ثالثا: أثرها في إنتاج المعرفة إن إسهام الترجمة في إنتاج المعرفة جزؤ لا يتجزأ من الإسهامات العلمية الأخرى والاشتراك معها في الموضوع المتداول، فكيف يمكن طرح العلاقة بين الترجمة والمميزات المعرفية المحلية؟ ثم كيف تؤثر الترجمة في سمات النص الهدف؟ وكيف تسهم في تجديد فكر الذات؟ لعل الإجابة الكافية، ويستدعي هذا انتقاء في عملية اختيار النص المصدر وفق طموحات المترجم النبيلة التي تنعكس بدورها على ثقافته بالإيجاب، ولعل في إعادة إنتاج النص الهدف من النص المصدر ما يعكس قدرة المترجم على استيعاب الفكرة المراد توصيلها إلى المتلقي التي تضاهي الفكرة التي انطلق منها النص المصدر، والبناء، والتجديد، وبث روح المبادرة في اتخاذ موقف مع ما يتلاءم وطاقاته الثقافية المحلية لدفع حركة الإبداع؛ ولذا فإن «المطلوب هو إعمال الجهد في عمل يساهم في نهضة العلوم جميعا. هو أن الترجمة مشروع متكامل أولا، وخطة عمل ثانيا، وتزامن مع إنتاج العلم والمعرفة ثالثا، وانفتاح على الآخر وتفاعله معه روحا وثقافة. ومن هذا المنطلق، أيضأ، فإن لم تكن كذلك فلن تؤدي الغرض المطلوب منها حق الأداء فالترجمة لا تعني قيام نظرية معرفية تكون بديلة لجميع المعارف، وإنما يعني الإفادة من واقع دراسات النظريات المعرفية، وما وصلت إليه في مجال التغير والإضافة؛ المفيدة. وفق سياق تطور المعرفة العلمية وما يرتبط بها، يعتمد على القدرة الفائقة في الرغبة في احتواء الخصوصية العلمية. وقد يكون من البواعث المحفزة على ربط الصلة الوثيقة بين مباحث الترجمة ومباحث المعرفة هو بناء صرح واقعية المعرفة الذاتية الكسبية من الآخر، ويتضح هذا من أن الترجمة ليست مجرد نشاط لغوي، إنها ليست حرفة إجرائية فحسب، وإنما هي موقف معرفي للعقل يمنحها بعدا معرفيا لا ينفصل عن بعدها الإجرائي، فالترجمة بما هي إنتاج معرفة متجددة بالنص، إذ النقد هو السبيل إلى إنتاج المعرفة، لأنها تقف على مكونات النصوص الأجنبية وعلى مرجعياتها، فتتمكن من الحكم على وتقييم حصيلتها في إتاحة فرصة التفاعل الإيجابي بين الأنا والآخر ولقد طرحت الترجمة، وبصورة أكثر جدية، مساندتها إلى نمو المعرفة، وإلى ضوابط التفكير السليم للثقافات القومية. ومن ثم، أصبحت مورد استفادة واعتماد. ولذلك تلقى الترجمة في الفترة الأخيرة رواجا أوسع، حتى أنها تكاد تكون الاتجاه الغالب، وخدمة لها. ومن نافلة القول، إن طبيعة الترجمة في وظيفتها أصبحت تدرك جيدا أن كل عمل مترجم على نحو ما فعله Pound Ezra عندما دافع عن ترجمة Homage هو منجز جديد باضاءات جديدة، Propertius Sextus فقال: انحصرت مهمتي في إحياء رجل ميت، أي في تقديم شخصية حية، وذلك من خلال تشبيهه إعادة إنسان ميت مرة أخرى إلى الحياة، وفي هذا تركيز على النص الهدف الذي يتجدد بقراءة من لغة أخرى لنص لشاعر - مثلا ميت في لغة النص المصدر، وفي هذا يتوافق رأي «باوند Pound » حول مهمة المترجم مع وجهة نظر (والتر بنجامين) Walter Benjamin الذي يستخدم أيضا تشبيه الترجمة بالحياة بعد الموت، وذلك في مقدمته الشهيرة للترجمة الألمانية لكتاب بودلير (صور في حياة الباريسيين 1923). ولقد اكتشف من جديد منظرو الترجمة في الثمانينيات مثال بنجامين، وأصبح واحدا من أهم النصوص عن نظرية ترجمة ما بعد الحداثة وإلى مثل هذا الأسلوب تكون السمة البارزة للترجمة، في دفع المعرفة إلى النمو، هي إظهار النص المصدر وإحياؤه بحيث يولد منه موجود آخر، في لغة النص الهدف، وغالبا ما يكون المترجم وسيلة مهمة توظف لتؤدي دور إحياء نص ما في لغة الهدف إلى لغة المصدر، من منظور قصدي معين يتعلق بالمترجم، أو بالمؤسسة الثقافية أو العلمية التي تنسب إلى مصلحة المترجم، سواء أكان هذا التغيير نابعا من إرادة النص/الأصل، وتكون فيه ميزة التأثير نابعة لإرادة المترجم، أو أن يكون التغير نابعا من الترجمة «بالطبع/السجية» والتي تتحقق بأشكال مختلفة، وتكون مصادفة لحاجة الثقافة القومية، والمترجم بالمصادفة) تأتي الترجمة مسخرة للنهوض بهذه الثقافة القومية، لأن حاجة هذه الذات متعلقة باختيارها وسائل النمو بالنتيجة فائدة المعرفة بما تتلاءم مع المطلوبة من الاتصال بالآخر، ولن يكون ذلك إلا عبر جسر الترجمة التي تشكل المحور الداعم لتطور العلوم والمعارف في الثقافة الوطنية. هكذا كلما كانت النتيجة المحصلة من النص المصدر، وكلما عمت الفائدة، وكلما كان هذا المحصول ناجزا، وتاما، كلما أدت الترجمة أسمى ما عندها من خصائص وظيفية، وإذا كانت الترجمة جزءا من العمل العملي لأنها وسيط بين العلوم، وجزءا من المشروع الحضاري لأنها وسيط بين الحضارات، الترجمة بهذا المنظور؛ وعلى هذا النحو يفترض أن تكون لغتنا القومية المشتهدفة - أكثر حرصا على الإفادة من اللغات العالمية حتى نجعل منها أكثر تقبلا، وانفتاحا، ومرونة، وفي مستوى ما تواجهه من صدمات مفتعلة من الآخر. «وهنا، إذا أردنا أن نتكلم عن أول المعوقات التي تقف سدا منيعا أمام الترجمة (في ثقافتنا) فيمكننا أن نقول: إن الأمة التي دمرت مكوناتها الحضارية لا تستطيع أن تنجز علما، ولا ترجمة تكون وسيطا بين العلوم والحضارات، وإنه ليقال أيضأ: إن الإحساس بالدونية يسود الأمم التي تتخلف عن ركب الحضارة، وإن هذا الإحساس ليعم حتى يصيب تطلعاتها؛ وإذ ذاك تصاب الأمة بالإحباط وتجهض مشاريعها العلمية» إن تواصل لغتنا القومية باللغة المصدر لا يمكن أن يتم من دون تخطي حاجز الاعتزاز بالذات؛ لأن ظاهرة الاعتزاز بالذات تؤدي إلى إقصاء الآخر وتغييبه، وفي هذا تغييب لنقل التجارب المتنوعة المستمدة من تنشيط جهاز الترجمة في إجراءاتها الوظيفية، والتي من شأنها أن تضيف إلى وبما يخدم مصالح الذات في جميع مراميها الفكرية والثقافية لاختراق حواجز القطيعة المعرفية؛ «والترجمة بهذا المعنى وسيلة لوعي الفارق بين التثاقف والإلغاء الثقافي. ففي حين يعني التثاقف الإنصات المتبادل بين الثقافات والاعتراف باختلافها، أو «أنا أنت»، والمتماشية مع طموحات رغباتنا، بل إلى اكتشاف تلك اللغة نفسها؛