على أن الحديث عن الشعرية بمنطلق النقد الحديث لا يحتاج إلى مقدمة، ويمتد حضوره الباهر إلى جوف الغياب، وما زال "درويش" يتجذر بعمق أكثر فى الوجدان العربى بأكلمه، فيكتسب يقين الخلود وهو يتراءى كالطيف الشفيف فى أجواء العواصم التى طالما شهدت مواسمه وأنداءه. على أن "درويش" يظل حالة شعرية متفردة، حيث تظل حداثته التعبيرية المتميزة كامنة فى قدرته على صياغة اللفتات التعبيرية الخاصة والإسنادات المجازية الخارقة، والقادرة على تخليق حالة التوتر وقلق المعنى مع بلورة الرؤية، كما تتمثل فى استثارة لحظات الوجد وحالات التأمل واستحضار المشاهد البصرية المثرية للمتخيل الشعرى والكفيلة بنقل حالة العدوى إلى المتلقى. وكل دواوين "درويش" تقدم لنا عشرات النماذج الناجحة لهذه التقنية الأسلوبية الخاصة، أحدهما من آخر أعماله قبل النثرية فى ديوان "كزهر اللوز أو بعد"، وقاوم الحس المأساوى الناجح بالحياة والشعور الطاغى بحضرة الغياب والموت، ليتحول إلى تشعير لحظات الحياة مع ارتفاع نبرة الجذل والفرحة المضادة لما يبدو على سطح الواقع العربى الراهن، ولا تُرى إحدى صفات الغيب تلك / ترى ولكن لا تُرى) فلا أحد يرى أثر الكمنجة فيك لا أحد يحملق فى حضورك أو غيابك أو يدقق فى ضبابك كم أنت حر فى إدارة شأنك الشخصى / ليس لاسمك أو لوجهك هاهنا عمل ضرورى" وفى الثانى، والذى يقول فيه "أنا مدينة العلم وعلىُّ بابها"، ليتساءل قائلاً: لا ندرى إن كان "درويش" شاعرنا، إذ يكتب فى قصيدته "مديح الظل العالى" وهى تستحضر فى عنوانها المدائح النبوية والباب العالى العثمانى معاً، قائلاً: وأسال هل أصير هكذا أسطرته المخيلة الإسلامية فى المشرق والمغرب، وبدلاً من أن يصبح مدينة العلم يطمح شاعرنا لاحتواء كل الشعر فى جوفه، يريد أن أن يصبح مكانًا لجميع الشعراء، ويؤكد "فضل" على أن "درويش" هو شاعر القضية الأخطر فى التاريخ العربى، هو غياب الموضوع وعدم التحديد وتشتيت الدلالة، دون الإمساك بالمعنى متلبسًا بالعبارة، لعلك تسأم منى "إلى حارس آخر": سـأعلمك الانتظار على باب مقهى قد تعرف القشعريرة مثلي فارسى المدار وتتمثل الحداثة هنا فى مجموعة من اللفتات التعبيرية والإسنادات المجازية، مثل الانتظار على باب الموت المؤجل،