لم تكنْ أولَ مرةٍ بالنسبةِ لي، قلتُ لنفسي بتحدٍّ: لقد فعلتُها من قبلُ حينَ هرَبت أنا وهانيا مِن المدرسةِ الشهرَ الماضي، فلقد تَسلَّلنا أنا وهانيا بعدَ أن نزلتُ مِن سيارةِ أمي صباحًا عندَ ناصيةِ الشارعِ المؤدي إلى المدرسةِ. ولذلك فمنذُ بدايةِ هذا العامِ الدراسيِّ اتفقتُ مع ماما أنَّني سأنزلُ عندَ ناصيةِ الشارعِ، وأسيرُ «على الرصيفِ» حتى بابِ المدرسةِ التي تبعُد بِنايتَين. فمازال لديها توصيلُ التوأَمَين إلى مدرستِهِما قبلَ ذَهابها إلى العملِ. وتأخذني بعدَ المدرسة كلَّ يوم، كنتُ أعودُ سيرًا إلى بيتِ جَدتي القابعِ في آخرِ شارعِ المدرسةِ. ولذلكَ فيومُ الثلاثاءِ هو اليومُ المثاليُّ للقيامِ بمغامرةٍ! لأضعَ لَمَساتي الأخيرةَ؛ أريدُ أن أبدوَ متألقةً اليومَ! قلتُ في سرِّي وأنا ذاهبةٌ للبابِ: آه. تدفعُني إلى الجنونِ، نظرتْ إليَّ باستغرابٍ وقالتْ: ما هذا الذي تلبسينَه، أهكَذا تذهبينَ إلى المدرسة؟! وماذا حدثَ لشعرِكِ؟! أنتِ مازلتِ طفلةً!لِمَ تتصرفينَ وكأنَّكِ. فقلتُ مقاطعةً: أتصرَّفُ كيفَ؟ لا أفهم! ثم نظرتُ إليها وأنا أخرجُ من البابِ دونَ أن أقولَ شيئًا، فلا داعيَ مِن الكلام مع شخصٍ يُقرر ألا يفهمَكَ! أطبقَتْ ماما فمَها في غضبٍ ثم قالتْ للتوأمَين: هيا لا وقتَ لدينا لهذا في الصباحِ كانَ هذا هو روتينَ الصباحِ بالنسبة لنا، هي دائمًا مشغولةٌ وعصبيةٌ لا تهتمُّ سوى بالتوأمَين اللذَين يملآنِ تفكيرَها. ولذلكَ أبعدتُها عن حياتي لا تعرفُ عني الآنَ سوى أقلِّ القليلِ، أعرفُ أنه اسمٌ غريبٌ، فقد كان أبي شاعرًا وكاتبًا، ومنه أحببتُ القراءةَ والكتابةَ؛ لا أدري ما الذي أتى بهذه الذكرياتِ الساذَجةِ على رأسي؟! فقد تركتُ ذلك كلَّه منذُ زمنٍ، لم أعُدْ أكتبُ ولا أشتركُ في أيِّ نشاطٍ مدرسيٍّ بالرغمِ من إلحاحِ أستاذ محمد معلمِ اللغةِ العربيةِ، لا أحدَ يفهمُني، لا أريد أن يُشفِق أحدٌ عليَّ أو يتعاملَ معي كطفلةٍ صغيرةٍ. لكني مازلتُ أقرأُ سرًّا قصصًا من مكتبةِ أبي؛ انتبهتُ لصوتِ رسالةٍ على هاتفي، إنها هانيا تؤكِّد أنَّ والدَيها نزلا مِن البيتِ، «أراكِ بعدَ نصفِ ساعةٍ » ولكني لم أهتمَّ، وقفتُ بكلِّ ثقةٍ، وتمسكتُ بعمودٍ مَعدِني؛ كي لا أسقطَ، أخذتُ أتفحَّصُ وجوهَ الركابِ، هناكَ سيدةٌ غليظةُ الملامحِ تحمِلُ على رأسِها شنطةً كبيرةً لابدَّ أنَّها أُمنا الغولة وتحمِلُ على رأسِها أحدَ الأطفالِ الصغارِ، ضحكتُ في سري على هذه القصصِ التي ينسِجها عقلي! لم يكنْ كلُّ مَن في الحافلةِ غريبِي الأطوارِ طبعًا؛ أفقْتُ من أفكاري مع توقُّف الحافلةِ، حيث نزَل بعضُ الناسِ وصعِد آخرون، هل لأني أفتقدُ أبي بشدةٍ؟ أم لأني برغمِ ما أحاولُ إظهارَه من شجاعةٍ خائفةٌ؟ بدونِ ترددٍ قامَ الرجل من مقعدِه وقال لي وهو يضحَك: اجلسِي بسرعةٍ قبل أن يهجُم الشعبُ على الكرسيِّ الشاغرِ. جلستُ في المقعدِ، كي لا يسمعَه باقي الركابِ. لا أدري حقيقةَ شعوري بهذا الكلامِ، لم يقُلْ لي أحدٌ كلامًا رقيقًا منذُ مدةٍ بعيدةٍ، ففتحتُ حقيبتي بسرعةٍ أخرجتُ كتابي ودَسَسْتُ نفسِي داخلَهُ، وهو ما أفعلُه حينَ تأخذني دوامةُ المشاعرِ أهرُبُ منها في كتابي. لكنَّ الرجلَ المبتسمَ أَخْرَجني من دنيايَ: ما شاءَ اللهُ، هذا شيءٌ مُبهر. كم عمرُكِ؟ نظرَ إليَّ وابتسمَ ابتسامةً لم أفهَمْها وقال: بالعكسِ أنتِ تَبدينَ كآنسةٍ جميلةٍ. وابتسمتُ ثم قلتُ محاولةً إخفاءَ خجلي: أشكرُكَ على هذا الإطراءِ! فجأةً توقفتِ الحافلةُ ثانيةً أفاقُ الرجلُ الكبيرُ الجالسُ بجانبي قربَ الشباكِ، بَقِي يتحدَّث معي ويحكي لي، يتكلَّم بلطفٍ وكأنه يعرفني، وجدتُ نفسي أحكي له عني. سألني بسلاسةٍ: لم تسللتِ من المدرسة؟! تفاجأتُ جدًّا من سؤالِه وهمَمْت أدرأُ عن نفسي التهمةَ، لكنه عاجلني: لا تخافي؛ فقدْ كنتُ محترفَ تزويغٍ في أيامي ووَكَزَني في كَتِفي وهو يضحكُ. ضحكتُ وبدأتُ أحكي له بزهوٍ عن مغامراتي، وحَكَيتُ له كيف أني ذاهبةٌ لألتقِيَ بها وأين سأقابلُها. كنتُ مرتاحةً وسعيدةً وأنا أحكي له؛ بدأتُ أشعرُ بغرابةٍ وتوترٍ معَ تسارعِ أنفاسِه تلفَحُ وَجهي، تتسرَّبُ من فَمِه رائحةُ سجائرَ كريهةٌ أصابتني بغثيانٍ شديدٍ. ثم مدَّ ذِرَاعَهُ وأسندَه فوقَ مقعدي، فأصبحتُ بمعزلٍ عن عيونِ الناسِ داخلَ قفصٍ من جسدِه، بعدَها خذَتْ يَدُه الأخرى تزحَف من حجرِه إلى حجرِي حتـى استقــرَّت علـــى فَخِـــذي (تتحـركُ حركاتٍ غير واعيـة)، تجمدْتُ في مكـانـي وانقـلبــتْ كـلُّ مشاعرِ الراحةِ إلى فزعٍ وتوقَّفَ الكلامُ في حَلْقِي، كيفَ أُفْلِتُ منه. نظرتُ إليه فوجدتُ على وجهِه نفسَ الابتسامةِ التي جَذَبَتْني وطمأنَتْنِي، قمتُ وأنا أقولُ بصوتٍ عالٍ: لابدَّ أن أنزلَ الآنَ. دفعتُ جِسْمِي الصغيرَ من بينِه وهربتُ منه وَسْطَ الجموعِ، كلُّ ما أذكرُه أنني ظللتُ أجري حتى وصلتُ إلى شقتِها وطرقْتُ البابَ. لا أدرِي كيفَ نزلتُ مِنَ الحافلةِ أو كيفَ وصلتُ إلي بيتِ جَدَّتِي، كلُّ ما أذكرُه أنني ظللتُ أجري حتى وصلتُ إلى شقتِها وطرقْتُ البابَ. فتحَتْ جَدَّتي وبدا عليها الانزعاجُ الشديدُ عندَ رؤيتِي فقالتْ في لهفةٍ: حياة. ماذا بكِ يا ابنتِي ولماذا تَبْدِين منهكةً هكذا؟ فقط ارتميتُ في أحضانِها وبكيتُ، ولأولِ مرةٍ منذُ فترةٍ طويلةٍ أُطلِق شلالَ الدموعِ ينهمِرُ. بَقِيتُ في حضنِها أبكي حتى رحتُ في النومِ. في الحلمِ عدتُ إلى الحافلةِ ومررتُ بكلِّ مشاعرِ الفزعِ مِنْ جديدٍ، ذراعُه يمتدُّ حولي ورائحةُ السجائرِ تنطلِقُ مِن أنفاسِه بدأَ يقتربُ أكثرَ. فجذبَتْنِي إليها في حضنٍ عميقٍ فانهرتُ في البكاءِ وأخذتُ أقصُّ عليها ما حَدَث. لم أفكِّرْ وقتَها فيما سيكونُ ردُّ فعلِه ا، لم أصدِّقْ أذنيَّ، ماذا قالتْ؟! إنها آسفةٌ، لم أتوقَّعْ أبدًا هذا الردَّ، وأنا أيضًا أحتاجُ إليكِ. نسيتُ أنكِ صديقتي وأولُ فرحتِي. فجأةً ذابَ جبلُ الغضبِ بداخلي ووجدتُني أقولُ لها: أنا أيضًا أحتاجُ إليكِ يا أمي. ولكنِّي أحتاجُكِ أن تَرَيْني كما أنا، كما فعلتِ اليومَ، بلا أحكامٍ بلا حواجزَ. ثم قلتُ لها كلَّ المشاعرِ التي كنتُ أكتُمها بداخلي. لكنَّ المرارةَ كانت تملؤُني، أريدُ أن أثأرَ لنفسِي،