مضى الليل إلا قليلًا والظلام مخيمٌ على الكون بأجمعه، وكوخ السماك «فيليب» جاثم في مجثمه بين الأكواخ المحيطة به، وغير مجمرة هامدة قد خبت نارها إلا بقايا جمراتٍ شاحبات قد التفت بأكفانها البيضاء، فإذا دار الواقف بنظره حوله رأى حشية مبسوطة على الأرض قد اضطجع فوقها ثلاثة أطفال متلاصقين آخذٌ بعضهم بأعناق بعض، وكما يضم الخوف الضلوع بعضها إلى بعض. وعلى مقربةٍ من فراشهم امرأةٌ صفراء شاحبةٌ جاثية على ركبتيها تصلي وتبتهل وتدعو الله تعالى بصوتٍ خافتٍ متهافت أن يرد لها زوجها سالمًا، وكان قد خرج كعادته لصيد السمك من البحر فلم يعد حتى الساعة. فظلت تردد بينها وبين نفسها: رب إني بائسة مسكينة، فاحفظ لي ولهم حياة ذلك الرجل المسكين الذي أسلم أمره إليك، وخرج في طلب الرزق من ساحتك ليعود به على هذه الأسرة الفقيرة المعدمة فلم يعد حتى الساعة، ولا ندري ما فعلت به يد الأقدار. تحاول التهام كل ما يدنو منها. فلم تغنِ عنهم شيئًا تلك الرقائق الخشبية المتلاصقة التي يسمونها زوارق، فهووا إلى ذلك القاع العميق ليصبحوا فيه طعامًا للأسماك التي كانوا يظنون منذ ساعة أنها ستصبح طعامًا لهم. فسكن بعض ما بها، وكان الظلام لم يزل حالكًا والمطر لم يزل منهلًا، أو شبح يتحرك، وأنها كابدت ليلة أمس من دائها عناءً عظيمًا، فدخلت رافعةً مصباحها أمامها فأنار لها ما حولها، وأمسك الدم عن جريانه في عروقها. ورأت مياه الأمطار تسيل من سقفه الواهي الأخرق فتبلل كل شيء فيه، فإذا هي ميتةٌ، ثم صاحت: هذه نهاية الفقراء على ظهر الأرض، ثم يخرجون منه متسللين متلاوذين لا يشعر بخروجهم حتى أهلوهم وذوو أرحامهم. ما يدريني ألا يكون مصيري ومصير أولادي غدًا هذا المصير الذي أراه الآن، وقد لا تدخل عليَّ في تلك الساعة جارةٌ من جاراتي تراني وترثي لحالي كما أرثي الآن لحال هؤلاء المساكين؟ ثم خلعت رداءها فأسبلته على جثة الميتة، كأن شبح الموت الهائم حول مضجعهما لا يخيفهما، ولا يزعج سكونهما. ورأت رداء أمهما — وكانت تعرفه قبل اليوم — مسبلًا عليهما، فتشفق عليهما، حتى ضاقت بها ساحة الصبر، ثم ألقت بنفسها على فراشها وأسلمت روحها. وقطرات الماء تنحدر من جبين الميتة إلى خديها الشاحبين كأنما هي تذرف دموع الحزن على فراق ولديها. فأطفأت «ماري» المصباح الذي بيدها ووضعته جانبًا، وأسبلت عليهم جميعًا رداء واحدًا. ثم جلست بجانبهم تقول بينها وبين نفسها: لا أدري أأصبت فيما فعلت أم أخطأت؟ وإنما أدري أنَّ المرأة التي أودع الله قلبها شعور الأمومة وإحساسها لا تستطيع أن ترى طفلين طريحين على فراشهما في كوخ عارٍ من كل شيء إلا من جثة أمهما، فتتركهما وشأنهما دون أن تعلم ما مصيرهما بعد ذلك. وإن عناءنا في تربية أربعة أطفال سيكون ضعف عنائنا في تربية طفلين، ولكن لا يجوز لنا — ضنًّا براحة أنفسنا — أن نترك طفلين صغيرين يموتان — على مرأى منا ومسمع — بردًا وجوعًا. فارتعدت، وظل فؤادها نهبًا مقسمًا في يد الهموم والأفكار حتى شعرت بسوادٍ يتقدم نحوها، وانتبهت فإذا زوجها داخل يحمل شبكته على ظهره والماء يقطر منها، وسألته كيف كان حظه الليلة، وماذا كان شأنه مع العاصفة؟ فألقى بشباكه وقصبه على الأرض وظل يقول لها: أما الليلة فكانت مزعجةً جدًّا لم أرَ في حياتي مثلها، وأما الصيد فها هي ذي يدي صفر منه كما ترين، قال: ما لي أراك شاحبةً صفراء؟ وكيف قضيت ليلتك؟ فأطرقت برأسها وقالت: قضيتها في خياطة قميصين للولدين، وكنت كلما سمعت صوت العاصفة وهدير الأمواج خفت عليك، ثم نظرت إليه وبين شفتيها كلمة تحاول أن تنطق بها فلا تستطيع، قال: وما هو؟ قالت: قد علمت الساعة قبل رجوعك بقليلٍ أنَّ جارتنا «جانت» قد لبت دعوة ربها، وهي تتبعه بنظراتها لتفحص صورة نفسه المرتسمة على وجهه، ثم جلس على المائدة القائمة في وسط الكوخ، إلا أنني معترف بوجود تلك الحكمة لا أنكرها، ولا بدَّ أن الذين يعلمون أكثر مما أعلم يفهمون من شئونك وتصرفاتك فوق ما أفهم! ولكن ماذا أصنع وقلبي يتألم لحال هذين اليتيمين الصغيرين أكثر مما يتألم من الجوع والسغب؟ ونكفلهما من بعدها، فصمت هنيهةً ثم انتفض انتفاضةً شديدةً ودنا منها وقال لها: ألم يمت لنا طفلان في العامين الماضيين يا ماري؟ قالت: بلى. قال: ماذا كنا نصنع لو أنهما بقيا حيين حتى اليوم؟ قالت: لا شيء سوى أننا نفزع إلى الله في أمرهما. قال: فلنفزع إلى الله في أمر هذين الطفلين اليتيمين، وكأن ولدينا لا يزالان حيين حتى اليوم، فربما استيقظا بعد هنيهةٍ من نومهما فرأيا منظر أمهما الميتة في فراشها فماتا خوفًا ورعبًا. وحرام عليَّ النبيذ واللحم بعد اليوم لأستطيع أن أقوم بنفقة هذه الأسرة الكبيرة التي أصبحت سيدها وعائلها، ونهضت من مكانها ومشت إلى مضجع الأطفال فرفعت عنهم الغطاء،