إن الفلاسفة عادة ما يطرحون مذاهب شاملة، تأتي بحلول متحدة الهدف لمختلف المشاكل التي تواجه العقل البشري، فقول أن الفيلسوف هو "صاحب مذهب" قد يلقى اعتراضًا من الفيلسوف نفسه، فالمذاهب بالنسبة للفلاسفة هي تعبير عن نظرة جامدة ومتحجرة تجاه العالم، وفهم ثابت لا يريد أن يتحرك عن الموضع الذي يقف عليه. هكذا كان توجيه نيتشه لحملته تجاه أصحاب المذاهب، وكان أكثر ما يخشاه هو أن يصبح مثلهم صاحب مذهب، فتفنن كل من كتب عنه في كشف مواقف متناقضة له، معللين ذلك بأنهم يريدون الإعلاء من شأنه. كتلك الصورة التي يُصَور بها نيتشه، والتي يتمثل فيها مفكرًا لا يخضع لنظام أو منطق. مذهب يرى أن الوجود أمر منفصل عن المعرفة الحالية التي تعرفه بها الذوات المدركة؛ لأنه لا يستمد من هذا الإدراك، ولا يعبرعن الفكر بشكل شامل، ولأن فيه شيئًا يتجاوز الفكر، لذا فالأخلاق الواقعية ستكون متعلقة بالأرض وتبتعد عن كل تطرف مثالي يربط الأخلاق بعالم آخر بالمعنى المثالي لهذة الفكرة، وهذة أبرز الصفات الأخلاقية عند نيتشه. ترتبط كلمة الوضعية باسم أوجست كونت، والتي استخدمت للتعبير عن آراء طائفة خاصة من المفكرين، تأثروا بالتقدم الكبير الذي أحرزه المنطق والرياضة، فلجأوا لتوحيد الأسس بينهما، بحيث تكون دعامة لتحليل فلسفي يقضي على المشاكل الميتافيزيقية من جذورها. وتشترك الوضعية المنطقية الحالية مع أوجست في كونها تستلهم العلم في كل مراحلها، فتتأثر في بدايتها بالتقدم الذي تحرزة علوم معينة، وتحاول اصطناع مناهجها وتعميمها على التفكير الفلسفي. أثر التقدم العلمي على نيتشه تأثيرًا كبيرًا، حتى أن إحدى فترات تفكيره الفلسفي سميت "بالفترة الوضعية". يتشرك نيتشه في الحملة على العقل الخالص ورَدِّه إلى المقتضيات الحيوية للإنسان، بينما نادى فلاسفة معينون بأن العقل خاضع لحاجاتنا النفعية، ويجب إخلاء مساحة لمشاعرنا الباطنة، وللمُثل الأخلاقية، والعقائد الدينية. والواقع من نقد الأسس البرجماتية القديمة، يكاد يكون ترديدًا مباشرًا لآراء سبق ظهورها لدى نيتشه؛ فنقد فكرة الجوهر القديمة، وإخضاع القيم للوجود، كلها تمثل عاملًا مشتركًا بين الطرفين. تحمل نظرية الحقيقة لنيتشه تشابهًا كبيرًا مع النظرية البرجماتية، فتحمس نيتشه في الدفاع عن الحقيقة النسبية، وأن الحقيقة هي ما ينفع الحياة، هنا يتبين مدى التشابه بين نيتشه والمذهب البرجماتي. اتصف تفكير وأسلوب نيتشه بالمرونة الكبيرة، فحرص الكثير من الفلاسفة على أن ينسبوا تفكيره لمذاهبهم، لأنه سيعينهم في دعواهم إلى حد بعيد؛ إذ تقبل كتاباته عدة تفسيرات، وتستطيع المذاهب الأخرى جذبه إليها. ولا شك أن الإرتباط الوثيق بين حياتة وتفكيره، يقرب بينه وبين الوجوديين. ويتم هذا الارتباط عن طريق إثراء الفكر وبعث الحياة فيه، على عكس إمتلاء الحياة واستخلاص الفكر منها. يتولد فهم نيتشه للوجودية من خلال فهمهِ للانسان، من خلال تأكيد تجدد الوجود الإنساني.