عرفت بعض الحضارات القديمة نظماً سياسية سبقت النظام الذي ساد بلاد اليونان في الفترة التي عاصرت الفكر السياسي اليوناني. والفترة التي مهدت لظهوره كانت وفق اتجاهات وخطوات رئيسة ثلاث: الأولى تمثلت في الملكيات أو الإمبراطوريات التي كان يسودها الحكم المطلق في الشرق الأدنى. ولكننا لا نستطيع أن نتلمس معالم فكر سياسي بالمعنى الدقيق في تلك البلاد بالمعنى الذي نفهمه اليوم، فعلاقة الحاكم بالمحكوم لم تكن قد وصلت بعد إلى الوضع الدقيق الذي يضعها على شريط ضيق يفصل بين ما لكل منها من حقوق وما عليه من واجبات. فالدولة الأرضية كانت تضم "فئات كبيرة من الناس لا تساهم في الحكم. فلم يكن للعبيد والأطفال، وربما النساء، أي صوت في مجلس الشعب، حيث لا يجمع إلا الأحرار البالغين للنظر في شؤون الأمة، وهؤلاء هم المواطنون بالمعنى الحقيقي" 1 لقد كانت هناك سلطة ولكن لم تكن هناك السياسة التي تتولى تدبير شؤون هذه السلطة لتجعل منها حقاً مشاعاً بين الدولة والفرد. وفي هذا المجال نجد نصوصاً ونقوشاً سجلت أعمال الملوك ومنجزاتهم في هذه الملكيات والإمبراطوريات الشرقية تتسم بالسطوة الكاملة من جانب هؤلاء الملوك سواء في تصرفاتهم الداخلية أو الخارجية. ونحن نعرف مجمع الآلهة في أدب ما بين النهرين حيث كانت "السلطة العليا في الكون، فيه تتخذ القرارات الخطيرة بشأن مصائر البشر وكل ما في الحياة. ولكن قبل اتخاذ القرار كانت المقترحات تبحث وتناقش، ولعلها تناقش أحياناً بعنف بين المؤيدين أو المعارضين من الآلهة" 2 هذه السطوة تستمد مشروعيتها ونقطة انطلاقها من حق الهي واضح فالملك إما يعد نفسه ابناً للإله أو ظلاً له على الأرض أو هو على أقل تقدير يحظى بوضع خاص لدى الإله، وهو على أي من هذه الأحوال يدين بسلطته لهذا الإله ومن ثم ليس للشعب أن يحاسبه على شيء وفي الواقع ليس للشعب إلا أن ينحني أمام هذه السلطة الإلهية أو هذا الحق الإلهي المقدس دون مناقشة. هذه الحالة نجدها عند الإله البابلي آنو "مصدر كل سلطة ومبدؤها الفعال، في كلا المجتمعين البشري والكوني. إنه الطاقة التي تنقذ المجتمع من الفوضى وتجعل منه كلاً منظم التركيب. وهو الطاقة التي تضمن طاقة الناس التلقائية للأفراد والقوانين والعادات في المجتمع، وطاعتهم السنن الطبيعية في العالم المادي" 3 على أن ظروف الاستقرار التي سادت ملكيات وامبراطوريات الشرق القديم إذا كانت قد أدت إلى تضخم سلطة الدولة ممثلة في صورة الحاكم الذي يريد الطاعة المطلقة من الفرد، ولكن إذا دخلنا صلب العلاقات الاجتماعية سواء على مستوى علاقات الأفراد بين بعضهم أو على مستوى علاقات الأفراد بالدولة يمكن أن نقول إنه كانت توجد حريات ولكن هذه الحرية كانت حرية فردية أكثر منها حرية جماعية تمارس في وضوح تلك الدولة. الأمر الذي أخرج تسيير ما يمكن أن نسميه الشؤون العامة لهذه التجمعات من حيز الوعي السياسي الجماعي الذي يحدد علاقة الحاكم بالمحكوم إلى مجال يسوده التفوق الشخصي أو الفردي أكثر مما تسوده السياسة التي تنسجم معها الحاجة الاجتماعية للتنظيم. وهنا أيضاً سنجد فكرة السلطة ولكنها كغيرها من أنظمة الحكم الأخرى ستكون من جانب واحد، وان اختلفت هذه المرة فكانت من جانب الفرد.