قرأت في بعض الصحف منذ أيام أن رجال الشرطة عثروا على جثة امرأةٍ في جبل المقطم، حتى حضر الطبيب ففحص أمرها وقرر أنها ماتت جوعًا. وهذا أول يومٍ سجلت فيه يد الدهر في جريدة مصائبنا ورزايانا هذا الشقاء الجديد.لم تمت هذه المسكينة في مفازةٍ منقطعةٍ أو بيداء مجهلٍ فنفزع في أمرها إلى قضاء الله وقدره كما نفعل في جميع حوادث الكون التي لا حول لنا فيها ولا حيلة، وفي ملتقى غاديهم برائحهم، ولا بد أنها مرت قبل موتها بكثيرٍ من المنازل تطرقها فلم تسمع مجيبًا، ووقفت في طريق كثيرٍ من الناس تسألهم المعونة على أمرها فلم تجد من يمد إليها يده بلقمة تسد بها جوعتها، فما أقسى قلب الإنسان، وما أقدره على الوقوف موقف الثبات والصبر أمام مشاهد البؤس ومواقف الشقاء!لم ذهبت هذه البائسة المسكينة إلى جبل المقطم في ساعتها الأخيرة؟ لعلها ظنت أن الصخر ألين قلبًا من الإنسان فذهبت إليه تبثه شكواها، أو أنَّ الوحش أقرب منه رحمة فجاءته تستجديه فضلة طعامه، وأحسب لو أنَّ الصخر فهم شكواها لأشكاها، ولو أنَّ الوحش ألم بسريرة نفسها لرثى لها وحنا عليها؛ لأني لا أعرف مخلوقًا على وجه الأرض يستطيع أن يملك نفسه ودموعه أمام مشهد الجوع وعذابه غير الإنسان. وذبول جسمها، فيعلم أنها جائعة فيرحمها؟!ألم يكن لها جار يسمع أنينها في جوف الليل، فلا يوجد بين أفراد الأمة جميعها من أصحاب قصورها إلى سكان أكواخها رجل واحد يملك رغيفًا واحدًا زائدًا عن حاجته فيتصدَّق به عليها؟اللهم لا هذا ولا ذاك، فالمال والحمد لله كثير، والخبز أكثر منه، ومواضع الخَلَّات والحاجات بادية مكشوفة يراها الراءون ويسمع صداها السامعون، ولكن الأمة التي ألفت ألا تبذل معروفها إلا في مواقف المفاخرة والمكاثرة، والتي لا تفهم من معنى الإحسان إلا أنه الغُلُّ الثقيل الذي يوضع في رقاب الفقراء لاستعبادهم واسترقاقهم، لا يمكن أن ينشأ فيها محسن مخلص يحمل بين جنبيه قلبًا رحيمًا.لقد كان الإحسان في مصر كثيرًا في عصر الاكتتابات والحفلات، وفي العهد الذي كانت تسجل فيه حسنات المحسنين على صفحات الجرائد تسجيلًا يشهده ثلاثة عشر مليونًا من النفوس، أما اليوم وقد أصبح كل امرئ موكولًا إلى نفسه، ومسئولًا أمام ربه وضميره أن يتفقد جيرته وأصدقاءه وذوي رحمه، فها هم أولاء الفقراء يموتون جوعًا بين كثبان الرمال وفوق شعاف الجبال من حيث لا راحم ولا معين. أو درهمًا تبتاع به رغيفًا،