فمن ذلك أنك تجد كثيرا ممن يتكلم في شأن البلاغة إذا ذكر أن للعرب الفضل والمزية في حسن النظم والتأليف، وأن لها في ذلك شأوا لا يبلغه الدخلاء في كلامهم والمولدون، جعل يعلل ذلك بأن يقول : " لا غرو فإن اللغة لها بالطبع ولنا بالتكلف " ولن يبلغ الدخيل في اللغات والألسنة مبلغ من نشأ عليها وبدئ من أول خلقه بها . وأشباه هذا مما يوهم أن المزية أتتها من جانب العلم باللغة. وهو خطأ عظيم وغلط منكر يفضي بقائله إلى رفع الإعجاز من حيث لا يعلم. وذلك أنه لا يثبت إعجاز حتى تثبت مزايا تفوق علوم البشر، وتقصر قوى نظرهم عنها، ومعلومات ليس في منن أفكارهم وخواطرهم أن تفضي بهم إليها، لأنه يؤدي إلى أن يحدث في دلائل اللغة ما لم يتواضع عليه أهل اللغة ، وذلك ما لا يخفى امتناعه على عاقل .287- واعلم أنا لم نوجب المزية من أجل العلم بأنفس الفروق والوجوه فنستند إلى اللغة، ولكنا أوجبناها للعلم بمواضعها، ص: 250 ]فليس الفضل للعلم بأن " الواو " للجمع و " الفاء " للتعقيب بغير تراخ و " ثم " له بشرط التراخي . و " إن " لكذا و " إذا " لكذا . وأن تعرف لكل من ذلك موضعه.288- وأمر آخر إذا تأمله الإنسان أنف من حكاية هذا القول فضلا عن اعتقاده، وهو أن المزية لو كانت تجب من أجل اللغة والعلم بأوضاعها وما أراده الواضع فيها، لكان ينبغي أن لا تجب إلا بمثل الفرق بين " الفاء " و " ثم " و " إن " و " إذا " وما أشبه ذلك، مما يعبر عنه وضع لغوي ، وبالحذف والتكرار، والمعنى الذي تقصد، وكان ينبغي أن لا تجب المزية بما يبتدئه الشاعر والخطيب في كلامه من استعارة اللفظ لشيء لم يستعر له، وأن لا تكون الفضيلة إلا في استعارة قد تعورفت في كلام العرب، وكفى بذلك جهلا. من هذه التي نحن بصددها، ومن هو مهيأ لفهم تلك الإشارات ، حتى كأن تلك الطباع اللطيفة وتلك القرائح والأذهان، قد تواضعت فيما بينها على ما سبيله سيبل الترجمة يتواطأ عليها قوم فلا تعدوهم ولا يعرفها من ليس منهم .كلام الجاحظ في شأن إعجاز القرآن290- وليت شعري من أين لمن لم يتعب في هذا الشأن، ولم يمارسه ولم يوفر عنايته عليه، أن ينظر إلى قول الجاحظ وهو يذكر إعجاز القرآن : والمعاني المنتخبة، والمخارج السهلة، وعلى السبك الجيد، وعلى كل كلام له ماء ورونق " وقوله في بيت الحطيئة :متى تأته تعشو إلى ضوء ناره تجد خير نار عندها خير موقد" وما كان ينبغي أن يمدح بهذا البيت إلا من هو خير أهل الأرض . على أني لم أعجب بمعناه أكثر من عجبي بلفظه، ونحته، وسبكه فيفهم منه شيئا أو يقف للطابع والنظام والنحت والسبك والمخارج السهلة، على معنى أو يحلى منه بشيء .291- واعلم أن الداء الدوي، والذي أعيا أمره في هذا الباب غلط من قدم الشعر بمعناه، وأقل الاحتفال باللفظ، واشتمل على تشبيه غريب ومعنى نادر ، ورأى أن ينحله بعض الفضيلة، لم يعرف غير " الاستعارة " ثم لا ينظر في حال تلك " الاستعارة " : أحسنت بمجرد كونها استعارة، وبأن يكون كمن يجلب المتاع للبيع، يرى أنه إذا تكلم في الأخذ والسرقة،