والدي يسوس أحوال الناس لا بد من أن يتخذ لكل حال عدتها ويتصرف فيها بناء على المعطيات أو الحقائق المتصلة بها ، وأن الإجراء الذي سبق اتخاذه بصده حال ما في السابق يمكن اتخاذه على حال أخرى تشبهها في اللاحق . يقتصر لكل مادة على حكمها وفي كل صنف من الأحوال والأشخاص على ما اختص به ، أكثر نظره المواد المحسوسة ولا يجاوزها في ذهنه ، ومن ناقلة القول أن نذكر أن أسمى هدف للباحث المدقق ، بل إنه قد أجهد نفسه في بيان حجتها والتدليل عليها باستخدام شتى أساليب الاستدلال بالعام على الخاص ، ذلك لأن ما وضعه من أحكام في العديد من القضايا الاجتماعية لا بد من أن يطلب بحجة للكشف عن كنهها كظواهر اجتماعية في العمران وإماطة اللثام عن أسبابها وعللها . (۲) وهدفه من تقصي الأسباب والعلل والاجتهاد في التفسير بالبرهان رفع الشكوك ورفع الأوهام . وقد ذكر ذلك بوضوح في قوله : ( ونحن الآن نبين في هذا الكتاب ما يعرض للبشر في اجتماعهم من أحوال العمران في الملك والكسب والعلوم والصنائع بوجوه برهانية يتضح بها التحقيق في معارف الخاصة والعامة ، فقاسوها بما ثبت وألحقرها بما نص عليه بشروط في ذلك الإلحاق تصحح تلك المساواة بين الشبيهين أو المثلين حتى يغلب على الظن أن حكم الله تعالى فيهما واحد ، ما جاء في برهانه على فساد الرواية المتواترة التي وردت عن سبب نكبة 6 الرشيد للبرامكة وما قيل عن معاقرته الخمر ، (۳) فابن خلدون هنا يقيس حال الرشيد في حاضره على حالة الأشراف من العرب الجاهلية في ماضيهم ليتسنى له الحجاج وإحكام البرهان واستنتاج الحكم ببراءته مما نسب إليه من تنكبه سبيل الرشاد . وقد ركن ابن خلدون أيضا إلى قياس الشاهد على الغائب عند تفنيده رأي الفلاسفة في ضرورة السياسة الشرعية للبشر ، ومحاولتهم إثبات النبوة بالدليل العقلي وأنها خاصة طبيعية للإنسان ، وأنه لا بد أن يكون متميزاً عنهم بما يودع الله فيه من خواص هدايته ليقع التسليم له والقبول منه ، حتى يتم الحكم فيهم وعليهم من غير إنكار ولا تزييف » . (۱) فيرد ابن خلدون على ذلك بقوله : ( وهذه القضية للحكماء غير برهانية كما نراه ، إذ الوجود وحياة البشر قد تتم من دون ذلك بما يفرضه الحاكم لنفسه ، فأهل الكتاب والمتبعون للأنبياء قليلون بالنسبة إلى المجوس الذين ليس لهم كتاب ، ومع ذلك فقد كانت لهم الدول والآثار فضلاً عن الحياة ، وكذلك هي لهم لهذا العهد في الأقاليم المنحرفة في الشمال والجنوب وبهذا يتبين لك غلطهم في وجوب النبوات ، أو ينبه إلى قياس حاضر السياسة والملك والسلطان في المجتمعات لعهده بماضيها يوم أن كانت لا تستند إلى شرع منزل من عند الله . ويستطيع من يقرأ المقدمة بامعان أن يخلص إلى حقيقة تستحق منه عناية خاصة فيما يتعلق باعتماد ابن خلدون على القياس فهو يستخدم قياس التمثيل ، أو قياس الغائب بالشاهد عندما يكون بصدد تمحيص الروايات والأخبار عن أحوال الناس الاجتماعية في العمران فيما سلف من الزمان والبرهنة على صدقها أو كذبها ؛ ونذكر على سبيل المثال فقط شاهداً على استخدام ابن خلدون للقياس الأصولي ما ذكره في الفصل الخاص بصناعة الغناء من أنه ( يحدث في العمران إذا توافر وتجاوز حد الضروري إلى الحاجي ثم إلى الكمالي وتفننوا ، لأنه لا يستدعيها إلا من فرغ من جميع حاجاته الضرورية والمهمة من المعاش والمنزل وغيره فلا يطلبها إلا من الفارغون عن سائر أحوالهم تفننا في مذاهب الملذوذات . نجد أنه من المفيد ذكر رأي تقي الدين بن تيمية في هذا النوع من القياس والهدف من استخدامه . فلما كان الجلاء والخفاء من الأمور النسبية فقد ينتفع بالدليل الخفي والحد الخفي بعض الناس . فكثير ممن تعود البحث والنظر صارت عادة نفسه كالطبيعة له ، وإن كان عند أكثر الناس من الأمور الواضحة البينة لا تحتاج إلى بحث ونظر . فالطريق الطويلة والمقدمات الخفية التي يذكرها كثير من النظار تنفع لمثل هؤلاء في النظر ، بل إنه يجد لزاماً عليه سوق البراهين على صحة نظرياته وقوانينه وكتابة الحيثيات لتبرير أحكامه . فالاجتماع الإنساني والعمران البشري الذي جعله موضوعاً لهذا العلم فريد في نوعه جديد في بابه ؛ ولكونه كذلك فإنه يحتاج إلى إيضاح وشرح وتفسير لكي يستسيغه الذهن ويستوعبه الفكر ، وبخاصة في علوم النقل وما تفرع عليها من علوم عقلية أصبحت ذات منزلة رفيعة لدى كثير من مفكري الإسلام . فصار يشرح ويوضح ويفسر ويبرهن باذلاً في ذلك قصارى جهده . وهي معرفة الألفاظ ودلالتها على المعاني الذهنية تردها عن مشافهة الرسوم بالكتاب ومشافهة اللسان بالخطاب . فإذا ابتليت بمثل ذلك وعرض لك ارتياب في فهمك أو تشغيب بالشبهات في ذهنك فاطرح ذلك وانبذ حجب الألفاظ وعوائق الشبهات واترك الأمر الصناعي جملة ، للفتح من الله كما فتح عليهم من ذهنهم من رحمته وعلمهم ما لم يكونوا يعلمون والذريعة إلى إدراك الحق بالطبع إنما هو الفكر الطبيعي كما قلناه ،