إذ لم تنقض على وفاته بضع سنين حتى سقطت على يدهم إمبراطورية إيران، يحكمها ولاة يبعثهم الخلفاء من المدينة أو دمشق أو بغداد، وظل الولاة يحكمون مصر من قبل الخلفاء إلى أن استطاع أحمد بن طولون أن ينشئ فيها سنة ٢٥٤هـ / ٨٦٨م دولة مستقلة عن الخلافة العباسية إلى حد كبير. وكان الخليفة نفسه يرحب ببقائهم في العاصمة مخافة أن يستقلوا بما يولونه من الأقاليم، فكان هؤلاء لا يحكمون بأنفسهم بل يوفدون إلى الأقاليم نوابًا عنهم، وبقي إلى أن وفد أحمد بن طولون إلى مصر نائبا عن واليها القائد التركي. وظل القتال بينهم وبين جند الخليفة نحو أربعة عشر عامًا، ولم يعد دخل مصر يتسرب إلى بيت مال الخلافة في المدينة أو دمشق أو بغداد، وبدأ وادي النيل حياته لنفسه في مجموعة الأمم الإسلامية. وأفادت مصر من حكم الأسرة الطولونية وساد فيها رخاء نسبي، وأصبحت مصر مستقلة للمرة الأولى بعد عصر البطالسة، وعاد إليها سلطانها على الشام للمرة الأولى بعد عصر الفراعنة. واستقلت دويلات أخرى عن الخلافة العباسية، ولم يكن قيامها صدى الحركة في الرأي العام، وعاد الخلفاء العباسيون يرسلون الولاة من قبلهم لحكم وادي النيل إلى سنة ٣٢٣هـ / ٩٣٥م حين استطاع محمد بن طغج التركي الأصل أن ينظم أمور مصر التي اضطربت بعد سقوط بني طولون، ونسج على منوال ابن طولون فاستولى على سورية ثم ضم إلى حكمه مكة والمدينة، وأصبح مصير الحجاز متصلا بوادي النيل لعدة قرون بعد ذلك. الذي كان أبوهما اشتراه بنحو ثمانية جنيهات، فأميرًا على مصر بعد وفاتهما، وهم نسل فاطمة وعلي بن أبي طالب. فعملوا على الاستيلاء على مصر لخيراتها الواسعة، ولكن الحملات الحربية التي أرسلوها لهذا الغرض فشلت في بسط نفوذهم على وادي النيل، وكتب إليهم بعض هؤلاء يدعونهم إلى فتحمصر، والحق أن صلة وادي النيل بالمدينتين المقدستين في الحجاز ترجع إلى بداية العصر الإسلامي منذ كانت الغلال ترسل سنويا من مصر إلى الحجاز كما كانت ترسل قبل ذلك إلى روما ثم القسطنطينية. على أن انتقال الفاطميين إلى مصر أطلق يد عمالهم في شمالي إفريقية، وحين كان نفوذه يمتد إلى كل هذه الأصقاع، حتى تضاءلت الخلافة العباسية إلى جانب خلافة الفواطم ثم بدأ الضعف يدب إلى الدولة الفاطمية على يد الخلفاء الضعفاء الذين تقلدوا أزمة الحكم بعد العزيز، وانتقل السلطان إلى يد الوزراء تدريجيًا، وتفاقم التطاحن بين أجناسهم المختلفة ومنيت البلاد بالمنافسة بين الوزراء، ونسي كل منهم أمور البلاد ونفعها في سبيل نفعه فكان ذلك كله سببًا في سقوط الفاطميين، ولا سيما حين قوي ساعد الصليبيين وتطلعوا إلى فتح مصر، ولكنه مات بعد ثلاثة أشهر، وخلفه ابن أخيه صلاح الدين، وتوفي قبل أن يعرف هذا التغيير الخطير. ولم ينتطح فيها عنزان على حد قول المؤرخ أبي الفداء. وأصبح حاكم مصر المستقل، بل أعظم الأمراء المسلمين على الإطلاق، وامتد حكم صلاح الدين إلى الشام ومكة والمدينة واليمن، وجهاده للفرنج وإعادته الخطبة العباسية بمصر، واستيلاءه على بلاد كثيرة في أطراف المغرب، وعلى بلاد اليمن كلها. وطلب صلاح الدين من الخليفة تقليد مصر واليمن والمغرب والشام، وكل ما يفتحه بسيفه فوافته بحماة رسل الخليفة المستضيء بأمر الله بالتشريف والأعلام السود وتوقيع بسلطنة بلاد مصر واليمن وغيرها. ذلك السلطان الذي فقده خلفاؤه منذ تفككت إمبراطوريتهم، وقامت على أنقاضها الدويلات الصغيرة. على أن هذه الدولة الواسعة التي بناها صلاح الدين، وأن تصبح له المكانة الأولى، وطلب العادل من الخليفة العباسي الناصر لدين الله تقليدًا بحكم مصر والشام، وتم تسليم ذلك في احتفال عظيم. وكان للأيوبيين الفضل في حماية وادي النيل من هذه الهجمات. وسقطت الدولة الأيوبية حين ضعف سلاطينها، وعلى الرغم من أن معظم سلاطين المماليك كانوا لا يمكثون على العرش طويلاً، فضلا عن أن الخراب المالي حل بالبلاد عندما كشف فاسكودي جاما طريقا جديدًا للوصول إلى الهند حول رأس الرجاء الصالح، وفاتحة لانتهاء دولتهم. وانتقل مركز العالم الإسلامي منها إلى القسطنطينية. ولم تكن مصر لتبقى بعيدة عن الثورة الفرنسية وآثارها الدولية فغزاها نابليون سنة ۱۷۹۸ ميلادية، مصر والأحداث السياسية في العالم الإسلامي وأتيح لعبد الله بن سبأ - أكبر الدعاة ضده . أن يجد في مصر مرتعًا خصيبًا لدعوته، وساعد على نجاحها في وادي النيل أن انضم إليه نخبة العرب في مصر كمحمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة، فبدأت بذلك الحرب الأهلية في الإسلام إذ قام النزاع على الخلافة بين علي ومنافسيه طلحة والزبير، ثم بينه وبين معاوية، بل أقطعه إياها، ومما نلاحظه في التاريخ الإسلامي عامةً أنه وحد بين الأقاليم المختلفة في الشرق الأدنى وشمالي إفريقية، ونجح في تكون إمبراطورية كبيرة، ثم الإمبراطورية الألمانية. على حين أن إيران لم يصبح المذهب الشيعي دين الدولة الرسمي فيها إلا بعد ذلك بنحو خمسة قرون. والحق أن دعوة القرامطة وحركتهم الثورية كانت في الشرق الأدنى إرهابية غير موفقة ولكنها تمخضت في شمالي إفريقية عن نظام حكومي سليم على يد الفاطميين. وخليفة فاطمي علوي في مصر، وخليفة أموي في الأندلس. ولم يعد لمصر استقلالها فحسب بل أصبحت ندا ومنافسًا للخلافة العباسية نفسها. فإن القائد جوهر أخذ على نفسه في العهد الذي نشره على المصريين يوم الفتح أن يترك لهم الحرية الدينية، وجعل مملكتهم في الشام تنكمش ولو الملك الكامل في المكان الذي أطلق عليه بعد ذلك اسم «المنصورة» إشارة إلى هذا النصر، إخلاء دمياط يعترفون بكرمه وحسن معاملته، ويذكرون له نقله المرضى والعجزة على نفقته، أما المرة الثانية التي استولى فيها الصليبيون على دمياط، ولكنه أسر في واقعة فارسكور ولم يفك أسرهم إلا بعد فدية عظيمة، وقد أضعف وكان للأيوبيين وعلى رأسهم صلاح الدين الفضل في إرجاع المذهب السني إلى مكانته الأولى في الشرق الأدنى بعد أن أضعفه الفاطميون إلى أبعد حد، ومن أعظم منشآت الأيوبيين في الشام ومصر المدارس، وكان من أول أغراضها نشر التعاليم السنية، وقتلوا الخليفة العباسي المستعصم بالله، وأن المغول حين تمت لهم السيادة على الأقاليم الداخلية في سورية كانوا على وفاق مع الصليبيين الحاكمين في إقليم الساحل فأصبح الإسلام في الشام ومصر مهددًا بأن يفقد كل سلطان سياسي، أو حاكمًا شديد العناية بتنظيم الجيش وإنشاء البحرية، إن ابن طولون فكر قبل بيبرس بأربعة قرون في هذا المشروع الخطير، فدعا الخليفة العباسي المعتمد على الله إلى القدوم إلى مصر هربًا من الموفق الذي كانت له السلطة العليا في الجيش والحكومة، وطبيعي أن وجود الخليفة في وادي النيل كان من شأنه أن يزيد في نفوذ ابن طولون، ولكن الواقع أن المعتمد لم يفلح في الهرب إلى مصر؛ ثم قام الناس فبايعوا الخليفة المستنصر على اختلاف طبقاتهم، وكتب في الوقت إلى الملوك والنواب بسائر الممالك أن يأخذوا البيعة على من قبلهم للخليفة المستنصر . ولكن الحق أنهم لم يكن لهم من الخلافة أكثر من الاسم، هو «قسم أمير المؤمنين»، اللهم إلا ليجعل مركز أولئك الأمراء شرعيًا، ۱۱ وقد ظلت الخلافة في مصر إلى أن تحولت إلى العثمانيين وآراء المؤرخين مختلفة في هذا الصدد، ولكن جرده من كل سلطان دنيوي، وأنادي بنفسي جنديه الأولى، وتنصيبه الخليفة العباسي في مصر، ولنعد إلى السلطانين المملوكين الآخرين اللذين كان لهما الفضل الأخير في طرد الصليبين من الشرق الأدنى قلاوون، أما قلاوون ٦٧٨ - ٦٨٩ هـ / ١٢٧٩ - ١٢٩٠ م، فتقرب إليه إمبراطور بيزنطة، وبعث إليه البابا وبعض الأمراء المسيحيين في أوروبا وفودًا تخطب وده، والمعروف أن المؤرخ المغربي ابن خلدون وفد إلى مصر سنة ٧٨٤هـ / ١٣٨٢م ووصفه مدينة القاهرة يشهد بعظمة مصر في ذلك العصر، ومحشر الأمم، قال هذا السفير: «إن الذي يتخيله الإنسان فإنما يراه دون الصورة التي تخيلها لاتساع الخيال عن كل محسوس إلا القاهرة فإنها أوسع من كل ما يتخيل. ونهض بها محمد علي في وقت دب الضعف فيه إلى الدولة العلية حتى استطاع محمد علي أن يقول في حديث له مع القنصل الفرنسي ميمو: «إن محمد علي وسائر كبار رجال الدولة والأمة لا يريدون سوى إصلاح إدارة السلطنة وأحوالها، يريدون تجديد شبابها لتستطيع مقاومة أعدائها الطبيعيين،