تتناول هذه الورقة بالتحليل ظاهرة التسريب من حيث هي ظاهرة قديمة، وعلاقتها بمبدأ الشفافية في النظام الديمقراطي. وتقسم ظاهرة التسريب إلى تسريبات مقصودة من داخل المؤسسة، وهي تُنتج جدلية سلبية في تعامل المواطن مع السياسة، وتسريبات على شكل فضائح ناجمة عن وظيفة مؤسسة الإعلام، وعن التوازن بينها وبين المؤسسة السياسية، ثم التسريبات النقدية الناجمة عن فاعل منشقّ أو من خارج المؤسّسة، هذه الورقة تجعل موقع المصدر المفتوح عند تقاطع هذا التراث مع وسائل الإعلام الجديدة على شبكة الانترنت. وفي ظاهرة التسريب نفسها. وتغيّر موقفها من الشفافية حين يمسّ قضايا تتعلق بجدلية العدوّ والصديق، الصحيح والكاذب، وتبين أنّ المصدر المفتوح والتقاء الحقائق المسربة مع ما توصّل إليه التحليل العقلاني نظرياً يلعبان دوراً تنويرياً في إعادة الاعتبار إلى العقل والحقائق. يتصدر الحقّ في الوصول إلى المعلومة ذات العلاقة بالشأن العام قائمة الحقوق التي يقوم عليها الحق في حرّية الرأي والحقّ في التعبير والحقّ في المشاركة. وهذا الحق هو أهم الحقوق السياسية في النظام الديمقراطي. مع أن مؤسّسة السرية والسرية المقوننة هما من نتائج تطوير النظام الديمقراطي في مقابل حقّ المواطن في المعرفة، لأن النظام الذي يعتبر الشفافية هي القاعدة، في حين أنّ الأنظمة الدكتاتورية غالباً ما تعتبر السريّة جزءاً من تعريف النظام؛ في حين أنّ العلنية هي ما يختار النظام أن يعلنه، أكان ذك حقيقة أم كذباً. وهنا تكمن الهوّة بين الشعب والحاكم، ثمة قطبان لهذه العملية: احتكار المعلومة كنوع من احتكار القوّة والسلطة من جهة، وتتوسط بينهما عناصر عدّة مثل الرقابة على النشر، وتصنيف المعلومات كمواد سرية، والشفافية المنظمة قانونياً. وتمنح الحقّ في أن تكون مؤسّسة للرقابة على السلطة للحدّ من استخدام القوة والنفوذ لأهداف غير شرعية ولأهداف غير مشروعة. إنّ تطوّر الشّفافية كآلية جاء مع تطور المؤسسات الديمقراطية وحقوق المواطن وتحوّلها إلى مؤسسات في كثير من الحالات، والمناقشات البرلمانية المفتوحة (البثّ المباشر مؤخراً)، فقد ظل برج المراقبة الذي تقبع فيه السلطة أعلى وأكثر إشرافا واستدارة وبانورامية، وظلّ حجب المعلومة أداةً أساسية في صنع السياسات الذي يتم من دون موافقة الرأي العام، أو حتى للكذب الصريح في إطار تبريري سُمّي "الأمن القومي". وتوسَم "المسائل الخاصة بالأمن القومي بأنها" فوق الحقوق والقوانين الدنيوية، ولا يُسمح بدخوله إلا لأصحاب الشأن المصنّفين. ويباح حجب المعلومات عمّن يقع خارج حرم هذه القدسية، ويباح حتى الكذب في شأن أي قضية توسم بهذه العلامة. أمّا الآليات التي طُورت من أجل نقل الخبر واستقصاء المعلومة ونقلها إلى الجمهور، فيمكنها -في هذه الحالات- أن تتحول إلى أداة لمنع الشفافية وللتضليل، لأن العلاقة الممأسسة بين الإعلام والسلطة تتضمن خدمات متبادلة، ما كانت لتتخذ لو عُلم أنّ الأسباب التي تبرّرها كاذبة، أو لو عرفت حقيقة الدوافع، ولجرى تشويش تنفيذها على الأقل (1). لا يعد تسريب الوثائق والحقائق المحجوبة ظاهرة جديدة في العلاقة بين الحكومات والمؤسسات الرسمية من جهة، والإعلام والرأي العام من جهة أخرى. تماماً مثل احتكار استخدام العنف؛ خارج هذا السياق، في إطار الصراع ضدّ الحكومات، بما في ذلك الفعل الثوري (ما قبل الديمقراطية، وما قبل نشوء مفهوم الشفافية)، ومنذ أن نشأ مفهوم الرأي العام، ومعه وسيط نقل الخبر والمعلومة، أي الصحافة ووسائل الإعلام عموماً، أصبح التسريبُ جزءاً من عملية صناعة الرأي العام وتكوينه. لا علاقة ضرورية لآلية التسريب إذاً بهذه الجدلية الموصوفة أعلاه. فيقوم الجناح غير الموافق على خطوة ما، بتسريب خبر عنها إلى الرأي العام لعرقلتها. وكمثال أكثر أهمية نذكر أنّ هنري كيسنجر قام بخطوات التقارب مع الصين في حقبة إدارة نيكسون بشكل سرّي، ومن دون أن يُعلم الخارجية والبنتاغون كي لا تقع الوثائق أو الرسائل في أيدي سياسيين ومسؤولين ممّن يعارضون سياسة الانفراج هذه، مثل راي كلاين في "سي آي إيه" والسيناتور باري غولد ووتر، أو تسجيل نقاط في الصراع داخل المؤسسة، وليس الوصول إلى الحقيقة ولا تحقيق الشفافية. ولكن في المجمل فإن الرأي العام يصبح، بعد أيّ تسريب كهذا، أكثر وعياً بأساليب الحكم وأكثر ريبية وتشكيكاً في السياسة والسياسيين. ولا يلبث أن يؤدّي التسريب المتبادل، في ما لو أفقده التنافس الروادع، ليس من "الحقيقة" وحدها، ولكن في السياق التاريخي نفسه، تلاؤُم ما يقول مع الوقائع، أو مضمونه قياسا على حقيقة موضوعية ما. وهو مفهوم وجيه وذو فائدة في العلوم الاجتماعية يقوم على العلاقة بين المعرفة والسلطة، إنه نموذج لفهم رواية الأحداث كسرد ناجم عن موقف ثقافي وأيديولوجي معين. وكلا المفهومين لم يهدفا إلى مساواة الحقيقة بالكذب في أي لحظة معطاة، وعند أي مقارنة بين القول والوقائع. وخلع ألقاب ما بعد حداثية على هذا التسخيف وترويجه كثقافة سياسية، هو الوجه الآخر لاحتكار المعلومة وجواز كذب المؤسسات الحاكمة. وفي المقابل وُجدت دائماً أنواع أخرى من التسريب التي يقوم بها منشقون عن الحكومات والمؤسسات ممّن لم يتمكنوا من تحمل التبعات الأخلاقية لعدم البوح في الفضاء العام بما يعرفونه من معلومات عن أعمال تقوم بها مؤسسة ما، ويعتبرونها غير أخلاقية أو ضارة بالخير العام. كما وجدت تسريبات قامت بها حركات ثورية لتُثبت صحة ما قالته عن الدولة. وغالباً ما يُضرب كمثال على ذلك كشف البلاشفة، بعد وصولهم إلى الحكم، والتي كانت أساساً للحرب العالمية الأولى التي اعتبرها البلاشفة حرباً استعمارية لا حرباً وطنية، وكان فضح البلاشفة الوثائق والمراسلات نوعاً من التسريب بالجملة، ولا شكّ في أن هذا الكشف ساهم في بلورة الوعي بالمواطنة كمشاركة سياسية احتجاجية ضد الحرب، وضد التعامل مع قرار الحرب كشأن متعلق بالحكومات وحدها. ولكن هذا الأمر مثال ثوري تاريخي من مرحلة ما قبل نشوء الشفافية كمفهوم وكمؤسسة ديمقراطية. وبيّنت الوثائق أن الإدارات، وبالتحقيق الصحافي، واضطرت إلى اتخاذ إجراءات ضد الرئيس نيكسون نفسه، وهكذا تعود المؤسسة إلى روتينها الجديد بعد أن تُقدم ضحايا من السياسيين المتهمين بالفضيحة، ولا تلبث هذه المؤسسة أن تسن تشريعات تتلاءم مع مفهوم أكثر تطوّراً للشفافية. ونجد هنا علاقة جدلية بين المؤسسات الإعلامية الكبرى وبين المؤسسة الحاكمة، وهي تُعيد إنتاج التوتر والتوازن بعد كل كشف، يصح هذا على ما تقوم به وسائل الإعلام يومياً فيما يتعلق بالفضائح المالية والفساد واستخدام الشرطة العنف في أثناء التحقيق، وغير ذلك من مزايا الصحافة الاستقصائية. ويجري هذا كله في إطار ممأسس بين فاعلين لا ينأون بأنفسهم عن تبادل الخدمات بالمعنى السلبي المذكور أعلاه فحسب، بل يدخلون في صراع فعلي من حين إلى آخر تنجم عنه علاقة تفاعلية نسميها هنا جدلية إيجابية، وحتى حين يعاد رسم الحدود المشوشة بين المؤسستين السياسية والإعلامية خلال التسريبات والكشوفات في إطار الجدلية الإيجابية، إذا صحّ التعبير، فإنّ المؤسّستين تتّفقان غالباً على الفضاء الذي يجمعهما داخل حدود الأمن القومي، بل ضرورة نابعة من تعريف السياسة وتعريف العدو والصديق. ولهذا لا تنطبق عليها الشفافية حتى لو أخذت في الاعتبار الحقوق الأخرى التي توازن الشفافية وتقيدها. أو تحرش جنسي يقوم به مسؤول في حكومة، قد يندمج بسهولة فائقة في جوقة نشر الأكاذيب أو حجب الحقائق، حين يتعلق الأمر بالأكاذيب التي تبرر شنّ حرب على دولة أخرى. لأن مكافحة الفساد والشفافية داخلياً هي مصلحة وطنية، وهذا ما يجعل الحدود لدى المؤسستين الإعلامية والسياسية واضحة بين التسريب الذي تقوم به وسيلة إعلامية ممأسسة من جهة، وأخيراً ما يقوم به على أوسع نطاق مصدر مفتوح على شبكة الانترنت يتجاوز جميع الحدود المؤسساتية الداخلية والوطنية بين الدول، وفي هذه الحال تنشأ ظاهرة جديدة لم يتم الاستعداد لها على الإطلاق، ولذلك غالبا ما تنتظم المؤسستان الإعلامية والسياسية في جوقة ضدّها. وهذا النقاش صحيح في الظروف العادية، وهو ليس للتستر على الجرائم، ولكنه مفتعل في حالة تسريب معلومات عن قضايا الأمن القومي، لأن هذه القيم تتضاءل أمام قيمة الشفافية في حالة واحدة فقط هي استغلال السرية لارتكاب جرائم. ولكن النقاش يبرز هذه القيم في حالة المس بما يسمى الأمن القومي حتى لو كشفت الشفافية المكتسبة بالتسريب جرائم حقيقة ضد المدنيين، وأسراراً مخفية وراء قرار الخروج إلى حرب غير عادلة. والمقصود هو التناقض فيما يتعلق بالشؤون العامة. أما إخفاء الحقيقة في الشأن الخاص، وهو أمر متغير التعريف والتحديد عبر التاريخ، فلا يجوز أن يكون موضوعا للاهتمام العام، وبالتالي للتسريبات أيضا إلا لغرض التشهير وتلطيخ السمعة والإثارة،