رَضَخَ زَوجي بَعد طولِ صِراعٍ أن يَستَدينَ لِنُسافِرَ هذا الصَّيفَ. تَعبَّأتُ بِالصَّبرِ وَطولِ البالِ. كالعادَةِ! لَمْ أكُن مِن أولئكَ النِّسوَةِ اللّائي يَيْئَسنَ بسرعَـةٍ. كنتُ أملِكُ سِدادَتَـهُ وَمَفاتيحَـهُ بيدي. أُلوِّحُ بِها متى أشاءُ وكيفَما أشاءُ. مَرحبًا بِكُم عَلى خُطوطِ الطّيَرانِ الماليزيِّ. حينَ حَلَّقَت بِنا الطّائِرَةُ استَرخَيتُ على الكُرسيِّ. شَعَرتُ بِالرّاحـةِ العَميقَـةِ بَعدَ قَلَقٍ عَظيمٍ. كُنتُ خائفَـةً أن تَشمَتَ بي جاراتي وصَديقاتي حينَ يُلغي زَوجي فِكرَةَ السَّفَرِ مِن أَجِندَتِـهِ. مُحتارٌ إلى أينَ يُسافِرُ بي!! - هَلْ سافَرَت إحداكُنَّ إلى بَلجيكا أو ماليزيا؟ مُحتارَةٌ بَينهُما؟ كُنتُ أَعرِفُ أ لّا ظُروفُهُنَّ ولا ظُروفي تَسمَحُ بالسَّفرِ حتّى إلى (صَلالَةَ) في عُمان. وَلكنَّ طَقمَ الذَّهَبِ الّذي هَرَسَتني به جارَتي (علياءُ) أشعَلَ قَلبي، كانَ يَومًا كَسيفًا حينَ جاءَت وَهي تَتَباهى بِالطَّقمِ وَتَتَعَمَّدُ بِمناسَبَـةٍ أو دونَها إسقاطَ الشّيلَـةِ والعَباءَةِ ليَظهَرَ الطَّقمُ مُتَرَبِّعًا على صَدرِها المَكشوفِ أكثَرَ مِنَ اللّازمِ. تَلَمَّسَت يَدايَ صَدريَ العاري مِنَ الذَّهَبِ. لتَشتَعِلَ النّيرانُ وَتَتَأجَّجَ في صَدريَ المَحقونِ بِالغيرَةِ. وَتَحَوَّلَت عَينايَ إلى طَلَقاتٍ ناريَّـةٍ أقذِفُها في وَجـهِ عَلياءَ. تَقَلَّبْتُ على جَمَراتِ الفِكرِ والتَّخطيطِ. لا بُدَّ أن تَكونَ ضَربَتي شَيئًا مُختَلِفًا وَغَيرَ مَعهودٍ بِالنِّسبَـةِ لِهؤلاءِ النِّسوَةِ الثَّرثاراتِ. كُنتُ أُرَدِّدُ عِبارَةً واحِدَةً لا غَيرَها: ارَتَسَمَ الاندِهاشُ في وَجهِـهِ. قالَ وَهُوَ يَعُضُّ على شَفَتَيـهِ: كانَ هُجومًا لا تَقِفُ أَمامَـهُ لا المُدَرَّعاتُ الحَربيَّـةُ ولا جَنازيرُها. ولكنَّ الّذي حَصَلَ أنَّـهُ رَفَعَ الرّاياتِ البَيضَ والحُمرَ وكلَّ الألوانِ، لا أصَدِّقُ نَفسي!! كَم كُنتُ أَحلُمُ بِالسَّفَرِ البَعيدِ والتِّجوالِ حَولَ العالَمِ. وَأنظُرُ إلى زَوجيَ الفَقيرِ، لماذا لاتَتَحقّقُ أَحلامُنا الكَثيرةُ؟ مُنذُ وَعَيتُ عَلى الدُّنيا وَأحلامي مَسروقَـةٌ أو مبتورَةٌ. حَلُمتُ بِإكْمالِ دِراسَتي وَأن أُصبِحَ طَبيبَـةً مَشهورَةً، لكنَّ رُسوبيَ المُتَكرِّرَ زَجَّ بي بَينَ جُدرانِ بَيتيَ الكئيبِ. تَخَيَّلتُ زَوجَ المُستَقبَلِ غَنيًّا سَيَحمِلُني على كُفوفِ الرّاحَـةِ فَإذا أنا خادِمَـةٌ في بَيتِ أبيـهِ الكَبيرِ. رَضيتُ بـهِ وَأرَدْتُـهُ زَوجًا يَصنعُ مِنَ المُتَعِ الصَّغيرَةِ أفراحًا كَبيرةً فَإذا بِهِ لايَعرِفُ شَرقَ الأرضِ مِن غَربِها. وَلا يَملِكُ سِوى قَلبٍ طَيِّبٍ لِلغايَـةِ. إلّا هذا الحُلُمَ الوَحيدَ الّذي انتَزَعتُـه مِن سماواتِ المُستَحيلِ. - سَعيدَةٌ ياحَبيبَتي؟ لَم أَكنْ أَرغَبُ في إشعارِهِ بِأنّـهُ حَقَّقَ مُعجِزَةً. لم يَرغَبْ مَزاجي الرّائِقُ في فَكِّ رُموزِها كَعادَتي مَعَـهُ. هَل نَحنُ فِعلًا مُعَلَّقونَ بَينَ سَماءٍ وَأرضٍ؟! كُنتُ كالبَلهاءِ أُصَوِّرُ كلَّ شَيءٍ، فَتَكونَ دَليلَ إثباتٍ! - كَم مَضى مِنَ الوَقتِ؟ سَألتُـهُ مُتَلَهِّفَـةً. كلُّ شَيءٍ يَهونُ مِن أَجلِ إغاظَـةِ (عَلياءَ) وَتوابِعِها. لَم يَشعُر بِوُجودي في ظِلِّ (عَلياءَ) ولا تَتَتَبَّعُ إلّا أخبارَها، وَحينَ تَزوَّجَتْ . كانَ زَواجُها حُلُمَ كُلِّ فتاةٍ. حتّى زَوجي لَم يُظهِرْ أيَّ شُعورٍ بِنَشوَةِ الانتِصارِ، بِأنَّـهُ فازَ بي مِن دونِ شَبابِ الحَيِّ، وأنَّـهُ استَحقَّني بِجدارَةٍ كَما فَعلَ زَوجُ (عَلياءَ)، لَو كانَ فَعَلَها لَما جَعَلتُها نِدًّا لي في عَقلي وَحَياتي. كانَت تَتَعَمَّدُ زيارَتي دائمًا لإغاظَتي والنِّكايَـةِ بي. وَقَرَّرتُ أن أُعامِلَها بِالمِثلِ. انتَبَهنا عَلى صَوتِ قائِدِ الطّائِرَةِ. صَرَختُ في زَوجي: وَسادَ المَكانَ تَوتُّرٌ شَديدٌ. بعضُ الرُّكّابِ بَدَؤوا يُسَمّونَ وَيُحَوقِلونَ . الأمرُ خَطيرٌ!. شَعَرنا بِالمَيَلانِ. كانَ المَطَرُ يَهطُلُ في الخارِجِ. انكَمَشتُ كَفَأرَةٍ مَذعورَةٍ. وَتَلَوَّنَ بِكُلِّ الألوانِ إلّا لَونَ الحياةِ. وَبَدَأَ يَقرَأُ وَيُرَدِّدُ الآياتِ والأدعيَـةَ. سَيَغفِرُ ماذا؟ ما أكثَرَ ذُنوبيَ وَأبشَعَها؟ آه . لَيتَني ماتَكاسَلتُ عَن صَلاةِ الفَجرِ حتّى خَرَجَ وَقتُها. وَلَم أُجبِرهُ عَلى الاستِدانَـةِ. يَقولونَ إنَّ روحَ المَيْتِ المَدينِ لاتَصعَدُ إلى سَماءِ رَبِّها، فَدُيونُـهُ تُكَبِّلُـهُ وَتُقَيِّدُهُ حَتّى لَو كانِ شَهيدًا. واحتَمَلَ سَلاطَـةَ لِساني وَقِلَّـةَ عَقلي. لا أذكُرُ أنَّـهُ ضَرَبَني يَومًا أو أهانَني. بَل على العَكسِ كانَ يَتمنّى إرضائي. فما كان سَيحدُثُ ماحدَثَ. لَيتَـهُ أوقَفَني عِندَ حَدّي، إذ أَمسَكَ بِحزامِـهِ، ما أكثَرَ أخطائي! تَذَكَّرتُ يومَ نَهَرتُ جارَتَنا الأرمَلَـةَ وَوَصَمتُها بأقبَحِ الصِّفاتِ حينَ جاءَت تَطلُبُ مُساعَدَةً مِن زَوجي. كنتُ أظُنُّها تُخَطِّطُ لِخَطفِ زَوجي. «لا » . رَجَّـةٌ جَديدَةٌ. أشهَدُ أنْ لا إلهَ إ لّا اللّه . تذكّرتُ حَديثًا نَبَويًّا، «مَنْ كانَ آخرُ كلامِـهِ لا إلهَ إ لّا اللّـهُ دَخَلَ الجَنَّـةَ » هَل سَأدخُلُها؟ وَذُنوبي؟! وَأفكاري الشّيطانيَّـةُ؟! سَمِعتُ خَطيبَ الجُمُعَـةِ يَقولُ: إنَّ رَحمَـةَ اللّـهِ واسِعَـةٌ. فَدَخَلَتِ الجَنَّـةَ. سَأتوبُ وَأُنيبُ ياربُّ. بَدَأتُ أتَشَهَّدُ. لا أدْري كَم مَرَّ مِن الوَقتِ حتّى انسابَ صَوتُ قائِدِ الطّائِرَةِ يُبَشِّرُنا بِتَجاوُزِ المَطبّاتِ الهَوائيَّـةِ. عادَتِ الدِّماءُ تَجري في أَوصالِنا مِن جَديدٍ. تَنَفَّستُ الصُّعَداءَ. شَعرتُ بِحُنُوٍّ غَريبٍ عَلى زَوجيَ الحَبيبِ. كانَ خائِفًا عَليَّ وَظَلَّ يَرْقيني بِآياتِ اللّـهِ وَيُهَدِّئُ مِن رَوعي. حاوَلتُ أن أُغمِضَ عَينَيَّ. لا يَزالُ بَعضُ القَلَقِ والخَوفِ يَسري في أَوصالي. السّاعَةُ جاوَزَتِ الرّابِعَـةَ فَجرًا. وُصولُنا لِماليزيا سَيَكونُ في السّاعَـةِ السّادِسَـةِ صَباحًا. بَدَأتِ الطّائِرَةُ تَقتَرِبُ مِن أَجواءِ العاصِمَـةِ. كانَ مَنظَرًا خَلّابًا. البِساطُ الأخضَرُ يَمتدُّ هُنا وهُناك. البُيوتُ الخَشَبيَّـةُ بِأسقُفِها الحُمر. أَخَذَت عَجلاتُها تَنزَلِقُ عَلى أرضِ المُدَرَّجِ الواسِعِ حتّى استَقَرَّت. كُنتُ أَسبِقُ زَوجي في النُّزولِ وَمُعانَقَـةِ هَواءِ المَدينَـةِ الغافيَـةِ في مِثلِ هذا الصَّباحِ النَّظيفِ. لَم أرُدّ. أَدرتُ الأرقامَ الّتي أَحفَظُها. لَيتَكِ كُنتِ مَعي.