وكانت تلك الأيام الطوال الثقال التي قضاها صاحبنا في القاهرة مروَّعًا ملتاعًا بعد أن حالت خطوب الحرب بينه وبين ما كان يريد؛ فقد أسلمته هذه الصدمة القاسية إلى همٍّ متصل ذاد عنه النوم، فلم يكن يذوقه إلا حين يسفر الصبح ويستيقظ الطير، وانتهى به العناء إلى أقصاه، بعد ليل مُسهَّد وفكر مُشرَّد ونفس قلقة عرفت كيف تَنسلُّ من ماضيها الثقيل، في تلك الأيام كان الفتى فارغ النفس والقلب، يصبح فلا يجد أمامه عملًا ينفق فيه بياض النهار، فلا يحس من التعب والجهد ما يغريه بالنوم أو يغري به النوم. يرى نفسه بعد أن جاوز العشرين لا يزال عِيالًا على أبيه الذي أثقلته نفقة البنين، وعلى أخيه الذي جعل يعمل في الجمعية الخيرية الإسلامية منتظرًا ذلك المنصب الذي جدَّ وكدَّ في سبيله، وزاده درسه لأبي العلاء بغضًا لنفسه، ورأى نفسه ذات يوم وقد انتهى به التشاؤم والضيق إلى حيث ندم على ما فرَّط في جنب الأزهر وشيوخه حتى حيل بينه وبين درجة العالمية تلك التي كان يسخر منها أشدَّ السخر، بعد أن صرفت عنه فلم يحاول أن يستأنف السعي إليها. ولما أثقلت بهذه الحياة البغيضة على قوم من حقهم أن توضع عنهم الأثقال، والغريب أنه كان يخترع لنفسه هذه الحياة المُرَّة البغيضة اختراعًا، فهو لم يشعر من أبيه ولا من أخيه ببعض ما كان يجد في نفسه من الحزن والضيق واليأس. وإنما جرت الصلة بينه وبين أسرته مطَّردة كما كانت تجري من قبل لم يتغير فيها شيء، ولم يَنْبُ به مكانه في بيته ذاك ولا مكانه في القاهرة بين صديقه، وإنما هو الذي كان يضيق باطراد الصلة وامتداد حياته على هذا النحو بدون أن يتغير قليلًا أو كثيرًا. فيمَ إذن كدَّ وشقيَ وتكلَّف من الدرس والامتحان، وظفر بما ظفر به من النجح؟ وفيمَ كثر الحديث عنه والاحتفاء به؟ وفيم كانت هذه الأحلام الحلوة والآمال العِراض؟ أكان هذا وسيلة إلى هذه الحياة الفارغة التي يحياها، وإلى أن يصبح آخر الأمر كَلًّا على أسرته أينما توجِّهْه لا يأتِ بخير؟ وهو على ذلك لا يُظهر لأحد شيئًا من ضيقه وتبرُّمه ويأسه، ثم يخطر له ذات يوم خاطر يُخرِجه من الملل واليأس، ويدفعه لا إلى الأمل بل إلى محاولة الأمل. وهو لا يريد من الجامعة أجرًا، فما ينبغي أن يكون عِيالًا عليها، وأن وجوده في هذه الدنيا ليس عبثًا ولا لغوًا، صاحب العطوفة رئيس الجامعة المصرية كانت هذه الحرب الحاضرة مؤخِّرًا لي عن السفر إلى باريس والالتحاق بطلبة إرسالية الجامعة، وأنا مضطرٌّ إلى أن أبقى بمصر ريثما تنتهي هذه الحرب، فقد أردت أن أمضي هذه السنة في تدريس تاريخ الآداب العربية في الجامعة بغير أجر. وأبعث في الآداب وتاريخها شيئًا من الحياة غير قليل، وله الشكر والجميل. وكلف علوي باشا رحمه الله شيئين: أحدهما؛ وأخذ علوي باشا يساوم الفتى في هذه المكافأة، فعرض عليه أول ما عرض أن تكون مكافأته بمقدار ما يكون من إقبال الطلاب على درسه، وأن تفرض الجامعة على الذين يختلفون إلى هذا الدرس رسمًا يسيرًا، ولكن صاحبنا اعتذر من قبول هذا العرض؛ لأنه يجعله مدينًا لطلابه دَينًا مباشرًا بما يرزق من مرتب آخر الشهر. قال علوي باشا: وإذن فستعطيك الجامعة مكافأة قدرها خمسة جنيهات في كل شهر، وهي أكثر مما كان الأزهر يعطيك لو جلست فيه مجلس الأستاذ. واستخذَى الفتى من هذا الحديث كله فلم يرجع على علوي باشا جوابًا، راضيًا مع ذلك شيئًا من رضا، وليس بقليل أن يقال عنه: إنه أستاذ في الجامعة. ولكنه لم ينسَ البعثة إلى باريس، ولم ينسَ الحرب التي تحول بينه وبين باريس. وإنه لغارق في الأدب الأندلسي يقرؤه مع صديقه ذاك الذي قرأ معه أبا العلاء، ويقرؤه مع خادمه كلما غاب عنه صديقه ذاك، وإذا الجامعة تدعوه فيذهب إليها عَجِلًا وَجِلًا ذات ضحى، وهناك يلقَى علوي باشا رحمه الله فيستقبله باسمًا له رفيقًا به، فقد انجلتِ الغمرة بعض الانجلاء، وانهزم الألمان أمام باريس، ومنذ ذلك اليوم أقبل الفتى على تهيئة نفسه للسفر مستأنفًا حياته تلك التي كانت تملؤها الأحلام العِذاب، ويحيا معه في فرنسا، ليتمَّ درسه هناك، ويعين أخاه على الحياة الشاقة في تلك البلاد الغريبة النائية. وقد أبت الجامعة أن تحتمل من نفقة هذا الأخ قليلًا أو كثيرًا، وعلى غير نظام مطرد. وفي الرابع عشر من شهر نوفمبر أبحر الفتى من الإسكندرية، كان قد ظفر بالشهادة الثانوية، وعمل في ديوان من دواوين الحكومة، ولكنه كان يحسِن التدبير والاقتصاد، ويسافر إلى باريس في كل عام لأداء الامتحان. حتى إذا أتمَّ الدرسَ طمع في أكثر من الدرجة التي ظفر بها، واتصل بعلوي باشا فقصَّ عليه قصته، وتأثر الباشا بهذه القصة، وقدر أن هذا الفتى يجب أن يكون حريصًا على العلم محبًّا له مشغوفًا به، لم يحفل بتقدم سنه، وكان قد تخرج في دار العلوم، وأُرسل إلى فرنسا للتخصص في الأدب العربي، فأقام فيها سنين متصلة، فيه كثير من جهد، وكان اسمها «أصبهان»؛ وكانت تؤثر المهل على العجل، وتفضِّل الأناة على السرعة، وتخفف من عمامته، مضطربة بعد ذلك أشد الاضطراب. ولا في أول المغامرة ولا آخرها، وإنما شغل بزيِّه الجديد ساعة وبعض ساعة، فلم يفرغ منه إلا حين أتمت السفينة رحلتها وانتهت به إلى مارسيليا ذات مساء بعد ثمانية أيام طوال حافلة بالفزع والرَّوع والضيق. ••• وقد لزم الفتى غرفته تلك منذ دخل السفينة إلى أن خرج منها، ولم يذهب إلى غرفة المائدة، ولا يستطيع أن يأكل أمام المسافرين من الأوروبيين بيديه كلتيهما أو إحداهما، وكان الرفاق قد وكلوا به خادمًا من خدم السفينة يحمل إليه غداءه وعشاءه، وقد أُعِدَّا إعدادًا حسنًا؛ فكان الخادم يحمل إليه الطعام في موعده، ويغلق باب الغرفة من دونه، وصوَّت بعض النساء، وعرف المسافرون أن عطبًا قد أصاب محرِّك السفينة، وبينما كان السَّفْر في ذعرهم وروعهم، كان الرفيق الدرعميُّ مقبلًا على ذقنه يعمل فيها الموسى، فحلقت ذقني، واتخذت زينتي لأغرق كريمًا لا يضحك الناس مني. ثم اندفع في ضحكٍ يائسٍ وأخذ يتغنى في شعر البردة كما يتغنى فيه بعض أصحاب الطرق: وإنه لفي هذا العبث، وكأنها هي قد ثابت إليه. وتبلغ مارسيليا مساء ذلك اليوم، ولا يعرف كيف يلقاها، ولا كيف ينفذ من مشكلاتها. ويبلغ الرفاق مدينة مونبلييه التي أمرتهم الجامعة أن يطلبوا العلم فيها عامهم ذاك، ولا يذهبوا إلى باريس حتى يؤذن لهم في الذهاب إليها،