تلك المعجزة العقائديَّة التي اختص بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصاغها المولى بكلمات مجلجلة في آذان وقلوب المؤمنين إلى يوم الساعة: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1]. وصارت هذه الوثيقة آية تتلى في اليوم والليلة مُذَكِّرة المسلمين بمسؤوليتهم تجاه الأقصى وما حوله فقد أسري برسول الله - صَلَّى الله عليه وسَلَّم - ليلاً منَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في بيت المقدس قبل الهجرة بعام، ومن بيتِ المقدس صَعِدَ النَّبي - عليه السلام - إلى السَّماء فكان المعراج. وقد ربطتِ الرسالة المُحَمَّدية بين مكانة كلٍّ منَ المسجد الحرام بمكة المكرمة ومسجد النبوي بالمدينة المنورة والمسجد الأقصى بالقُدس المشرفة، كما ورد عن أبي الدَّرداء مرفوعًا: ((الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة, والصلاة في بيت المقدس بخمس مائة صلاة)). الفاروق ومقاليد بيت المَقْدس وما أن أدرَكَ واستوعَبَ المسلمون أهميَّة هذه المكانة الدِّينيَّة الرَّفيعة للمسجد الأقصى وبيت المقدس وعلاقتهما الوثيقة بالعقيدة الإسلاميَّة، حتى بدؤوا بأسلمتهما ماديًّا وسياسيًّا. وقد جاءت هذه الوثيقة لتمثّل الارتباط السياسي وحق الشَّرعيَّة الإسلاميَّة بالقدس وبفِلَسطين. وبعد تسلمه مفاتيح مدينة القُدس من بطريرك الروم صفرنيوس، وأقام يزيد بن أبي سفيان واليًا، وعيَّن عبادة بن الصامت قاضيًا فيها وعلى جند فلسطين. الأُمَوِيُّون وتَأَلُّق عمارة الأقصى وكما كان للخليفة عمر بن الخطاب والخلفاء الراشدين من بعده الفضل في فتح بيت المقدس وأسلمة المسجد الأقصى فعليًّا، حيث نفذ مشروع التعمير هذا في عهدي الخليفة عبدالملك بن مروان وابنه الخليفة الوليد، وبناء المسجد الأقصى ودار الإمارة والأبواب ومعالم أخرى عديدة - اندثرت جراء الهزَّات الأرضيَّة العنيفة التي حدثت في بيت المقدس وفِلَسطين - في عهد الخليفة الوليد. والتي تَمَثَّلَت بعمارة الكنائس وبخاصَّة كنيسة القيامة في القُدس وكنيسة المهد في بيت لحم. كما جاء في "تاريخ ابن الأثير" أنَّ الخلفاء العباسيينَ حافظوا قدر استطاعتهم على عمارة المسجد الأقصى المبارك؛ الأيوبيون يستعيدون المسجد الأقصى عاد الطَّابَع المعماري للمسجد الأقصى المبارَك في الفترة الأيوبية بعد تحريره وتطهيره من الصليبيينَ الذين عَبِثوا به وغَيَّروا بعض ملامحه، فقد آلى القائد المُلهَم صلاح الدين الأيوبي على نفسه ألا يبتسم حتى يحرر بيت المقدس من سيطرة الصَّليبيين، وتَمَّ فتح بيت المقدس في 27 رجب من عام 583هـ (2 أكتوبر 1187م) بعد استعمار صليبي دام 88 عامًا؛ وبذلك كانت النقلة الأولى في نموه وتطوّره المعماري. حيث على أيديهم كانت النَّقلة الثانية في نموه وتطوره المعماري، وبها اكتملت صورة الحرم الشريف المعمارية التي تعكس إسلامية المسجد الأقصى المبارك عبر العصور، حيث قاموا بإنشاء أروقة الحرم الشريف والمدارس الدينية التي اكتنفتها ومآذنه وأبوابه، حتى إنَّ الخليفة الفاروق عُمَر قام بتكليف بعض الصَّحابة الذين قدموا معه عند الفتح، بالإقامة في بيت المقدس والعمل بالتعليم في المسجد الأقصى المبارك إلى جانب وظائفهم الإدارية التي أقامهم عليها. فكان من هؤلاء الصحابة عبادة بن الصامت (توفي عام 34هـ) أول قاض في فِلَسطين، وشداد بن أوس (توفي عام 58 هـ)، فكان منهم مقاتل بن سليمان المفسر (توفي عام 150هـ)، والإمام الأوزاعي عبدالرحمن بن عمرو فقيه أهل الشام (توفي عام 157هـ)، والإمام الليث بن سعد عالم مصر (توفي عام 175هـ)، والإمام محمد بن إدريس الشافعي أحد الأئمة الأربعة (توفي عام 204هـ). الأمر الذي يؤكد المكانة الرفيعة التي يتمتع بها المسجد المبارك عند المسلمين. وبعد تحرير صلاح الدين لبيت المقدس عادت الحياة العلمية والدينية في المسجد الأقصى بعدما انقطعت ما يقارب قرنًا من الزمن إثر الاحتلال الصليبي له. لقد ابتليتِ الأمة الإسلامية بهيمنة الاستعمار الغربي بعد سقوط الخلافة الإسلامية عام 1924م فكانت الأردن وفِلَسطين ومصر من نصيب المستعمر البريطاني الذي عمد إلى منح اليهود وعد بلفور عام 1917م بتمكينهم من احتلال فِلَسطين، وقد كان لهم ماخَطَّطوا بإقامة الدولة العبرية عام 1948م على أرض المسلمين المباركة وابتلعوا القدس الشريفة. فكان الحريق الإجرامي الشهير الذي وقع للمسجد عام 1967م، وقبله وبعده العديد من الاختراقات التي قام بها متطرّفون صهاينة في حماية سلطات الاحتلال، وكل عام تدعو جماعة أبناء الهيكل إلى اقتِحام المسجد والتمهيد لإقامة الهيكل، وربما يعد التهديد الأخطر الذي يتعرض له هذه الحفريات المستمرة تحت الأقصى بزعم البحث عن الهيكل نفسه.