يوثر العديد من الدّارسين في مقارباتهم النّقديّة للنّصوص السّرديّة إلى تبنّي مصطلح “الفضاء” بدل مصطلح المكان، انطلاقا من تصوّر مُفاده أنّ مفهوم الفضاء في الرّواية أوسع من مفهوم المكان وأشمل. إذ يمثّل الفضاء مجموع الأمكنة التي تسهم في تنامي الحركة الرّوائيّة، وفي ديناميّة مسار الحكي بأكمله سواء ما تمّ تصويره ونقله مباشرة أو ما تمّ تمثّله بطريقة ضمنيّة مع كلّ حركة حكائيّة. والذي يمكن إدراكه من دون شرط تتبّع المسار الزّمنيّ. إنّ الفضاء الرّوائيّ في حدّ ذاته لا يعدو أن يكون مجموعة من العلاقات المتواشجة الموجودة بين الأماكن والمحيط ومختلف عناصر الدّيكور التي تجري ضمنها أحداث النّصّ الإبداعيّ وما تقوم به الشّخصيات كالتّردّد على أماكن معيّنة أو عن طريق التّنقل والاسترجاع. أمّا المكان فهو جزئيّ لكنّه لا ينفصل عن بنية الفضاء. لذلك عمد المنظّرون الألمان في السّرديّات إلى التّمييز بين مفهومين متعارضين للمكان في الرواية؛ الذي تضبطه مجموعة من الإشارات الإجرائيّة كالمقاسات والأعداد. أما النّمط الثاني فهو ما أطلقوا عليه “الفضاء الدّلاليّ” الذي يتم إدراكه من خلال الأحداث والحالة النّفسيّة والعاطفيّة للشّخصيّات في الرّواية. إنّ الأمكنة والشّخصيّات في الرّواية، كما يذهب إلى ذلك ثلّة من النّقّاد السّرديّين ليست هي ذاتها الأمكنة القائمة في الواقع، وخاصّة عندما يوظّف الرّوائيّ أسماء مدن و شوارع، ممّا يجعل تواتر الأمكنة في الرّواية يخلق فضاء شبيها بالفضاء الواقعيّ، وهذا يعمل على إدماج الحكي في نطاق المُحتمل والممكن. ولعلّ الأعمال الرّوائية التّأسيسيّة لنجيب محفوظ أوضح مثال على هذا التّداخل بين الواقعيّ والمتخيّل في درجاته القصوى. إلا أنّ هذا الإيهام لا ينفي اعتبار الفضاء مكوّنا حكائيّا هامّا من مكوّنات البناء الرّوائيّ مثله مثل العناصر الأخرى (الأحداث، سواء في الواقع أو من خلال وسائط وإرشادات كما في العرض المسرحيّ والسّينمائيّ. فإنّه لا يتأتّى إلاّ من خلال الألفاظ والكلمات المطبوعة في الكتاب، . عموما إذا كان عالم الأشياء في “الواقع” هو عالم الصّور الملموسة، فإنّ نقل تلك الصّور أو بعضها إلى عمل إبداعيّ سيجعلها شيئا مغايرا تماما عن الأصل. أو على الأقلّ إضافة شيء أو تعديل إلى/في ما هو موجود في الواقع بالفعل. والرّواية في أدنى مستوياتها فنّ ـ مثل الفنون الأخرى أي أنّها شكل من أشكال الإبداع والتّخييل. بل هو إنتاج وابتكار في الوقت نفسه. فقد تستعير الرّواية من الحياة لكنّها تحوّل ما تستعيره إلى شيء مغاير عن صورته ووجوده الأصليّين. ومن خلال وعي فردي ّ(أو جماعيّ) يخصّه دون غيره. وصياغة أسلوبيّة يتميّز به عمّا سواه. فكلّ عمل هو نتاج أصيل وميلاد أنطولوجي مغاير في عالم الخطاب. والأهمّ في كل ذلك أنّ الرّوائيّ إذا ما نقل شيئا عن الواقع والوجود الخارجيّ، فإنه ينقله بوساطة رمزية ألا وهي اللّغة ولا يتاح للكلمة في أيّ حال أن تكون بديلا عن الواقع، ومن ثمة سيحرص القارئ على تمثّل الفضاء الرّوائيّ المتخيّل تمثّلا ذهنيّا، ومن خلال ما يوفّره له هذا الأخير من معلومات فحسب، للتأكّد من أسماء الشّوارع والأحياء، كما أنه ليس بحاجة للتأكّد من هويّة الشّخصيّة في الرّواية، سواء وُجد من يشبه تلك الشّخصية أم لم يوجد. ولهذا تظل الرواية بكل أبنيتها ومستوياتها الخطابية إبداعا وتخييلا، لا يمكن إسقاطها على العالم الواقعيّ. وهكذا لكي نتمثّل بعض خصوصيّات الفضاء المتخيّل وحدود علاقته بالعالم الخارجيّ الذي يسعى الكاتب إلى نقله وترجمته، سنعمد إلى مقاربته في رواية “فرانكشتاين في بغداد”، 2- تخييليّة الأماكن المغلقة: يمثل المكان المغلق “غالبا الحيّز الذي يحوي حدودا مكانيّة تعزله عن العالم الخارجيّ، ويكون محيطه ضيّقا بكثير بالنّسبة إلى ا المكان المفتوح، فقد تكون الأماكن الضّيّقة مرفوضة لأنّها صعبة الولوج، وقد تكون مطلوبة لأنّها تحتلّ الملجأ أو الحماية التي يأوي إليها الإنسان”[1]. وقد تضمنت رواية أحمد سعداوي عدّة أماكن مُتخيّلة أسبغت طابع التّخييل على النّصّ الرّوائيّ أوّلا وعلى الأحداث ثانيا. 2- 1- الخرابة اليهوديّة : فهي متصدّعة ومهدّمة. فأغلب ما فيه مهدّم، وليس هناك سوى غرفة في العمق ذات سقف متصدّع حوّلها هادي العتّاك مع زميل له اسمه ناهم عبدكي قبل ثلاث سنوات تقريبا إلى مقرّ لهما”[3]. ويضيف قائلا: “بعد الاحتلال وشيوع الفوضى، شاهد الجميع كيف عمل هادي وناهم على إعادة ترميم “الخرابة اليهوديّة” كما كانت تسمّى، لا شمعدانات ولا نجمات سداسيّة و لا حروف عبريّة”[4]. حرص هادي على ترميم الغرفة لتصبح صالحة للسكن:” أعاد هادي بناء السّياج الخارجيّ للبيت من ذات المواد الموجودة، أزاح الأحجار عن الحوش ورمم الغرفة السّليمة الوحيدة وترك الجدران النصفيّة و السّقوف المتهاوية الباقية للغرفة على حالها…”[5]. لكي يجمعها في بيته ويخيطها فيما بعد “دخل إلى سقيفة خشبيّة صنعها من بقايا الأثاث والقضبان الحديديّة والكناتير المخلعة (…) قرفص هادي عند طرف منها. كانت المساحة المتبقّية مشغولة بشكل كامل بجثة عظيمة، بقع صغيرة من دم يابس على الذراعين والسّاقين، (…) تقدم هادي أكثر داخل الحيز الضيق حول الجثة، كان موضع الأنف مشوّها (…) فتح هادي الكيس الجنفاصيّ المطويّ عدّة طيّات، آه. كان المكان الذي يعيش فيه هادي مخيفا ومرعبا، وعناصر هذا القياس ـ كما يبدو لنا ـ تتمثل في: المقدّمة الكبرى): باتت أعضاء الضحايا متلاشية ومهملة في الشّوارع العراقيّة. المقدّمة الصّغرى): العتاك يجمع كلّ المهملات والمتلاشيات من الأغراض والأعضاء البشريّة. الاستنتاج): الأعضاء البشريّة المتلاشية = الأغراض المهملة. وهكذا فبعد أن كانت غرفة هادي العتاك قبل أن يرممها و يقطن بها مجرّد خرابة متصدّعة مهدّمة، ستعود إلى هذه الحال مرة أخرى لتكون نهايتها دائريّة؛ وقد نُقل على إثره العديد من السّكّان إلى المستشفى لإصابتهم بجروح بليغة وتهدّمت العديد من منازل أهل الحيّ ومنها غرفة هادي العتاك. إنّ هذه النّهاية المأساويّة التي آل إليها “حيّ البتاويين” تقوم في تشكيلها التّصويريّ على (الاستراتيجيّة التّلميحيّة) التي تُعدّ من الاستراتيجيّات الإقناعيّة التي يعمد إليها المتكلّم إيمانا منه بأن العناصر الإيحائيّة/المجازيّة تسعف ـ بل وأكثر من اللّغة العادية ـ في اطّلاع المتلقّي على وجهة نظر محدّدة، عبر الانفجار الذي رجّ حي البتاويين، 2-2- دائرة المتابعة والتّعقيب: وهي عبارة عن وحدة معلومات خاصّة مرتبطة جزئيّا بالإدارة المدنيّة لقوات الائتلاف الدّوليّ في العراق تتمثّل مهمّتها في متابعة كلّ الجرائم التي تحصل في العراق ومتابعة الأساطير والخرافات التي تنشأ حول حوادث معيّنة من أجل الوصول إلى أحداث القصّة الواقعيّة. لقد قام مديرها بتوظيف العديد من المنجّمين وقارئي الطّالع والسّحرة والمشعوذين من أجل توقّع التّفجيرات قبل وقوعها والقبض على المجرمين، وقدّموا خدمة كبيرة بهذا المجال خلال السّنتين الماضيتين، وهم يقومون بذلك كلّه من خلف غطاء. ولا تتمّ الإشارة أبدا إلى دائرة المتابعة والتّعقيب حفاظا على سرّيتها وأمن العاملين فيها”[11]. نلمس في الجانب الحكومي خيالا فانتازيّا ساخرا. وتحديد مكان القاتل والمجرم؛ صراع يدور بين المنجّم الأكبر والمنجّم الأصغر، وفتح تحقيقا في الموضوع. وتبيّن له أنّ الانتحاريّ سائق سيّارة الأوبل البيضاء كان ينوي في الأصل التّوجه إلى كلّية الشّرطة لتفجير نفسه داخل حشد من الضّبّاط الجدد، وأنّ هناك ما غيّر تفكيره وقراره وجعله يدلف إلى أزقة البتاويين. ساد هرج وتبادل اتّهامات بين المنجّمين (…) لا يوجد احترام كاف للعميد سرور مدير الدّائرة وتجاهلوا وجوده وهم يتبادلون الشّتائم (والاتّهامات) “[12]. وممّا يؤكّد ذلك قول السّارد “عند منتصف اللّيل انتهت عمليّة البحث والتّطويق،