كان جالسًا إلى العَشاء بين إخوته وأبيه، وكانت أمه كعادتها تشرف على حفلة الطعام، وإذن فقد أخذ اللُّقمة بكلتا يديه وغمَسها من الطَّبَق المشترك ثم رفعها إلى فمه؛ ومن ذلك الوقت عرف لنفسه إرادةً قويَّة، ومن ذلك الوقت حَرَّم على نفسه ألوانًا من الطعام لم تُبح له إلا بعد أن جاوز الخامسة والعشرين؛ حرَّم على نفسه الحساءَ والأرز، هذه الحادثة أعانته على أن يفهم حقًّا ما يتحدَّث به الرُّواة عن أبي العلاء من أنه أكل ذات يومٍ دبْسًا، ٤ فسقط بعضه على صدره وهو لا يدري، فلما خرج إلى الدرس قال له بعض تلاميذه: يا سيدي أكلت دبْسًا، قاتل الله الشَّرَهَ! ثم حرَّم الدبس على نفسه طوال الحياة. وأعانته هذه الحادثة على أن يفهم طَوْرًا من أطوار أبي العلاء حق الفهم؛ ذلك أن أبا العلاء كان يتستَّر في أكله حتى على خادمه؛ ويخلو هو إلى طعامه فيأخذ منه ما يشتهي. فتكلف أبو العلاء وأرسل إلى حلب من اشترى لهم منه شيئًا فأكلوا، فهم صاحبنا هذه الأطوار من حياة أبي العلاء حق الفهم؛ فكم كان يتمنى طفلًا لو استطاع أن يخلو إلى طعامه، ولكنه لم يكن يجرؤ على أن يُعلِن إلى أهله هذه الرغبة. على أنه خلا إلى بعض الطعام أحيانًا كثيرة، حين كان أهله يتَّخذون ألوانًا من الطعام حلوةً، فكان يأبى أن يصيب منها على المائدة، فكانت تُفرد له طبقًا خاصًّا وتخلي بينه وبينه في حجرة خاصة، على أنه عندما استطاع أن يملِك أمرَ نفسه اتَّخذ هذه الخطة له نظامًا، فتكلف التعب وأبى أن يذهب إلى مائدة السفينة، ثم وصل إلى فرنسا فكانت قاعدته إذا نزل في فندق أو في أُسْرة أن يحمل إليه الطعام في غرفته دون أن يتكلف الذَّهاب إلى المائدة العامة، جعلته مضرب المثل في الأسرة وبين الذين عرفوه حين تجاوز حياة الأسرة إلى الحياة الاجتماعية؛ فكان طعامه جافًّا ما جلس على المائدة، فانتهى به الأمر إلى أن أصبح ممعودًا، ثم حَرَّم على نفسه من ألوان اللعب والعبث كلَّ شيء، هو الاستماع إلى القَصص والأحاديث؛ أو حديث الرجال إلى أبيه، وكان صاحبنا يقعد منهم مَزْجَرَ٩ الكلب وهم عنه غافلون، فإذا غربت الشمس تفرق القوم إلى طعامهم، فإذا خلت إحداهن إلى نفسها ولم تجد من تتحدَّث إليه، وأحب شيء إلى نساء القرى إذا خلون إلى أنفسهن أن يذكرن آلامهن وموتاهن فيعدِّدن، وكثيرًا ما ينتهي هذا التعديد إلى البكاء حقًّا. وكان صاحبنا أسعد الناس بالاستماع إلى أخواته وهن يتغنَّين، في حين كان تعديدُ أُمِّه يهزُّه هزًّا عنيفًا، وحفظ شيئًا آخر لم تكن بينه وبين هذا كله صلة؛ وكان قد صَلُح ونَسُك حين اضطرته الحياة إلى الصَّلاح والنسك، وحفظ إلى ذلك كلِّه القرآن.