أي بعد أن يكون قد درس الفلسفة على رجالها وتمكن من العلوم الاجتماعية على أنواعها ومنها علم النفس، يجدر به أن ينسج على منوال علماء الطبيعة مرة أخرى، ثم يمتحن هذا الفرض على ضوء الحقائق بين يديه. فإن أحسن التعليل وتناصرت حقائق الماضي على تأييد فرضه اطمأن عقله وأعلن رأيه. هذه هي طريقة علماء الطبيعة في البحث عن النواميس وما شاكلها من النظريات العامة في علومهم. قال أدوارد لانكستر : إن الطبيعة لا تلبي نداء لطالب بحث من تلقاء نفسها، بل لا بد له من أن يوجه إليها أسئلة معينة محدودة تتضمن الجواب الذي يريده منها . وقال دارون بالمعنى نفسه ما محصله : كانوا يقولون منذ عهد غير بعيد إن على علماء طبقات الأرض أن يشاهدوا ويدونوا ملاحظاتهم دون أن يكون في نفوسهم أي غرض أو فرض . وزعم هكسلي أن تقدم العلوم الطبيعة لم يتأت له أن يصل إلى ما وصل إليه إلا بفضل فرض النظريات سواء أكانت تقوم على اسس متينة أو ضعيفة. فكم من محاولة أدت إلى نقض النظرية من أساسها . فعلماء الطبيعة يبحثون في المادة؛ فعليه إذا أن يبتعد عن الغرض والهوى ويحرر عقله من جميع أنواع المؤثرات . على ما في ظاهره من حق مردود. فنحن لا ننكر أن على العالم أن يكون خالي الهوى والغرض. كما يمحو بالإسفنجة ما يكتب على لوحه الحجري، فالذي يجب على المؤرخ أن ينكره هو ليس الغرض العلمي الذي نبدأ به بحثنا، فقد جرت هذه كثيراً من مؤرخي عصرنا إلى الضلال المبين. فزعم بعضهم أن العوامل الاقتصادية مثلا هي الكل في الكل. وخلاصة ما نريد أن نقوله هنا هو أنه على المؤرخ أن يبدأ باستعراض الحقائق وإدراك كنهها، ثم يكون في نفسه فكرة عنها أو نظرية تخليها من ظواهر هذه الحقائق. وقد يعترض البعض على هذا فيزعمون أن المؤرخ بتبنيه فرضاً خاصاً قد أصبح بحكم هذا التبني ميالاً إليه يعطف عليه عطف الأبوة. وهنا يرد عليهم آخرون في أنه ليس من المحتم أن يكون في نفس المؤرخ فرض واحد، ثم يمضي في عمله حتى يتوصل إلى أحسنها ملائمة للحقائق التي يستعرض . ويبعد عامل العطف الذي تالف في التبني . في أن العقل لا يمكن أن يشغل نفسه في أكثر من فرض واحد في آن واحد، فإنها أساس العلم كما أنها أساس العمران والعالم من يبتعد عن الهوى ويتنزه عن مظان الزور ويخفض للحق جناح الذل والطاعة .