حينما بدأت أتساءل في تمرد: تقولون "إن الله خلق الدنيا لأنه لا بد لكل مخلوق من خالق" فلتقولوا لي إذن من خلق الله؟. فإذا كان قد جاء بذاته فلماذا لا يصح في تصوركم أيضا أن الدنيا جاءت بذاتها بلا خالق وينتهي الإشكال. تغيب عني تلك الأيام الحقيقة الأولى وراء ذلك الجدل. إن زهوي بعقلي الذي بدأ يتفتح كان هو الدافع وليس البحث عن الحقيقة ولا كشف الصواب. وغابت عني أيضا أصول المنطق وإذ كيف اعترف بالخالق ثم أقول ومن خلق الخالق فأجعل منه مخلوقا في الوقت الذي أسميه خالقا وهي ثم إن القول بسبب أول للوجود يقتضي أن يكون هذا السبب واجب الوجود في ذاته وليس معتمدا ولا محتاجا لغيره لكي يوجد. أما أن يكون السبب في حاجة إلى سبب فإن هذا يجعله واحدة من حلقات السببية ولا يجعل منه سببا أول. هذه هي أبعاد القضية الفلسفية التي انتهت بأرسطو إلى احتاج الأمر إلى ثلاثين سنة من الغرق في الكتب والخلوة والتأمل والحوار مع النفس وإعادة النظر لأقطع فيه الطريق الشائكة من الله والإنسان إلى لغز الحياة إلى لغز الموت إلى ما أكتب من كلمات على درب اليقين. ولو أني أصغيت إلى صوت الفطرة وتركت البداهة تقودني لأعفيت نفسيمن عناء الجدل. ولقادتني الفطرة إلى الله. ولكنني جئت في زمن تعقد فيه كل شيء وضعف صوت الفطرة حتى صار همسا وارتفع صوت العقل حتى صار لجاجة وغرورا واعتدادا. والعقل معذور في إسرافه إذ يرى نفسه مانحا للحضارة بما فيها فتصور نفسه القادر على كل شيء وأقام نفسه وغرقت في مكتبة البلدية بطنطا وأنا صبي أقرأ وكانت الصيحة التي غمرت العالم هي العلم شيء غير العلم. لنرفض الغيبيات ولنكف عن إطلاق البخور وترديد الخرافات. كان الغرب هو التقدم وقد التقط علماء الغرب الخيط من حيث انتهى الباحثون العرب ثم استأنفوا الطريق بإمكانيات متطورة وملايين الجنيهات المرصودة للبحث, فسبقوا الأولين من العرب والفرس والعجم وكان الشرق العربي هوالتخلف والضعف والتخاذل والانهيار تحت أقدام العلم يبدأ من المحسوس والمنظور والملموس وأن العلم ذاته هوعملية جمع شواهد واستخراج قوانين وما لا يقع تحت الحس فهو في النظرة العلمية غير موجود وأن الغيب لا حساب له في الحكم العلمي. بهذا العقل العلمي المادي البحت بدأت رحلتي في عالم العقيدة بالرغم من هذه الأرضية المادية والانطلاق من المحسوسات الذي ينكر كل ما هو غيب كان العلم يمدني بوسيلة كان العلم يقدم صورة عن الكون بالغة الإحكام والانضباط. كل هذا الوجود اللامتناهي من أصغر إلكترون إلى أعظم جرم سماوي كنت أراه أشبه بمعزوفة متناسقة الأنغام مضبوطة التوزيع كل حركة فيها بمقدار. وفي هذه المرحلة تصورت أن الله هو الحيوية الخالقة الباطنة في كل شيء والوجود كان في تصوري لا محدودا لا نهائيا. إذ لا يمكن أن يحد الوجود إلا العدم، ومن هنا يلزم منطقيا أن يكون الوجود غير محدود ولا نهائي. وبهذا جعلت من الوجود حدثا قديما أبديا أزليا ممتدا في الزمان لا حدود له ولا نهاية. وأصبح الله في هذه النظرة هو الكل ونحن تجلياته وبذلك وقعت في أسر فكرة وحدة الوجود الهندية وفلسفة سبينوزاوفكرة برجسون عن الطاقة الباطنة الخلاقة وكلها فلسفات تبدأ من الأر ، من الحواس الخمس ولا تعترف بالمغيبات. ووحدة الوجود الهندية تمضي إلى أكثر من ذلك فتلغى الثنائية بين المخلوق والخالق فكل المخلوقات في نظرها هي عيني الخالق. وعشت سنوات في هذا الضباب الهندي ثم بدأت أفيق على حالة منعدم الاقتناع واعترفت بيني وبين نفسي أن هذه الفكرة عن الله فيها الكثير من ومرة أخرى كان العلم هو دليلي ومنقذي ومرشدي. ثم كان عكوفي على العلم وعلى الشريحة الحية تحت الميكرسكوب الذى قال ليشيئا آخر. وحدة الوجود الهندية كانت عبارة شعرية صوفية، والحقيقة المؤكدة التي يقولها العلم أن هناك وحدة في الخامة لا أكثر، وحدة في النسيج والسنن الأولية والقوانين، وحدة في المادة الأوليةالتي بني منها كل شيء، فالخلاف بين صنف وصنف وبين مخلوق ومخلوق هو خلاف في العلاقاتالكيفية والكمية، فالوحدة بين الموجودات تعني وحدة خالقهاوأنه لم يشرك معه شريكا يسمح بأسلوب غير أسلوبه. وهي تبسيط وجداني لايصادق عليه العلم ولا يرتاح إليه العقل. وهذا الخالق هو عقل كلي شامل ومحيط. هو الذي يزود كلمخلوق بأسباب حياتهفهو واحد أحد قادر عالم محيط سميع بصير خبير، وهو متعال يعطىالصفات ولا تحيط به صفات. والصلة دائما معقودة بين هذا الخالق ومخلوقاته فهو أقرب إليها من دمها الذي يجري فيها وهو العادل الذي أحكم قوانينها وأقامها على نواميس دقيقة لا تخطئ وهكذا قدم لي العلم الفكرة الإسلامية الكاملة أما القول بأزلية الوجود لأن العدم معدوم والوجود موجود, فهو جدل لفظيلا يقوم إلا على اللعب بالألفاظ. فكلمة العدم وكلمة الوجود تجريدات ذهنية كالصفر واللانهاية، لا يصح أننخلط بينها وبين الواقع الملموس المتعين والكون الكائن المحدد أمامالحواس. الكون هو مخلوق له بدء ونهاية بدليل آخر من قاموس العلم ما يعرف باسم القانون الثانى للديناميكا الحرارية. ولو كان الكون أزليا بدون ابتداء لكان التبادل الحراري قد توقف في تلك الآباد الطويلة المتاحة وبالتالي لتوقفت كل صور الحياة وانتهى كل شيء، والقيامة الصغرى التي نراها حولنا في موت الحضارات وموت النجوم وموت المخلوقات هي لمحة أخرى تدلنا على القيامة الكبرى التي لا بد أن ينتهي إليها الكون. إن العلم الحق لم يكن أبدا مناقضا للدين بل إنه دال عليه مؤكد بمعناه. وإنما نصف العلم هو الذي يوقع العقل في الشبهة والشك، وبخاصة إن كان ذلك العقل مزهوا بنفسه فى عصر