*الإمبراطورية والمسيحية* أخذت المسيحية تنتشر انتشارا حثيثا بحيث لم يكد ينتهي القرن الأول إلا وكانت كل ولاية رومانية من الولايات المطلة على البحر المتوسط تضم بين جوانبها جالية مسيحية ، بل إن المسيحيين كونوا جالية ملحوظة في روما نفسها منذ وقد مبكر يرجع إلى سنة ٦٤م مما عرضهم لنقمة الإمبراطور نيرون واضطهاده، حقيقة أن الغالبية العظمي ممن اعتنقوا المسيحية في أوائل عهدها كانوا من الطبقة الدنيا ، ولكن ليس معنى ذلك أن المسيحية عدمت أنصارا الها من أفراد الطبقة الأرستقراطية خلال القرون الثلاثة الأولى من تاريخها. وهنا نلاحظ أن ظروف الإمبراطورية الرومانية والأوضاع التي أحاطت بها كانت أكبر مساعد على سرعة انتشار المسيحية بين ربوعها . فضلا عن الأمن والسلام الدين سادا ربوعها ، و نشاط التبادل التجاري بين مختلف أجزائها . واللغة اليونانية في أجزائها الشرقية، وكان الوضع المعروف في النظم الرومانية أن فئة واحدة من كبار الموظفين كانت تمسك بزمام جميع الوظائف الكبرى في الدولة ، مع ترك المية العقيدة لكل مواطن روماني طالما يعترف بآلهة الدولة الرسمية من جهة ، وطالما أن عقيدته لا تهدد سلام الإمبراطورية من جهة أخرى، أو أنه يجب على جميع الرعايا - مع اختلاف عقائدهم - أن يعترفوا بعباد الإمبراطور القائم (وهو اجراء يشبه يمين الولاء للحاكم حاليا) ، ولم يعد من هذا التكليف الأخير داخل حدود الإمبراطورية الرومانية سوى اليهود ، لا سيما ل المسيحيين رفضوا - مثل اليهود - تأليه الإمبراطور وعبادته ، ولكن له يكد ينتهي القرن الأول حتى اتضح الأمر وظهرت الفوارق واضحة بين الديانتين ، فأخذ المسيحيون يجتمعون سرا لمباشرة طقوسهم الدينية ، وهكذا أخذت الحكومة الرومانية تغير نظرتها إلى المسيحيين وتعتبرهم فئة هدامة تهدد أوضاع الإمبراطورية وسلامتها ، ويبدو أن سبب حنق الحكومة الرومانية على المسيحية كان اجتماعيا لا دينيا ، لأن المسيحية بدت في صورة ثورة اجتماعية خطيرة تنادى بمبادىء من شأنها تقويض الدعائم التي قام وكان الإمبراطور نيرون أشد اضطهادا لهم، اذ قدم مسيحى روما طعاما للنار العظيمة التي أشعلها سنة ٦٤ م ، وقد أصدر هذا الإمبراطور عدة مراسيم منع فيها صلاة المسيحيين وأمر بهدم كنائسهم، واحراق كتبهم، وحبس قساوستهم وطردهم نهائيا من الوظائف الحكومية ، إلى غير ذلك من الاجراءات المشددة التي جعلت المسيحيين يطلقون على الفترة الأخيرة من حكمه عصر الشهداء ، ويبدو أن هدف دقلديانوس من هذه السياسة كان محاولة اجبار الكنيسة - عن طريق الاضطهاد - على الخضوع للدولة ، شأنها - شأن بقية الهيئات والمنظمات الاجتماعية في الدولة الرومانية . أمر يتعارض مع المبدأ الأول الذي أقام عليه دقلديانوس نظامه الذي يقضي بخضوع جميع الرعايا لسيادة الدولة المطلقة. ومهما يكن من أمر فان المسيحية خرجت من جميع المعارك ظافرة مرفوعة الرأس، بمعنى أن يتمتع المسيحيون في الإمبراطورية بكافة الحقوق التي تمتع بها غيرهم من أتباع الديانات الأخرى ويضمن للمسيحيين وكافة الطوائف الأخرى حرية اختيار وممارسة العقيدة التي يرتضونها وبذلك ضمن من وجهة نظره رضاء جميع الآلهة والقوى السماوية ، كما ضمن رضاء جميع وأمر مرسوم ميلان برد جميع الحقوق الدينية إلى المسيحية التي حرموا منها ظلماً وعدواناً ، وأن تُعاد للكنيسة جميع أماكن العبادة والأراضي العامة المصادرة دون جدل أو إبطاء أو تكلفة . لمن قاموا بشراء أملاك الكنيسة ودفعوا مبالغ كبيرة فيها. فإذا تذكرنا أن الإمبراطورية الرومانية قامت على أساس الوثنية وفكرة تـ تأليه الأباطرة وإذا تذكرنا . ما نزل بالمسيحية في مختلف الولايات الرومانية من تعذيب واضطهاد ثم ما ترتب على اعتراف خططين بالمسيحية من انتشار سريع لهذه الديانية الجديدة وازدياد نفوذ رجالها حتى أصبحت الكنيسة أقوي هيئة في تاريخ أوروبا العصور الوسطى ، وقد اختلفت آراء الباحثين حول الدافع الذي جعل قسطنطين يصدر هذا المرسوم ، اجراء سياسي اتخذه قسطنطين لتحقيق مآرب خاصة. ولعل ما دفع المؤرخين إلى هذا الخلط وتعدد رواياتهم سلوك قسطنطين نفسه والواقع أن هناك تدرج بطيء غير محسوس انتهى بإعلان قسطنطين نفسه حامياً للمسيحية فلقد كان من الشاق على قسطنطين أن يمحو من ذهنه ما تلقاه من عادات ومعتقدات وثنية ، وال يؤمن بالديانة المسيحية والواقع أنه توجد أدلة كثيرة تثبت إيمان قسطنطين بالمسيحية ، كما توجد عدد أدلة أخرى عديدة توضح استمرار اعتناقه الوثنية، ذلك أن المسيحيين عندئذ لم يتجاور عشر مجموع سكان الإمبراطورية ، الأمر الذي يؤيد الرأي الأول بأن قسطنطين اتخد قراره عن شعور ديني لا بداي المصلحة السياسية، هذا في الوقت الذي كان قسطنطين قد انتصر على خصمه ماكسنتيوس في موقعة جسر ملويان Milvian Bridge بإيطاليا سنة ۳۱۳م ، وبذلك دار السلطانه الجزء الغربي من الإمبراطورية ولم يبق أمامه سوى اخصاع جزئها الشرقي ، حتى تتحقق له السيادة العامة على الإمبراطورية كلها . لذلك لا يستبعد أن يكون قسطنطين قد أصدر مرسوم ميلان غداة وقيل أن قسطنطين رأى في منامه المسيح ومعه الصليب وأمره باتخاذ هذا الصليب شعارا له خلال الرحف على عدوه ، وكان انتصاره من الدوافع الأساسية لاعترافه بالمسيحية واعتناقها. وتعهد بحماية أرواح المسيحيين وممتلكاتهم اسوة ببقية رعايا الإمبراطورية ، ومن هذا يبدو أن سياسة فطنطير الدينية تمثل حلقة انتقال ، حيث أبقى على الوثنية القديمة ورجالها و معابدها وطقوسها ، كما نقلت على نقوده شعارات المسيحية والوثنية، وهكذا يمكن القول بأن قسطنطين ظل حتى أواخر حياته وثنيا مع الوثنيين. وقد شهدت المسيحية منذ أوائل عهدها خلافات مذهبية خطيرة كان لها أثر عظيم في تاريخ الشرق والغرب جميعا ، وهى مشكلة تحديد العلاقة بين المسيح الابن ، ذلك أنه حدث خلاف بين اثنين من رجال الكنيسة والاله الأب بالإسكندرية حول تحديد هذه العلاقة فقال أريوس وهو كاهن سکندری مثقف بأن المنطق يحتم وجود الأب قبل الابن، وبعبارة أخرى فان المسيح مخلوق لا إله ، أما أثناسيوس فقال بأن فكرة الثالوث المقدس تحتم بأن يكون الابن مساويا للإله الآب تماما في كل شيء بحكم أنهما من عنصر واحد بعينه ، هذا وإن كانا شخصين متميزين . وأن أي اتجاه نحو التقليل من مركزه يؤدي إلى اضعاف الدعوة المسيحية. ومن الواضح أن المذهب الأريوسى كان يتفق ومنطق المثقفين لأنه أراد أن يقيم العقائد المسيحية على أساس من المنطق والتعقل ، في حين كان المذهب الأثناسيوسي يستقيم وتفكير عامة الناس من البسطاء الذين يحكمون عواطفهم قبل عقولهم ، وهنا نلمس أثر الفوارق الحضارية بين الشرق والغرب ، إذ لم يلبث أن ساد المذهب الأثناسيوسي في بلاد الغرب اللاتيني في حين أصبحت الغلبة في الشرق الهلليني للمذهب الأريوسي ، هذا فضلا عما نلحظه من أن معظم المفكرين والفلاسفة والأدباء كانوا أريوسيين موحدين ، في حين كانت معظم الطبقات الوسطى والدنيا التي خشي الإمبراطور قسطنطين أن يؤثر ذلك في وحدة الإمبراطورية فحاول أن يوفق بين المذهبين لذا دعا قسطنطين إلى عقد مجمع ديني في نيقية عام ٣٢٥ م ، على الرغم من الحسم الخلاف ، وكان هذا المجمع أول مجمع مسكونى عالمى فى تاريخ الكنيسة، ومع ذلك فقد ظلت الأريوسية قائمة في الأجزاء الشرقية من الإمبراطورية ، ولعل بقاء المذهب الأريوسي قويا في الشرق كان من العوامل التي أدت بالإمبراطور قسطنطين إلى تغيير رأيه ، فاستدعى أريوس من منفاه سنة ٣٢٧م وتستطيع أن نعلل هذا التغيير الذي طرأ على مسلك قسطنطين بما كان يعتزمه الإمبراطور من نقل عاصمته إلى القسطنطينية ، وهو الأمر الذي تم فعلا عام ۳۳۰ م مما استلزم استرضاء أهالي الجزء الشرقي من الإمبراطورية، وتؤكد هذه الخطوة من جانب قسطنطين الرأي القائل بأنه كان على استعداد لتغيير ميوله المذهبية - بل الدينية - وفق ما تتطلبه مصالحه السياسية حيث أنه ظل يؤيد المذهب الأثناسيوسي طالما كانت عاصمته في الغرب ، لم يجد غضاضة في تغيير عقيدته أو ميوله نحو المذهب الأريوسي لذا تم عقد مجمع دينى جديد في صور سنة ٣٣٤م ألغي قرارات مجمع نيقية السابق ، ولم يلبث أريوس أن توفي فجأة في القسطنطينية عام ٣٣٦م . ولم يلبث أن لحق به الإمبراطور قسطنطين عام ٣٣٧م بعد أن تم تعميده على فراش الموت وفق مبادىء المذهب الأريوسي. وكان قسطنطين قد قسم الإمبراطورية قبل وفاته بين أبنائه الثلاثة ، فأحد قسطنطين الثاني الغرب، وأخذ قسطنطينوس الشرق، وهنا نجد كل حاكم من هؤلاء الحكام الثلاثة يعمل على توطيد نفوذه عن طريق المذهب السائد في بلاده ، مما جعل الخلاف المذهبي يتطور إلى انقسام في الكنيسة بين الشرق اليوناني والغرب اللاتيني ولكن حدث أن أبناء هذا الإمبراطور خالفوا أباهم واختاروا عدم الاستمرار فى مجاملة الوثنية وأهلها ، تم أغلقت معابدها بعد ذلك بعدة سنوات ، حتى تستسلم في سهولة مطلقة ، اذ بدأت تصحو من جديد عندما تولى حكم الإمبراطورية جوليان المرتد (٣٦١-٣٦٣م) الذي كان متمسكا بأهداب الحضارة اليونانية الوثنية ، فتحلى عن المسيحية سرا قبل أن يتولى منصب الإمبراطورية ، لذلك أمر بفتح معابد الوثنية التي أغلقت وفقا لمرسوم قسطنطينوس، وأعاد تنظيم رجال الدين الوثنيين وفق النظام المعمول به في الكنيسة ، كما أخذ يبعد المسيحيين تدريجيا عن وظائف الجيش والإدارة ليحل الوثنيين محلهم ، إذ لم يلبث المسيحيون أن استردوا في عهد جوفان - الذي حكم مدة لا تتجاوز سبعة أشهر - مكانتهم وامتيازاتهم التي حرمهم منها جوليان الذي تمسك بة جميع الأباطرة السابقين ، اذ ظلت الوثنية قوية - وبصفة خاصة في الغرب وروما - حيث استمرت تشيد لها المعابد حتى أواخر القرن الرابع ، فضلا عن قيامهم بمهام التنظيم الكنسي والواقع أن الاعتراف بالمسيحية دينا رسميا للإمبراطورية كانت له نتائج بعيدة الأثر بالنسبة للكنيسة ونظمها . اذ لم يتعد الرابطة الدينية بين مجتمعات مسيحية مستقلة بعضها عن بعض ، وقد ظهر على رأس الكنيسة عندئذ خمسة بطارقة في روما والقسطنطينية وأنطاكية وبيت المقدس والإسكندرية ، وكان يتبع كل واحد من هؤلاء البطارقة مجموعة من رؤساء الأسقافة الذين يشمل نفوذ الواحد منهم عدة أسقفيات ، ثم الأساقفة الذين يشرف كل منهم على شئون كرسيه الأسقفي ، ثم كان أن أخذت الكنيسة المسيحية تحصل - بصفتها راعية الديانة الرسمية للدولة - على امتيازات خاصة من الحكومة الإمبراطورية . وأهم هذه الامتيازات حق الحصول على الهبات والاعفاء من الضرائب فضلا عن قيام الأساقفة بالفصل في المنازعات التي تنشأ بين المسيحيين ، ولم يلبث أن ازداد نفوذ الأساقفة تدريجيا في أقاليمهم بفضل مكانتهم الدينية من جهة وما جمعوه من صدقات و هبات من . جهة أخرى ، لا سيما وأن الصدقات التي جاد بها الخيرون كان يتم توزيعها على الفقراء مما أوجد طبقة من الفقراء والمحتاجين عن طريق الأسقف نفسه مستعدة لتنفيذ مشيئة رجال الدين. وهكذا أخذت تزداد ثروة الكنيسة ، والتبرعات التي قدمها الأهالي عن طيب خاطر من جهة أخرى. حتى أدى إلى تحويلها من منظمة بسيطة ديموقراطية الى هيئة وراثية ذات إدارة بيروقراطية مركزة ، كلفها التخلي عن سياسة التسامح من جهة ، ذلك أن النعمة الكبيرة التي أصبحت فيها الكنيسة أدت إلى اتساع الفجوة بين رجالها وجمهور المسيحيين . وبعبارة أخرى فان ازدياد ثروة رجال الدين أدى إلى اختفاء روح الأخوة والبساطة والمساواة وهي الروح التي ميزت الكنيسة في عصرها الأول ، وحل محلها القسوة والتعالي والتباعد وهو نتيجة طبيعية للغني المفرط المفاجئ ، وهكذا أخذ الأساقفة يتباعدون شيئا فشيئا عن رعاياهم ، ولم يلبث أن تضاءل قصر حاكم الولاية أمام القصر الأسقفي بعد أن تشبه الأساقفة بالأمراء وأحاطوا أنفسهم بالحشم والأتباع والموظفين على أن القرن الرابع لم يشهد قيام التنظيم الكهنوتي للكنيسة وازدياد نفوذها السياسي فحسب، بل شهد أيضا تطور اللاهوت المسيحي وتقدمه . لكنه لم يقم بأية محاولة لوضع لاهوت علمى منظم . وطالما كان أتباعه ورسله يقومون بتقديم مواعهم ونشر دعوتهم بين أناس غير مثقفين، ذلك أن هؤلاء المتعلمين أخذوا يتساءلون عن العلاقة بين الله والمسيح وحاولوا تحديد هذه العلاقة، كما استفسروا عن طبيعة الملائكة وغيرها من المسائل وسرعان ما أصبحت هذه المسائل تحتل جانبا كبيرا من تفكير المسيحيين عندما غدت المسيحية دينا رسميا للدولة ، مما استلزم وضع دراسات لاهوتية يقنع بها المثقفون من معتنقي الديانة الجديدة . وقد قام بهذه المهمة مجموعة من كبار مفكري المسيحية الذين يطلق عليهم عادة لقب أباء الكنيسة . نشاة البابوية : ففي الشرق أسلمت الكنيسة زمامها للأباطرة الذين ازداد تدخلهم في الشئون الكنيسة وبخاصة فيما بين القرنين السادس والثامن بحيث أخذوا يتدخلون لا في سياسة الكنيسة الخارجية فحسب بل في نظمها و سياستها الداخلية أيضا. هكذا أصبح من العسير وقف تدخل الامبراطور البيزنطي في شئون الكنيسة الشرقية ، ومن الواضح أن هذه السياسة وضع أسسها قسطنطين نفسه منذ اعترافه بالمسيحية وانشائه القسطنطينية، هذا إلى أنه استن سنة جديدة اتبعها خلفاؤه من الأباطرة الشرقيين ، هي قيام الإمبراطورية بدعوة المجامع الدينية العامة لبحث مختلف المشاكل المتعلقة بالكنيسة والعقيدة المسيحية. وسرعان ما وجدت الكنيسة الغربية ضالتها في شخص أسقف روما الذي تحول كرسية إلى بابوية لها السيادة العليا على الكنيسة في مختلف بلدان العالم الغربي. ولكن هذا الرأي صادف معارضة من القائلين بأن تراث المسيحية انتقل عن طريق الرسل والحواريين وظل محفوظا في الكنائس التي أسسوها ، لذا فإن خلفاءه - هذا في الساقفة روما أحق الناس بأن يرثوا زعامة العالم المسيحي الوقت الذي كان فيه الشرق البيزنطي مصرا على عباده ، ولكن مندوب البابا ليو الأول عارض هذا المبدأ واستشهد بعض قرارات مجمع نيقية على أسقية كرسي روما، القديس بطرس ، وفي عام ٤٥٥م أصدر الإمبراطور فالنشيان الثالث إمبراطور العرب مرسوما يقضى بخضوع جميع أساقفة الغرب للبابا. ومن جهة أخرى لأنه توالى على هذا المنصب عدد من كبار الأساقفة مثل جريجوري العظيم الذي دافع عن المدينة ضد البرابرة ، وقدم الكثير من الخدمات الاجتماعية،