددة سلفًا، وهي ١١٠ وحدة، فمهما زادت الكمية المعروضة بدخول مشروعاتٍ جديدة، فلن يزيد المجتمع استهلاكه من هذه السلعة؛ ومن ثَم سوف تتنافس المشروعات اﻟ ١٠ على تلبية كميةٍ محددة سلفًا من السلع من جهة، وعلى اقتسام كمية الأرباح المحددة أيضًا سلفًا، وعليه، سينشغل ماركس بتحديد معدَّلات الأرباح الوسطية ابتداءً من أربع فرضيات كالآتي؛ وهذه الفرضية من أهم فرضيات ماركس ولا يمكن فهم الجهاز الفكري لماركس بمعزل عن هذه الفرضية المركزية. ثالثًا: أن المجتمع مغلق؛ أي لا يدخل في علاقات تبادل مع بقية أجزاء الاقتصاد الرأسمالي العالمي. رابعًا: سيادة المنافسة الكاملة في مجتمع يسعى فيه الرأسماليون إلى تحقيق أقصى ربحٍ ممكن بأقل نفقةٍ ممكنة؛ وعليه، يتحدد معدَّل الربح الوسطي في قطاع إنتاجٍ معين يضم خمسة مصانع تستخدم تراكيبَ مختلفة من الرأسمال الثابت والمتغير وفقًا للجدول التالي:١٦جدول ٣-٢الرأسمال الثابت الجزء المستهلك من الرأسمال الثابت الرأسمال المتغير القيمة الزائدة قيمة السلعة ثمن التكلفة معدَّل الربح الوسطي ثمن الإنتاج انحراف الثمن عن القيمة٨٠ ٥٠ ٢٠ ٢٠ ٩٠ ٧٠ ٢٢ ٩٢ + ٢٧٠ ٥١ ٣٠ ٣٠ ١١١ ٨١ ٢٢ ١٠٣ − ٨٦٠ ٥١ ٤٠ ٤٠ ١٣١ ٩١ ٢٢ ١١٣ − ١٨٨٥ ٤٠ ١٥ ١٥ ٧٠ ٥٥ ٢٢ ٧٧ + ٧٩٥ ١٠ ٥ ٥ ٢٠ ١٥ ٢٢ ٣٧ + ١٧ويتضح من الجدول ٣-٢ أن:مجموع القيمة الزائدة = ٢٠ + ٣٠ + ٤٠ + ١٥ + ٥ = ١١٠ وحدة.مجموع الرساميل = ١٠٠ + ١٠٠ + ١٠٠ + ١٠٠ + ١٠٠ = ٥٠٠ وحدة.معدَّل الربح = القيمة الزائدة ÷ الرأسمال الكلي.معدَّل القيمة الزائدة = القيمة الزائدة ÷ الرأسمال المتغير.معدَّل الربح الوسطي = مجموع القيمة الزائدة (١١٠) ÷ مجموع الرساميل (٥٠٠) × ١٠٠ = ٢٢٪.التركيب المتوسط للرأسمال = ٧٨ + ٢٢ وحدة، ومجموعها ٣٩٠ وحدة ÷ عدد المشروعات» + «حاصل قسمة الرساميل المتغيرة، ومجموعها ١١٠ وحدة ÷ عدد المشروعات».سوف تقوم المشروعات المختلفة (وفقًا لقوى السوق، اليد الخفية عند آدم سميث) بإدخال التعديلات النسبية في التركيب العضوي للرساميل؛ وكذلك مع الربح الوسطي.قيمة السلعة = الجزء المستهلك من الرأسمال الثابت + الرأسمال المتغير + القيمة الزائدة. طبقًا للجدول ٣-٢، يحصل من عماله على قيمةٍ زائدة مقدارها ١٠٠٪ إلا أن حساب ثمن الإنتاج، وفقًا لما انتهى إليه ماركس، إنما يعتمد في المقام الأول، أي يعتمد على كتلة الربح الإجمالية على الصعيد الاجتماعي. طبقًا لتصور ماركس، ومن خلال هذا المد والجزر، أو الهجرة والعودة للرساميل؛ بعبارةٍ أخرى من خلال تزاحم هذه الرساميل وتوزعها على مختلف قطاعات الإنتاج وفقًا لتدني معدَّل الربح هنا، وتخضع سائر المقدمات الاجتماعية التي تتحقَّق في ظلها عملية الإنتاج لطابعه المُميَّز والقوانين الملازمة له» («رأس المال»، الكتاب الثالث، القسم الثاني، الفصل العاشر).يجب أن نلاحظ هنا:١)أن القيمة الزائدة المتوسطة، والتي سوف يُضطر الرأسمالي إلى قبولها عندما يُجبَر على تركيب رأسماله وفقًا للمتوسط الحسابي المعطى،١٧ ولم تكن كمية عمل متجسدًا فعلًا في المنتوج، وهو ما يخالف قانون القيمة الذي يقضي بكون القيمة هي كمية عمل (حي ومختَزن وزائد) متجسدٍ في المنتوج ذاته.٢)إن ما انتهى إليه ماركس من توقُّف التركيب المتوسط للرأسمال على المتوسط الحسابي لكلٍّ من الرأسمال الثابت والرأسمال المتغير يتصادم مع الواقع وبالتالي لا يمكن الاعتداد به علميًّا؛ لا على المتوسطات الحسابية. وبالتالي فلن تعدل المشروعات المتنافسة توليفتها إلى «٧٨ث + ٢٢م»، إنما سوف تعدلها إلى «١٠ث + ٥م» لأن الأخيرة هي التوليفة التي يفرضها قانون القيمة. بمفهوم ماركس، المعتمد على المتوسطات الحسابية، إلا أحد مستويات ثمن السوق. على هذا النحو، يبدأ من القيمة وينتهي إلى نظرية في ثمن السوق، مستندة إلى قانون القيمة، وعلى ما يبدو أنه وقع في ذلك تحت تأثير فكرة المتوسط عند ريكاردو والتي كانت تتردد بشكلٍ واضح في «المبادئ».على كل حال، فابتداءً من نظريته على هذا النحو في ثمن الإنتاج، سوف يستكمل ماركس فكرته بصدد تحديد الربح الوسطي حينما يدخل في التحليل رأسمال التاجر؛ لا بد من أن تدر متوسط ربحٍ سنوي كما الرساميل الناشطة في مختلف فروع الإنتاج، وإذا درَّ رأسمال التاجر متوسط ربح أدنى فإن جزءًا من رأسمال التاجر يتحول إلى رأسمال صناعي؛ وبناءً عليه؛ فإن التاجر يتلقى السلعة من المنتِج محملة بالقيمة الزائدة، وما عليه إلا أن يحقق، لا يخلق،فلو افترضنا أن الرأسمال الصناعي = ١٠٠ وحدة، والقيمة الزائدة = ٢٠ وحدة، فسوف يتلقى التاجران السلعة محملة ﺑ ١٠ وحدات كربح،١٩ وما عليهما إلا أن يحققا هذا الربح فعلًا من خلال تكاليف التداول؛ فكل ما ينفقه التاجر على الأدوات التي يستخدمها أو العمال لا يُعد رأسمالًا، من أي نوع؛ لأنه لا يزيد في قيمة السلعة٢٠ إنما هو محض تكاليف تداول يجب إنفاقها لتحقيق، لا لخلق، فثمن إنتاج السلعة عند ماركس يساوي تكاليف إنتاج السلعة + الربح المتوسط، إلا أن هذا الربح المتوسط لم يعُد يُحسَب على أساس الرأسمال الإنتاجي الكلي،٢١دعونا الآن، بعدما تعرفنا إلى منهجية ماركس في تحليل الأداء اليومي للمشروع الرأسمالي، نرجع إلى «المثال الطريف»؛ فوفقًا لما انتهى إليه ماركس، على نحوِ ما ذكرنا أعلاه، سيكون على المحاسب الذي استأجره أصدقاؤنا الثلاثة، صاحب القوالب الخشبية وصاحب النبيذ وصاحب الفخار، أن يقوم بحساب ثمن إنتاج سلعة كل واحد من عملائه، على أساس من العمل الحي الضروري + العمل المختزن في المباني والآلات والمواد + معدَّل الربح الوسطي، الذي هو في جوهره متوسط العمل الزائد في الفرع، فإن عدم استعمالها يؤدي أيضًا إلى فقدان مقدارٍ مُعيَّن من قيمتها. وهكذا فإن ثمن المنتوج يرتفع بوجهٍ عام؛ لأن انتقال القيمة إلى المنتوج لا يحتسب طبقًا للزمن الذي يؤدي الرأسمال الأساسي خلاله وظائفه، بل وفقًا للزمن الذي يفقد خلاله قيمته» («رأس المال»، الكتاب الثاني، الفصل الثالث عشر).فإذ ما قام المحاسب بحساب ثمن الإنتاج، آخذًا في اعتباره زمن الإنتاج؛ أي قام بحساب قيمة العمل الحي + قيمة العمل المختزن + معدَّل الربح الوَسَطي، ثم قارن المدة التي يهجع فيها الرأسمال دون أن يُدِر الربح المرتقب بفارغ الصبر، ووجد أن حساباته تلك لن تحقق لسلعة عميله قيمة مبادلة متكافئة، فلن يكون أمامه إلا أن ينصح عميله هذا بمغادرة الفرع، والاتجاه إلى الفرع الذي يحقق نفس معدَّل الربح في أقصر فترة دوران. وفي مَثَلنا سنجد أن أقصر فترة دوران هي الموجودة في فرع إنتاج الفخار؛ وبالتالي يفترض الأمر قيام صاحب قوالب الأحذية وصاحب النبيذ بمغادرة فرعَيهما والاتجاه صوب فرع الفَخَّار؛ إلا بعد ٢٤٠ يومًا في فرع إنتاج القوالب الخشبية، و٦٠ يومًا فقط في فرع إنتاج الفخَّار. وستكون بالتالي النصيحة التي يتقدم بها المحاسب لكلٍّ من صاحب القوالب وصاحب النبيذ هي تسريح عمالهما، والتحول صوب فرع الفخَّار.ولكن، السؤال الجوهري هو: لماذا لم نزل نرى، وسنظل نرى، القوالب الخشبية والنبيذ، إلى جوار الفخار، في السوق؟ ما هو القانون الموضوعي الذي يحكم استمرارهما؟ وتفترض الإجابة عن هذا السؤال أمرَين لا ثالث لهما:إما أن نُقدِّم إجابةً تبدأ من إهدار قانون القيمة! إجابةً ترى أن صاحب القوالب الخشبية والآخر صاحب النبيذ سوف يضيفان ربحًا إضافيًّا لقاء رأسمالهما المتعطل عن العمل؛ أي يضيف كلٌّ منهما معدَّل ربحٍ وسطي إضافي مكافأة لرأسمالهما! ومن ثم يصبح منظم القيمة هو كمية العمل بالإضافة إلى الرأسمال؛ وبالتالي سوف تُقاس القيمة حينئذٍ بالعمل وعائد الرأسمال؛ أي بالعمل والربح! ليس فقط الربح المعطى كمعدَّل ربحٍ وسطي في الفرع، إنما أيضًا الربح المعطى كمعدَّل ربحٍ سائد اجتماعيًّا! وهو ما يخالف قانون القيمة.الواقع أن ماركس تجاهل المشكلة برمتها، فإن الاكتفاء بقُدرةٍ تساوي معدَّلات الربح على توجيه المنتجين إلى فروع الإنتاج ابتداءً من إقدام وإحجام الرساميل وفقًا لمعدَّل الربح الوسطي فحسب يفضي إلى حتمية التسليم بأن صاحب القوالب والآخر صاحب النبيذ سوف يتجهان إلى فرع الفخار، وهذا لا، ولن يحدث. ولْنرَ لِمَ ذلك؟ في البداية، الضروري النسبي، المبذول في سبيل إنتاج تلك السلعة، وكما ذكرنا من قبلُ، ح. ح. وصرنا نعرف أن قيمة المعطف لا تتكون فحسب من العمل الحي والعمل المختزن، الكتاب الأول)، عن طريقه ويعتد بمتوسط العمل الزائد («رأس المال»، ولكن، ما انتهى إليه علم الاقتصاد السياسي على هذا النحو، ولن، يسعفنا في سبيل التعرف إلى سبب بقاء أصدقائنا الثلاثة في السوق، دون تحول أحدهما أو كليهما؛ أي صاحب القوالب وصاحب النبيذ، إلى فرع إنتاج الفخار؛ وكما ذكرنا أعلاه، ينفق ١٢٠ ساعة من العمل (الحي والمختزن والزائد) ولكن لا يعود الرأسمال محملًا بالربح؛ إذ ما تركنا جانبًا زمن التداول، إن الفرضية التي نتقدم بها هي أن السبب في استمرار الثلاثة في السوق هو: أن القيمة الاجتماعية للسلعة، عَبْر تطورها، لم تعُد تتحدد بكمية الطاقة الضرورية المبذولة في إنتاجها فحسب، إنما صارت تتحدد بكمية الطاقة الحية والمختزنة والزائدة٢٢ (مقوَّمة بالسعر الحراري) مقسومةً على زمن إنتاجها؛ أي تتحدد بقيمتها الاجتماعية ÷ زمن إنتاجها. أما قيمة السلعة النسبية، أو قيمتها الاجتماعية النسبية، فهي تتحدد بقيمتها الاجتماعية مقسومة على زمن إنتاجها، مقارنة بالقيمة الاجتماعية للسلعة الأخرى المتبادل بها مقسومة أيضًا على زمن إنتاجها. والسلع حينما تتقابل على نحوٍ طبيعي إنما تتبادل وفق هذا القانون.