نسق الاستفحال: 2-1-لئن كان ظهور نازك الملائكة عام 1947 وكسرها لعمود الفحولة يمثل دلالة ثقافية عن فتاة يافعة تقتحم النسق الفحولي وتحطمه وتؤسس مع السياب حركة جديدة ومختلفة في ثقافتنا ولأول مرة، وهذا ما حدث فعلا، إذ كان ظهور نزار قباني في العام نفسه هو الجواب الرادع على حالة التمرد النسقي في مشروع الحداثة الغض وقت ذاك. ولكي نتصور الأمر لنعد إلى نزار قباني في أول ظهوره مع ديوانه طفولة نهد، ويضطرب على أصابعه الجحيم، وكيف يعتذر لهذا الإنسان الإله الذي تداعب أشواقه النجوك". هذا كلام يقوله نزار عام 1947، عام ظهور حركة الشعر الحر، وهي كلمة تتضمن قانون الفحولة التالي: هذه مقولات تتصدر مشروع نزار قباني الشعري، الذي سيجري وصفه في ثقافتنا على أنه مشروع تحرري وتنويري، مع شيء غير قليل من العمى الثقافي فينا وفي وعينا النقدي. وهي أنساق ثقافية متجذرة وظلت تمر من دون نقد حتى شكلت أساسا ثقافيا وذهنيا ظل يعاود الظهور ويزيف المشاريع الإبداعية، حتى ليبدو الرجعي عندنا تقدميا، ويتحول التقدمي إلى رجعي، وكل حالة خروج عن النسق يجري حرفها إلى المسار النسقي وإدخالها إلى بيت الطاعة بفضل جهود مغرية كشعر نزار قباني، بما يتحلى به من جمالية راقية ومن أناقة لغوية متفردة، غير أن تحت الجماليات عيوبا نسقية فاحشة وخطرة، والجميل يحمل المعنيين معا: الجمال، والشحم، وبما أن نزار فحل يرث أسلافه من الفحول فإنه سيضع نفسه في الموضع المتعالي، وأنه يحمل بين رئتيه قلب الله، وأن على الناقد أن يقف موقف المتعبد أمام مبدعات الفحل الأسطوري. وها هو ينصب نفسه مانحا عبيده القراء والقارئات لجنات هي جناته ولنيران هي نيرانه، إني خيرتك فاختاري ثم يتصاعد به الموقف إلى لحظة التوحد التام مع الذات عابدة/معبودة: مارست ألف عبادة وعبـادة فوجدت أفضلها عبادة ذاتي هذه ليست مجرد مبالغات شعرية، وعلى أن أعذب الشعر أكذبه. هذه الذنوب لا يغفرها نزار لنفسه بل إن الثقافة ذاتها اتخذت لنفسها قاعدة متعالية بتجاوز أخطاء الفحول وغفرانها لهم، فهم الذين يجوز لهم ما لا يجوز لغيرهم، وهم الذين يصورون الحق بصورة الباطل، والباطل بصورة الحق. وهذا قانون فحولي/سلطوي قديم ومتجذر، وهو ما يسمح لهذه الأخطاء بأن تتسرب إلى وجداننا من غير رقيب ولا نقد، ومن ثم تصبح نماذج تحتذى كأساس للسلوك الاجتماعي والسلطوي، ذاك ما يبرر التنمذج النسقي ويعزز مفهوم التسلط والتعالي الفردي ويدفع إلى طغيان الذات المفردة، والأنا المتوحدة، وهي قيم خلقها وعززها النموذج الفحولي الشعري، وصارت قاعدة مسلكين لكل نماذج التسلط والفردية الاجتماعية والسياسية، ولم يكن الأمر مقتصرا على الشعر وجمالياته، كما وضحنا في مبحث (صناعة الطاغية) في الفصل الرابع. وحينما نتحدث عن نزار قباني هنا فلا شك أنه ليس إلا طرفا من سلسلة طويلة، وهو إحدى الخلاصات الثقافية للنسق الفحولي، ومن همنا هنا أن نكشف ضمير هذه الثقافة ومستخلصاتها النسقية. ولقد تجلت فحولية نزار عبر خطابه الذاتي الذي يخاطب فيه نفسه أكثر من مخاطبته للآخر، وهي أننا نحن كقراء مسؤولون مسؤولية مباشرة عن ترسيخ هذه الصورة، ومن ثم نحن صناع طواغينا، بما إن النسق الفحولي الشعري هو ذاتي نسق الطاغية الاجتماعي والسياسي، كما قلنا من قبل ونزيد في القول. 2-2-إن الوقوف على سيرة الخطاب النزاري عبر التقاط اقتباسات دالة من مقولاته تكشف لنا عن سياسة الثقافة التي يؤسس لها هذا النوع من الأدب الجماهيري، ولعل ميزته هي علته في الوقت ذاته، إذ إن الجماهيرية مرتبطة بالنوازع النسقية مما يعني أن شعر نزار هو ما سيكشف لنا عن المضمر النسقي للثقافة العربية بوصفه شاهدا عليها وعلينا وعلى نفسه. وها هو يقول عن نفسه بتصديق ذاتي مفرط: "أنا مؤسس أول جمهورية شعرية، وهذه دعوى غير صحيحة طبعا، وليس يهمنا مدى صحتها، ولكن المهم هو حدوث الدعوى بذاتها وانتشاء (الأنا) بجمهوريتها المزعومة وبمواطنيها من النساء مذ كانت الفحولة الشعرية هي المبدأ المحرك لشهوة الإبداع عند الشاعر. ومن حق السيد الشاعر أن يعلن عن غايته من جمهوريته هذه فيقول: "إنني أكتب حتى أتزوج العالم. يبدأ عبر انتهاك عذرية اللغة وفضها من قبل الشاعر الفحل، وذلك لأن الكلمات في اعتقاد الشاعر عذارى وتظل كذلك إلى أن يضاجعها كي تتعهر، وعبر معاشرة الشاعر الفحل لها تتحول اللغة إلى أميرة أو إلى خادمة. بما إنه يجوز له ما لا يجوز لغيره، وهو (الطفل الوحيد الذي يسمح له في المجتمع العربي أن يلعب باللغة). وهذه هي أخطاؤه التي يصفها بالأخطاء الجميلة، ويؤكد ذلك بقوله: "إنها أخطاء جميلة لأنني جين أستعرضها بعد أربعين سنة من ارتكابها أجدها رائعا حقا". إنها عمل مخطط ومبتغى مرتضى ومقصود، وبمعنى آخر هي بعث لعادة (الاستفحال) وهو: "أن يطلق الفحل الجسيم على النساء ليحبلن منه، ولن تكتمل هذه الفحولة إلا بإلغاء الآخر وإعلان وحدانية الذات، وهذا هو الوجه الآخر لصورة الفحل. يقول نزار قباني في ذلك: "إنني لا أقيس نفسي بأحد. هذا هو علقمة الفحل الذي لا يرى أحدا غيره، ولذا كثر تبرم نزار بناقديه وأظهر الامتعاض منهم، وقال إنهم يحسدونه ويغارون منه ومن شعبيته، ولذا فكر بإيجاد (قوة ردع أدبية) تلقي القبض على خصومه بتهمة الزنى بالكلمات والقذف العلني لسيدهم الشاعر/الفحل. والفحل هنا هو الحجة والداعية، فالفحل يضع قوة رادعة ويبتكر التهمة التي قد تكون الخيانة العظمة والعمالة، مثلما هي الزنى بالكلمات والقذف العلني،