باحث سياسي مغربي في قضايا الفكر العربي الإسلامي والفلسفة احفظ المقالات لقراءتها لاحقا وأنشئ قائمة قراءتك مصر. شكلت القيم والمبادئ الكبرى، التي مثَّلت غطاءً أخلاقيًا وموجهًا فكريًا للتنوير والحداثة، يقدم نفسه باعتباره مشروعًا كونيًا، يحمل في جانب منه قيمًا إنسانية للانتقال بالإنسان والمجتمعات من وضعية التقليد، من خلال مرتكزات العقلانيّة والحرية والفردانية والديمقراطية والمساواة، تتكشّف مخرجاته منذ عقود، في نزعات تدميرية للإنسان والمجتمعات التي تختلف مرتكزاتها الثقافية والقيمية وإراداتها السياسية عن المنحى الذي ترسمه بعض القوى المهيمنة على أدوات إنتاج الحضارة إلى حدود اليوم، وبصيغة أخرى؛ يحمل المشروع معه خطيئة الولادة على مُستوى الجينات التي يتشكل منها. أين يتجلّى ذلك؟ وما هي تمظهراته على مستوى التاريخ الحديث والواقع؟ وكيف تؤثر نظرته المعادية للآخر والرافضة له في بعض تجلياته مع الاستعمار ومناهضة تحرّر الشعوب واستقلالها وسيادتها على العلاقة بين الثقافات والشعوب والحضارات. لا يهم كثيرًا الوقوف على الدلالات اللغوية والاصطلاحية لمفاهيم من قبيل التنوير والحداثة، كما لا يهم الدخول في توصيف أكاديمي للانتقالات المعرفية التي مرت منها نماذج الحداثة وإرادة التنوير. لقد انتبه النقاد جيدًا- عقب هزيمة يونيو/ حزيران مع الرعيل الثاني من رواد الفكر النهضوي العربي- إلى التراث كعامل ينبغي الاشتغال عليه، ما يؤدي إلى إلغائه؛ أو العكس تمامًا، حيث كان الانشغال بها من منطلق الرفض الكامل لها، وأن طريق التقدم في العودة للإسلام. وهذا فيه غربة عن العصر في واقع الأمر، ومن ثم تمنح البعد الحضاري الإسلامي إمكانية الاستئناف بما يقوم بعملية وصل خلاقة بين التراث الحضاري الإسلامي المشرق وقيمه، إذ إن التحولات الكبرى في مسار الحضارات والثقافات والشعوب، كان الوازع فيها أخلاقيًا، ومهما امتلكت الدول أدوات التقنية والتقدم، فإن التجرد من الوازع الأخلاقي يعد مؤشرًا لبداية الانحدار لقد كان الاستعمار للعالم الإسلامي أهمَ العوامل التي غذّت الرفض، وحجبت عملية النقد الواعية لمشروع الحداثة، ومن ثم شكّل القرن العشرون مقاومة مباشرة للاستعمار، فكانت الثقافة واحدة من أوجه المقاومة والرفض لكل ما يأتي من الضفة الأخرى، بما يعني أن الاستعمار يعد عائقًا من العوائق التي تمنع عملية التثقيف القائمة على الحوار المتبادل بين ثقافات الشعوب وخصوصياتها الحضارية. وبالمثل مثّلت الرؤية- التي تشكلت عقب إدخال العالم الغربي لسياقات الحداثة إلى العالم العربي والإسلامي- نظرة دونية وإقصائية، بدعوى الفصل بين العالم المتحضر وغير المتحضر، والحشد الجماعي بلغة قائمة على المفاصلة التامة، عند تأمل هذه النظرة من قبل الغرب، إذ يعتبر الاستعمار والرغبة في الهيمنة بأدوات العنف المميت أحد أكثر الأوجه بشاعة التي رافقت مشروع التقدم الحديث. تشكل عنفًا معنويًا ورفضًا للآخر وما يستبطنه، ثم تبدأ بالتحلل والانهيار، ومهما امتلكت الدول أدوات التقنية والتقدم، فإن التجرد من الوازع الأخلاقي يعد مؤشرًا لبداية الانحدار. يشكل باعثًا خلاقًا على الاستئناف النهضوي والحضاري، مستندًا إلى العودة إلى ذاته الحقيقية وهُويته مع التحلي بروح العصر. والسماح له بالتخلّق على أنقاض التصورات القديمة الحادة للغرب. قد كانت القدس وقضية فلسطين باستمرار ملهمة للوعي الحضاري العربي والإسلامي على مدى التاريخ باستئناف دورةِ الحضارة والإشراق من جديدٍ، لكن هذه المرة تحمل معها مرآة كاشفة لمأزق الحداثة والتنوير والتقدم المسنود بالقوة المتحللة من الأخلاق، مأزق التنوير والحداثة. السيادة المطلقة للعقل وضمور الحس الأخلاقي منذ القرن الـ17 حتى هذه اللحظة الراهنة، لكن في الوقت ذاته لم تكن هناك الرقابة والحماية الكافية التي تضمن عدم الوقوع في تطرّفات حادة، حملت معها مشكلات للمستقبل؛ هي ما تعيشه الإنسانية اليوم من آلام لا حصر لها. هذه الآلام ناتجة عن الوقوع في المحذور الأخلاقي، وعليه فليس هناك مشكلة في العقل، بل هو أعدل قسمة بين الناس، خاضعًا لها، من هذا المنطلق أصبح عاديًا الحروب وإبادة الإنسان والمجتمعات، مع القدرة على تبرير ذلك. وهذا كان منذ هجرة البيوريتان إلى أميركا وإبادة الهنود الحمر بها، التي تعد فلسطين آخر الظواهر الاستعمارية المعمرة والتجليات البارزة منذ تلك الحقبة. وهما معًا يمكن عدهما تعبيرًا أصيلًا عن أزمة ناجمة عن بشع في منظومة التنوير والحداثة، التي جعلت التقدم غايتها دون أن تضع له ضوابط وقيمًا أخلاقية، تجعل "الإنسان المكرّم" في صلب هذا التقدم. يجسد فيهما الاستعمار القوة الخشنة، يقابله رفض مستمر وممانعة للتطويع والخضوع بمختلف أشكال المقاومة. من ناحية أخرى، التي تأتي أحيانًا على ظهر دبابة، وأحيانًا أخرى من خلال وسائط ثقافية. الذي يسعى للاستئناف منذ ثلاثة قرون. والمشهد الحالي الذي نواجهه، وهو سياق انهيارات أخلاقية وفلسفية وقيمية كبرى،