والعين باب النفس الشارع، والمُعبِّرة لضمائرها، والمُعربة عن بواطنها، منه:فَلَيْسَ لِعَيْنِي عِنْدَ غَيْرِكَ مَوْقِفٌ كَأَنَّكَ مَا يَحْكُونَ مِنْ حَجَرِ البَهْتِومنها الإقبال بالحديث، فما يكاد يُقبل على سوى محبوبه ولو تعمد غير ذلك، والإنصات لحديثه إذا حدَّث، والشهادة له وإن جار، واتباعُه كيف سلك وأيَّ وجه من وجوه القول تناول.ومنها الإسراعُ بالسيرِ نحو المكان الذي يكون فيه، والتعمُّد للقعود بقُربه والدنو منه، واطِّراح الأشغال الموجبة للزوال عنه، والاستهانةُ بِكل خَطْب جليل داعٍ إلى مفارقته، والتباطؤ في الشيء عند القيام عنه، وفي ذلك أقول شعرًا:وَإِذَا قُمْتُ عَنْكَ لَمْ أَمْشِ إِلَّا مَشْيَ عَانٍ يُقَادُ نَحْوَ الفَنَاءِفِي مَجِيئِي إِلَيْكَ أَحْتَثُّ كَالبَدْ رِ إِذَا كَانَ قَاطِعًا لِلسَّمَاءِوَقِيَامِي إِنْ قُمْتَ كَالأَنْجُمِ العَا لِيَةِ الثَّابِتَاتِ فِي الإِبْطَاءِ أو عند سماع اسمه فجأة، وفي ذلك أقول قطعةً، منها: والمسعي في حظه. فكم بخيل جاد! وقطُوب تطلَّق! وجبان تشجَّع! وغليظ الطبع تطرَّب! وجاهل تأدَّب! وتفِل تزيَّن! وفقير تجمَّل! وذي سن تفتَّى! وناسك تفتَّك! ومصون تبذَّل!وهذه العلامات تكون قبل استعار نار الحب وتأجُّج حريقه، وتوقُّد شعله، واستطارة لهبه. فأما إذا تمكن وأخذ مأخذه، فحينئذٍ ترى الحديث سِرارًا، والإعراض عن كل ما حَضر إلا عن المحبوب جهارًا. ولي أبيات جمعتُ فيها كثيرًا من هذه العلامات، منها:أَهْوَى الحَدِيثَ إِذَا مَا كَانَ يُذْكَرُ لِي فِيهِ وَيَعْبَقُ لِي عَنْ عَنْبَرٍ أَرجِإِنْ قَالَ لَمْ أَسْتَمِعْ مِمَّنْ يُجَالِسُنِي إِلَى سِوَى لَفْظِهِ المُسْتَطْرفِ الغَنِجِفِإِنْ أَقُمْ عَنْهُ مُضْطَرًّا فَإِنِّيَ لَا أَزَالُ مُلْتَفِتًا وَالمَشْيُ مَشْيُ وَجِيأَغُصُّ بِالمَاءِ إِنْ أَذْكُر تَبَاعُدَهُ كَمَنْ تَثَاءَبَ وَسَطَ النَّقْعِ وَالوَهَجِوَإِنْ تَقُلْ مُمْكِنٌ قَصْد السَّمِاءِ أَقُلْ نَعَمْ،ومن علاماته وشواهده الظاهرة لكُل ذي بَصر: الانبساطُ الكثير الزائد، والمجاذبة على الشيء يأخذه أحدهما، والتعمد لمسِّ اليد عند المحادثة،ومنها علامات متضادة، وهي على قدر الدواعي والعوارض الباعثة، والأسباب المحركة، والخواطر المهيجة، والأضداد أنداد، ووقفت في انتهاء حدود اختلافها تشابهت، فهذا الثلج إذا أدمن حبسه في اليد فَعَل فِعْل النار، والغم إذا أفرط قتل، والضحك إذا كثر واشتد أسال الدمع من العينين. وهذا في العالم كثير، فنجد المحبين إذا تكافيا في المحبة وتأكدت بينهما تأكدًا شديدًا أكثر بهما جدُّهما بغير معنًى، وتضادُّهما في القول تعمدًا، وخروجُ بعضهما على بعض في كل يسير من الأمور، وتتبع كلٌّ منهما لفظةً تقع من صاحبه وتأولها على غير معناها.كل هذه تجربة ليبدو ما يعتقده كل واحد منهما في صاحبه. السالم من الأحقاد في الزمن الطويل، وأُهدرت المعاتبة، وسقط الخلاف، وانصرفا في ذلك الحين بعينه إلى المُضاحكة والمداعبة، هكذا في الوقت الواحد مرارًا. فلا يُخالِجْك شكٌّ ولا يدخلنَّك ريبٌ البتةَ، ودونكها تجربةً صحيحةً وخبرةً صادقة: هذا لا يكون إلا عن تكلفٍ في المودة وائتلاف صحيح، وقد رأيتُه كثيرًا.ومن أعلامه أنك تجد المحب يستدعي سماع اسم من يُحب، ويستلذ الكلام في أخباره، ويجعلها هِجِّيراه، فما هو إلا وقت ما تهتاج له مِن ذِكْر من يُحب صار الطعام غُصةً في الحلق، وشجًى في المريء، وفي الحديث، فتستبين الحوالة في منطقه، خفيفُ الحركات، صار مُنطبقًا متثاقلًا حائرَ النفس، جامدَ الحركة، يبرم من الكلمة، ويضجر من السؤال. ونُحول الجسم دون حدٍّ يكون فيه، دليل لا يكذِب ومُخبر لا يخون عن كلمة في النفس كامنة.والسهرُ من أعراض المُحبين، وقد أكثر الشعراء في وصفه، وحكوا أنهم رُعاة الكواكب، وواصفُو طول الليل. وفي ذلك أقول وأذكر كتمان السر، وأنه يتوسَّم بالعلامات:تَعَلَّمَتِ السَّحَائِبُ مِنْ شُئُونِي فَعَمَّتْ بِالحَيَا السَّكْبِ الهَتُونِوَهَذَا اللَّيْلُ فِيكَ غَدَا رَفِيقي بذلك أَمْ عَلَى سَهَري مُعينيفَإِنْ لَمْ يَنْقَضِ الإِظْلَامُ … ألا مَا أَطْبَقَتْ نَوْمًا جُفُونِيفَلَيْسَ إِلَى النَّهَارِ لَنَا سَبِيلٌ وَسُهْدٌ زَائِدٌ فِي كُلِّ حِينِكَأَنَّ نُجُومَهُ وَالغَيْمُ يُخْفِي سَنَاهَا عَنْ مُلَاحَظَةِ العُيُونِفَكَأَنَّهَا وَاللَّيْلُ نِيرَانُ الجَوَى قَدْ أُضْرِمَتْ فِي فِكْرَتِي مِنْ حِنْدِسِوَكَأَنَّنِي أَمْسَيْتُ حَارِسَ رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ وُشِّعَ نَبْتُهَا بِالنَّرْجِسِوالشيء قد يذكر لما يُوجبه: وقع لي في هذه الأبيات تشبيه شيئين بشيئين في بيت واحد، وهو البيت الذي أوله «فكأنها والليل»، وهذا مستغرب في الشعر، ولي ما هو أكملُ منه، وهو تشبيه ثلاثة أشياء في بيت واحد، وتشبيه أربعة أشياء في بيت واحد، وكلاهما في هذه القطعة التي أُوردها، وهي:فَفِي سَاعَةٍ يُبْدِي إِلَيْكَ عَجَائِبًا يُمِرُّ وَيَسْتَحْلِي وَيُدْنِي ويُبْعِدُكَأَنَّ النَّوَى وَالعَتبَ وَالهَجْرَ وَالرِّضَى قِرَانٌ وَأَنْدَادٌ وَنَحْسٌ وَأَسْعَدُرَثَى لِغَرَامِي بَعْدَ طُولِ تَمَنُّعٍ وَأَصْبَحْتُ مَحْسُودًا وَقَدْ كُنْتُ أَحْسُدُنَعِمْنَا عَلَى نُورٍ مِنَ الرَّوْضِ زَاهِرٍ سَقَتْهُ الغَوَادِي فَهْو يُثْنِي وَيَحمدُكَأَنَّ الحَيَا وَالمُزْنَ وَالرَّوْضَ عَاطِرًا دُمُوعٌ وَأَجْفَانٌ وخَدٌّ مُوَرَّدُولا ينكر عليَّ منكر قولي «قران»؛ فأهل المعرفة بالكواكب يُسمُّون التقاء كوكبين في درجة واحدة قرانًا. وهي:فَتَاةٌ عدمْتُ العَيْشَ إِلَّا بِقُرْبِهَا فَهَلْ فِي ابْتِغَاءِ العَيْشِ — وَيْحَكَ — مِنْ حَرَجْفهذا أمر لا مزيدَ فيه ولا يقدر أحدٌ على أكثرَ منه؛ إذ لا يَحتمل العَروضُ ولا بنية الأسماء أكثر من ذلك.ويعرض للمُحبين القلقُ عند أحد أمرين: أحدهما عند رجائه لقاءَ من يُحب فيعرض عند ذلك حائل.خبروإني لأعلم بعضَ مَن كان محبوبُه يَعده الزيارة، فما كنتُ أراه إلا جائيًا وذاهبًا لا يقرُّ به القرار، ولا يثبت في مكان واحد، مقبلًا مدبرًا قد استخفه السرور بعد ركانة، وأشاطه بعد رزانة. ولي في معنى انتظار الزيارة:أَقَمْتُ إِلَى أَنْ جَاءَنِي اللَّيْلُ رَاجِيًا لِقَاءَكَ يَا سُؤْلِي وَيَا غَايَةَ الأَمَلْفَأَيْأَسَنِي الإِظْلَامُ عَنْكَ وَلَمْ أَكُنْ لِأَيْأَسَ يَوْمًا إِنْ بَدَا اللَّيْلُ يَتَّصِلْلأَنَّكَ لَوْ رُمْتَ الزِّيَارَةَ لَمْ يَكُنْ ظَلَامٌ وَدَامَ النُّورُ فينا ولَمْ يَزُلْوالثاني عند حادثٍ يحدُث بينهما من عتاب لا تُدْرَى حقيقته إلا بالوصف، وإما أن يصير القلق حزنًا وأسفًا إن تخوف الهجر.ويعرض للمُحب الاستكانةُ لجفاء المحبوب عليه،ومن أعراضه: الجزع الشديد والحُمرة المقطعة تغلب عندما يرى من إعراض محبوبه عنه ونِفاره منه، وفي ذلك أقول شعرًا، منه:جَمِيلُ الصَّبْرِ مَسْجُونٌ وَدَمْعُ العَيْنِ مَسْفُوحوالبكاء من علامات المحب، ولكن يتفاضلون فيه؛ فمنهم غزير الدمع هامِل الشئون تجيبه عينه وتحضُره عبرته إذا شاء، ومنهم جَمود العين عديم الدَّمع، وأنا منهم. وكان الأصل في ذلك إدماني أكل الكُندر لخفقان القلب، وكان عَرَض لي في الصبا، فإني لأُصابُ بالمصيبة الفادحة فأجد قلبي يتفطَّر ويتقطَّع، وأُحِس في قلبي غُصَّةً أمرَّ من العلقم تَحول بيني وبين توفية الكلام حق مخارجه، وتكاد تشوقني النفس أحيانًا ولا تجيب عيني البتة إلا في الندرة بالشيء اليسير من الدمع.خبرولقد أذكرني هذا الفصل يومًا: ودعت أنا وأبو بكر محمد بن إسحاق صاحبي أبا عامر محمد بن عامر صديقنا — رحمه الله — في سفرته إلى المشرق التي لم نَرَه بعدها، فجعل أبو بكر يبكي عند وداعه ويُنشد متمثِّلًا بهذا البيت:وهو في رثاء يزيد بن عمر بن هَبيرة رحمه الله، فقلت مُجيبًا لأبي بكر:وإِنَّ امرَأً لَمْ يُفْنِ حُسْنَ اصْطِبَارِهِ عَلَيْكَ وَقَدْ فَارَقْتَهُ لَجَلِيدُوفي المذهب الذي عليه الناس أقول من قصيدة قلتُها قبل بلوغ الحُلُم،دَلِيلُ الأَسَى نَارٌ عَلَى القَلْبِ تَلْفَحُ وَدَمْعٌ عَلَى الخَدَّيْنِ يَحْمَى وَيَسْفَحُإِذَا كَتَمَ المَشْغُوفُ سِرَّ ضُلُوعِهِ فَإِنَّ دُمُوعَ العَيْنِ تُبْدي وَتَفْضَحُويعرض في الحُبِّ سوء الظن واتهام كل كلمة من أحدهما وتوجيهها إلى غير وجهها، ومن سوء الظن وُجوهًا. منه:وأَصْلُ عُظْمِ الأُمُورِ أَهْوَنُهَا وَمِنْ صَغِيرِ النَّوَى تَرَى الشَّجَرْوترى المُحب، كثيرَ التحفظ مما لم يكن يتحفَّظ منه قبل ذلك، مزينًا لحركاته ومرامي طرفه، وبُلي بمُعربد.