أذكر حينما قرأت رواية ساق البامبو لسعود السنعوسي، أني قلت في نفسي لن أقرأ بعدها ما هو أجمل و أكثر ملامسة لقلبي منها، فضربت أوتارًا حساسة في دواخلي وهزتني بعمق، لأعود و أقول ها هي ذي الرواية الأفضل، بفكرة عبقرية ولغة خلابة، يرغمك صدقها على الذوبان أمامها محبةً لقلم الكاتب الفذ، وعدت وقلت مجددًا محال أن أقرأ أبدع منها، بلغتها الفريدة المتمكنة التي أعادنا الكاتب من خلالها لزمن البلاغة والفصاحة، و للعصور الذهبية للغة العربية، فمن أول كلمة ينجح في فصلك عن زمنك، ويجعلك تغرق في ثنايا حكاية، ما أترك دياري لديرة صالحة" فتضحي موسيقى في روحك ترددها بنغمك الخاص، بنَفَسك الشعري الخاص، بإيمان واستسلام عميقين. وبعد العلم. ففصل قبل العلم هو التمهيد أو الأحداث التي يجب معرفتها، قبل الشروع في الحكاية الأساسية، و تداعيات ما حصل قبل 40 عامًا، على لسان إحدى الشخصيات الرئيسة وهو "دخيل بن أسمر"، أما فصل العلم فهو قلب الرواية ومحورها الأساسي تحكيه لنا "صالحة بنت أبوها"، وعقليّته الجبارة، بلغة ولا أرقى، وتعابير صادقة فيها نفَس شعري لا يقاوم: ضاع في الصحراء وأبي لا يضيع أبدًا، ولكن لا نجوم في القبور). وفيها أحجية كعادة السنعوسي، ويحللها على هواه، أما ما هي الحقيقة؟ فالعلم عند الله. لكنها نابضة بالحياة لدرجة تجعلك تصدق أنها واقعية، من المرجع الوهمي، تقطع الصحراء مشيًا باتجاه الشرق، وهي تحمل ابنها على ظهرها وقد أضناهما العطش، فاستلهم منها روايته، بعد أن أضاف إليها ناقة بيضاء مع حوارها، عقب انتشار قصيدة له يتغزل فيها بـ"صالحة" ويهجو عمها شيخ القبيلة، رغم أنه ليس من نَظَمها، لكن وبحكم العادات والأعراف وبأمرٍ من عمها، وفي ليلة زفافهما يدخل الشك إلى قلب "صالح" أن "دخيل" هو من اعتدى على "صالحة"، وهي وحدها من تعرف من هو والده الحقيقي. رغم وجود الابن الأصغر "فالح"، الذي نفهم أنه هو أيضًا يعشق "صالحة" وكان يريدها لنفسه، وربما يريد التخلص منه. تقوم معركة (الصريف) بين آل الرشيد وحلفائهم العثمانيين، وأمير الكويت وحلفائه، الذي عرف أن الرصاصات التي أصابت "صالح" إنكليزية الصنع، الذين اتهمهم "فالح" بقتل أخيه. يعود "فالح" إلى "صالحة" ومعه بندقيته وبندقية أخيه الانكليزيتان، ليخبرها أن أخيه قد مات، فتتجه "صالحة" إلى الكويت، إلى دخيل بن أسمر، صحبة ابنها، وناقتها "وضحى" وحوارها، وعند مشارف الكويت تركل الناقة "وضحى" ولد "صالحة" خطأً فيموت، فتقوم "صالحة" بذبح حوار الناقة أمامها انتقامًا منها، فتغافلها الناقة الثكلى وتبرك عليها وتقتلها، ليجد محبوبته وابنها مقتولين، ويعود إلى الكويت ليحفر قبرًا لصالحة حتى لا يضيع منه كما ضاع قبر أبيه، أن "دخيل بن أسمر" قد سجن في الكويت، بتهمة قتل "صالحة" وابنها بعد أن وجدا مذبوحين، فيقع القارئ في حيرة جديدة لا يعرف معها أين وما هي الحقيقة، بغام، ورغم ذلك فهناك سحر خاص في لغة النص، غير متأكد إن كنت تقرأ شعرًا أم نثرًا: لا زرع في الأرض، ولا مياه في الشعاب بعد، تأخرت هذا العام. كقوله في وصف حب دخيل لصالحة: أحببتها لأنها كثيرات في واحدة، صعبة سهلة، حرة فاتنة، ذكية غبية، أحببت وجهًا ما رأيت مثله قط ، يؤاخي بين ملامح النحيب دمعاً و تقطيبة حاجبين، أو عندما قال: وفي عذوبة صالحة) لم يغرس بها يأسًا في النفس، وهذا أمر جيد. ركب فرسه وغادر دونما غرس بذرة أمل، لأول مرة أقرأ ولا أنتبه من هو الراوي. و براعة لغة ما قرأت لها مثيلاً منذ زمن، وعواء ذئاب الليل، وحليب نوق بطعم الورد، ونقوش الحناء في كفوف بنات القبيلة، واسمي… اسمي الذي نذرت على نفسي أن أعانق من يذكره أمامي وإن بالخطأ، في مرقدي على صوت هدير البحر، طفوت ما بين حلم وعلم. شبّت النار تناهزني ارتفاعًا، استرسل صمت الذئاب، وسبحان من جعل في النار أمانًا وجحيمًا) عبارة عن كلمة واحدة. وبعدها تنتهي الرواية، هو من كتب القصيدة التي تسببت بطرد "دخيل بن أسمر" من دياره، و هو أعطى "صالح" خنجره لينتقم من "دخيل" ويتسبب له في جرح دائم في وجهه، وهو قاتل أخيه، وربما هو من أراد أن يجمع "صالحة" بدخيل في الكويت، هذا إن وصلت إليها.